Tuesday 11th January, 2000 G No. 9966جريدة الجزيرة الثلاثاء 5 ,شوال 1420 العدد 9966



في ذكرى فتح الرياض وبدء مسيرة تأسيس أعظم وحدة في التاريخ الحديث
الملك عبدالعزيز حقق الأمن والأمان في جميع أرجاء البلاد بتطبيق شريعة الإسلام
اهتم بقضية المسلمين في فلسطين وكان يرى أن أي معاهدة تنافي تعاليم الإسلام باطلة
كان الملك عبدالعزيز ملتزماً بالشريعة الإسلامية في نفسه وشخصيته واستطاع أن يختم القرآن الكريم قبل أن يتجاوز الحادية عشرة من عمره

أ,د, محمد بن عبدالله السلمان *
في الذكرى الأولى بعد المائة لدخول المؤسس الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه الرياض فاتحاً منتصراً يطيب لكل واحد منا من أبناء الوطن ويحلو له الحديث عن هذا المؤسس العظيم بحيث تكون هذه الذكرى التي تصادف الخامس من شهر شوال محطة توقف نستعيد فيها جزءاً من تاريخ ذلك البطل الذي نذر نفسه لخدمة وطنه وأمته حتى تحقق على يديه النصر المؤزر الذي انتهى باعلان أعظم وحدة عربية في التاريخ الحديث.
وعندما نتحدث عن شخصية البطل عبدالعزيز رحمه الله لابد ان تكون البداية بالحديث عن شخصيته الاسلامية والتزامه بشريعة الإسلام منهجاً وأسلوباً وعملاً,.
فقد كانت الشريعة له نبراساً منذ صغره، حيث ذكرت بعض الكتب المترجمة عنه رحمه الله ان دراسته للقرآن الكريم بدأت منذ السنة الخامسة من عمره وانه تمكن من ختم القرآن في عامه الحادي عشر وذلك على يد معلمه الأول الشيخ عبدالله الخرجي وكذلك الشيخ محمد بن مصيبيح ثم الشيخ عبدالله بن عبداللطيف آل الشيخ المتوفى عام 1339ه الذي توسع في قراءة بعض الكتب الشرعية عليه حتى أن الشيخ وضع لتلميذه عبدالعزيز آل سعود كراسة أشبه بكتاب فيه ملخص لأبحاث في التفسير والحديث والتوحيد والفقه.
بل قال الشيخ سليمان بن سحمان: علمت من الملك عبدالعزيز انه يحفظ أجزاء من القرآن الكريم ويحفظ الرحبية في الفرائض وتعلم زاد المعاد في الفقه ويحفظ من كتب الأحاديث الأربعين النووية وبلوغ المرام،
وكان يحب قراءة البداية والنهاية لابن كثير وتاريخ الرسل والملوك للطبري والسيرة لابن هشام والمغني والشرح الكبير والانصاف وتفسير ابن كثير والبغوي وكان يحب من الشعر ما تميز بالطابع الإسلامي والنصائح ، ورجل هذه نشأته في صغره لا نعجب بالتزامه وتدينه في نفسه وشخصه حتى اعتبر بعض الباحثين هذا الجانب أهم أعمدة حكمة لمملكته وأهم العوامل التي ساعدت على نجاحه في توحيد البلاد مع وجود أعمدة وعوامل أخرى من الكرم والعفو وقدرته على الكتمان والسرية والشجاعة بجانب قوة الارادة وقوة الشخصية والنزاهة والعدل مع قوة العقل والذاكرة اضافة إلى حبه للمشورة وحسن اختياره للرجال وعمق معرفته بقومه وكان الملك عبدالعزيز حتى في حروبه يسير بهذا الالتزام ويحاول جاهداً عدم مخالفة جنوده لتعاليم الاسلام في معاملتهم لأهل البلد المحاربين له، ومن ذلك توصيته لجنوده بهذا الجانب قبيل دخول بريدة بعد عام 1322ه إننا هاجمون على البلد فاحذروا ان تؤذوا من لا يعترضكم أو تسيئوا إليهم بشيء, حاربوا من حاربكم وسالموا من سالمكم، أما البيوت فلا تدخلوها والحريم لا يعتدى عليهن ومن يعتدي عليهن يعتدى عليه , ومن ذلك أيضاً توصيته لجنوده بما يشبه ذلك قبل دخوله مكة، وكذلك كبحه جماح قادته من الاخوان ومنعهم من القسوة مع أهل البلد المفتوح ولهذا نراه يجعل ابنه الأمير محمد بن عبدالعزيز هو المستلم للمدينة المنورة من أهلها عام 1344ه بدل قائده المشهور فيصل الدويش قائد جنده هناك وذلك استجابة لطلب أهل المدينة، وكانت السمة الدينية الاسلامية معروفة عن الملك عبدالعزيز حتى لدى غير المسلمين من المستشرقين ومن هؤلاء الثري الأمريكي تشارلز كراين الذي يصف الملك عبدالعزيز بأنه شخصية اسلامية كبيرة يعمل من أجل دينه وعقيدته, وكان الملك عبدالعزيز يقوم بأعمال لا يقوم بها إلا من يوصف بالصلاح والتقوى والاستقامة فهو مثلاً يقوم كل ليلة في الثلث الأخير من الليل يصلي ويتلو القرآن وكان ملازماً لقراءة القرآن وتفسيره وفي بعض الأحيان يقرأ في السيرة النبوية لمدة تصل إلى نصف ساعة كل يوم وكان يبدأ مجالسه الخاصة والعامة بتلاوة آية من القرآن وتفسيرها كما يخصص لنفسه قراءة ما ورد من الكتب الإسلامية المشتملة على أسماء الله الحسنى ولم يتغير عن هذا الأسلوب بل انه كلما وسع مملكته كلما زاد خدمة لعقيدته.
وكان مهتماً بأداء الصلاة المفروضة جماعة في وقتها حتى في مباحثاته السياسية مع الأوروبيين كان يتوقف لأداء الصلاة وكان عنده قوة ايمان بالله واعتماد عليه والتجاء إليه في الشدائد فقد عرف عنه أنه لا ينتهي من معركة إلا فزع إلى الله مصلياً إليه شاكراً وباكياً، وقد روي عن ذلك شهود عيان وكان يكره قتل المسلم عموماً إلا مضطراً وحينما أخبره بعض الحاضرين عنده من الأشراف بمقتل الأمير عبدالله بن الحسين ملك الأردن عام 1370ه غضب وقال أتبشرني بمقتل مسلم؟ , وكان يكره الغيبة في مجلسه ويمنع المغتاب من حضور مجلسه مرة أخرى، وكان يحب أخذ الحق من الظالم ولو كان الظالم أحد أبنائه ومن أمثله ذلك اعتداء أحد أبنائه على أحد رجال البادية وشكوى ذلك الرجل للملك عبدالعزيز وهو لا يعلم بأن ظالمه أحد أبناء الملك فلما تبين له أعلن سماحه ولكن الملك عبدالعزيز لم يرض بذلك بل سجن ابنه فترة وقال هذا للحق العام وكان صاحب قيام ليل ولا تفوته صلاة الفجر مع الجماعة وكان يتفقد أولاده في الصلاة وحينما تخلف أحد أبنائه من صلاة الجمعة أمر بسجنه هو وخدمه فترة من الوقت وهذا من حرصه على تربية أولاده تربية صالحة ولهذا نجده يهتم بتدريس أولاده القرآن الكريم وحينما انتهى ابنه الأمير مشاري من قراءته كاملاً على اساتذته اقام حفلة كبيرة احتفاء بهذه المناسبة وذلك عام 1356ه وعرف عنه تفقده جماعة المسجد الذي يصلي فيه خاصة صلاة الفجر ويركز فيه على أولاده وخدمة وكان يبعد من خدمته المتهاون بالصلاة ويروي عبدالحميد الخطيب في كتابه الإمام العادل انه زار مدرسة الأمراء في الرياض عام 1355 ه فوجد أحد أبناء الملك عبدالعزيز الصغار يبكي فسأله مدير المدرسة عن سبب بكائه فقال ان أخاه ادخله والده السجن لأنه لم يصل الصبح مع الجماعة, وبعد ان أنعم الله تعالى على هذه البلاد باكتشاف البترول كان أول كلمة قالها بعد أن بشر بأول بئر مكتشفة في المملكة عام 1357ه بأن سأل الله تعالى أن يجعل في ذلك الخير والبركة للبلاد وأهله في دينهم ودنياهم وكان متواضعاً في كثير من المواقف حتى إنه حينما زار الكويت عام 1354ه عرف وجود احد أساتذته الذين درس عليهم في الكويت فقام بزيارته تكريماً له ومنحه 300 روبية ويروي الزركلي عن محمد سرور الصبان قوله: أخبرني أحد ضباط القصر الملكي قال: رأيت الملك عبدالعزيز في الهزيع الأخير من الليل عند صلاة الفجر يتمسك بأستار الكعبة ويدعو الله قائلاً: اللهم ان كان هذا الملك خيراً لي وللمسلمين فأبقه لي ولأولادي وان كان فيه شر لي وللمسلمين فانزعه مني ومن أولادي .
وهذا الدعاء لم يأت إلا من مخافة الملك عبدالعزيز لله تعالى ومن تمسكه بأمور دينه ومن عطفه ورحمته برعيته وعدله وتدينه واستقامته ولهذا يروى انه في اجتماعه المشهور مع الملك فيصل بن الحسين ملك العراق عام 1348ه اشترط الملك ألا يحضر مجلسا تعزف فيه موسيقى أو يشرب فيه دخان وهو مع ذلك التدين والاستقامة عرف عنه الصبر وقوة التحمل والجلد وتروى عنه قصص عديدة في ذلك ولعل من أشهرها قصته مع طبيبه رشاد فرعون الذي أراد اخراج رصاصة من بطنه في احدى المعارك فأراد الطبيب استعمال المخدر المعروف باسم البنج لتسكين الألم فما كان من الملك عبدالعزيز إلا أن ضحك وأخذ المبضع من الطبيب وشق جلد بطنه وأخرج الرصاصتين ثم طلب من الطبيب خياطة الجرح.
شخصيته الإسلامية في أفعاله
وجوانب شخصيته الاسلامية كثيرة ومتعددة فالملك عبدالعزيز بعيد عن الاقليمية والقومية فقد كان يفتح بلاده لكل عربي ومسلم بل لقد وصل بعض رجاله ممن لم يأخذ الجنسية السعودية إلى ان يكون سفيراً للمملكة في بلد آخر ومع اهتمام الملك عبدالعزيز بالأعراف الدبلوماسية العالمية إلا أنه يرى بأن أي شرط في أي معاهدة ينافي تعاليم الاسلام فهو باطل وكذلك اذا كان هذا العرف الدبلوماسي ينافي الشيم العربية ولهذا نراه يمتنع عن تسليم بعض اللاجئين السياسيين إليه مع مخالفة ذلك لبعض الاتفاقيات والمعاهدات ومن ذلك رفض تسليم رشيد عالي الكيلاني لبريطانيا في العراق, وكان الملك عبدالعزيز يحرص على أن يسير على سيرة أسلافه من آل سعود ما دام انها توافق شرع الله ومن ذلك موافقته على ما جاز في وثيقة كتبها الإمام سعود بن عبدالعزيز لكبار أهل نجران فأقرها الملك عبدالعزيز وأجاز لهم جميع ما جاء فيها وكانت مؤرخة عام 1223ه, وكان الملك عبدالعزيز مهتماً بتطبيق شعائر الإسلام وعلى رأسها الصلاة ولهذا نجده لا ينساها حتى في أقسى ساعات حروبه وأحرجها كما في ليلة استرداد الرياض في 5 شوال عام 1319ه حيث يذكر في روايته عن تلك الليلة بقوله: نمنا قليلاً ثم صلينا الصبح وجلسنا نفكر ماذا نعمل , وحينما دخل الحجاز عام 1344ه كان من ضمن ما اهتم به تنظيم المحاكم الشرعية تنظيماً يوافق تعاليم الشريعة الاسلامية فصدر مرسوم ملكي لهذا الغرض في 4 صفر عام 1346 وقسم المحاكم الى ثلاثة أنواع محاكم مستعجلة ومحاكم شرعية عادية وهيئة مراقبة قضائية للاشراف على المحاكم الشرعية، ومع ذلك بقي قسم كبير من أقاليم المملكة يأخذ بطرق القضاء السابقة من حيث البساطة والبعد عن التعقيد والروتين ويسير القاضي في قضائه بمنتهى البساطة ومع ذلك فالمحاكم في كافة أقاليم المملكة تحكم بشريعة الله على مذهب الإمام أحمد مع الاستفادة من بعض آراء شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم, وكان لهذا الاتجاه في القضاء الاثر الكبير في استتباب الأمن في ربوع المملكة، والواقع ان الملك عبدالعزيز لم يكن يعتمد في تقرير الأمن في بلاده على قوة أجهزته الأمنية ولكنه كان يعتمد رغم صرامته في تطبيق الشريعة الإسلامية ومنها العقوبات من الحدود والقصاص والتي كانت تطبق بكل دقة بعد استيفاء شروطها وتصديق كثير من القضاة عليها ولا تنفذ إلا بعد تصديق الملك عبدالعزيز عليها بنفسه، وهناك عدد كثير من القصص عن قدرة الملك عبدالعزيز على حفظ الأمن في بلاده بسبب هذه السياسة, ولهذا كان المجرم يقبض بعد وقت قصير من ارتكاب جريمته دون عناء ولعل في قصة امساك احد خدم الملك عبدالعزيز بقاتلين في تثليث في المنطقة الجنوبية واقتيادهما على بعير واحد الى الرياض هذه المسافة الطويلة دلالة واضحة على ما نقول.
وكان الملك عبدالعزيزقدأصدر أمره بجعل القضاء على المفتى به من مذهب الإمام أحمد بن حنبل معللاً ذلك بسهولة مراجعة كتبه والتزام المؤلفين على مذهبه بذكر الأدلة كما تضمن القرار امكانية الرجوع إلى المذاهب الأخرى المعتبرة اذا رؤي في تطبيق مذهب الإمام مشقة أو مخالفة للمصلحة العامة وكانت هذه السياسة من أسباب الوحدة الفكرية في البلاد, ومن أجل حفظ الأمن في البلاد كان للملك عبدالعزيز سياسة داخلية مع رؤساء قبائل البادية فقد الزم شيخ كل قبيلة باحضار مرتكبي الجرائم في قبيلته فإن لم يجده انتقلت المسؤولية إلى القبيلة المجاورة للبحث عنه فإن لم يوجد تدخل الجيش نفسه بالبحث عن الجاني ليأخذ عقابه حسب الشرع الاسلامي وحينما دخل الملك عبدالعزيز الحجاز جمع رؤساء القبائل فيها وطمأنهم على مرتباتهم وعوائدهم لكنه اشترط عليهم ان يكونوا قادرين على حفظ الأمن في أراضيهم أو يتركوا الزعامة لغيرهم ان كانوا غير قادرين وطلب معاهدتهم إياه على ذلك وبعد ذلك أخذت الحكومة تشتد على رؤساء القبائل المخالفين لذلك فانتشر الأمن في ربوع المنطقة حاضرتها وباديتها, وكان الملك عبدالعزيز في مقابل ذلك حريصاً على أن تصل إليه شكوى المظلوم في أي منطقة من بلاده الواسعة ولهذا نجده يخرج بلاغاً عاماً للشعب بان من عليه مظلمة من أي شخص كان فليرسلها على حسابنا برقياً وحذر أي موظف حكومي من التدخل في أسلوب البرقية أو تأخير رفعها إليه ومن ثم تأخذ القضية مجراها في التحقيق والفاصل في ذلك هي المحاكم الشرعية وهذا يدل على حزم الملك عبدالعزيز وكرهه للظلم لرعيته, وهو مع ذلك كله كان يوصف بانه في حكمه كان بين السماحة والصرامة حسب الأحوال والظروف لكل قضية أو مشكلة تعرض عليه.
عقد أول مؤتمر إسلامي
وللملك جهود واعمال في سبيل جمع كلمة المسلمين فقد كان يبدي اهتماماً بأمر العرب والمسلمين في البلاد المستعمرة عموماً وكان هو صاحب فكرة عقد أول مؤتمر اسلامي في مكة عام 1344ه حيث دعا إلى هذا المؤتمر للتشاور في أمور تهم المسلمين ومنها ما يخص خدمة الحجاج في مكة والمدينة ومع الضائقة المالية التي كانت تعاني منها الدولة حينذاك قبل اكتشاف البترول إلا أنه استضاف المؤتمرين على نفقته وعقد مرتين الأولى في موسم حج عام 1344ه والثانية في موسم حج عام 1345ه وخرج بتوصيات وتمنيات متعددة المنافع, وفي أمر اقامة الحدودالشرعية وحينما يصدر الحكم الشرعي كان الملك عبدالعزيز يحرص على المصادقة عليه وتنفيذه بأقصى سرعة ومن أمثله ذلك القصة التي رواها فيلبي عن الثلاثة الشباب في مكة الذين فعلوا الفاحشة في شاب آخر بعد شربهم للخمر ثم قتلوه فقتلوا بعد ثمانية أيام فقط من الامساك بهم واعترافهم وذلك بعد عرضهم على المحكمة الشرعية واستيفاء شروط قتلهم وكان ذلك في السنوات الأولى لضم الحجاز مما كان لهذا العمل ولأمثاله الأثر الكبير في استتباب الأمن والقضاء على المفسدين, والملك عبدالعزيز أحس بعد ضم الحجاز بأن المملكة أصبح لها أهمية اسلامية كبيرة وانها تحوي الأماكن الاسلامية المقدسة في مكة والمدينة فاهتم بتطوير عملية اداء المسلمين لفريضة الحج بيسر وسهولة حسب الامكانيات المتاحة وأعطى لهذا العامل الأسبقية الأولى في جميع الخطط والمشروعات التطويرية فأنشأ مديرية خاصة بالحج وجعل لها ميزانية خاصة كما قام بالغاء رسوم الحجاج عام 1371ه فكان لذلك صداه في العالم الاسلامي حيث أشادت الصحف في العالم الاسلامي به كما قام بانشاء مصنع كسوة الكعبة عام 1346ه حيث تم صناعة أول كسوة سعودية للكعبة في ذلك العام بعد أن كانت تأتي من خارج البلاد من المحمل المصري فمنع الملك عبدالعزيز مجيء المحمل بعد حج عام 1344ه وما حصل فيه من هياج الاخوان لما رأوا المحمل القادم مع الحج المصري حيث رأوا جملاً يتهادى بين الجموع تحيط به موسيقاه وعساكره ودبدباته فتصايحوا الصنم، الصنم وكان ذلك في منى في يوم 10 من ذي الحجة عام 1344ه وكاد ينشب القتال بين الجانبين لولا أن الملك عبدالعزيز خرج من مخيمه وتوسط بين الجموع وصاح بهم فانفك الناس وأمر بحجز المحمل عن الأنظار وأصدر أمراً بمنع مجيء المحمل الى الحج مرة أخرى فكان رد الملك فؤاد ملك مصر ان منع ارسال كسوة الكعبة وأوقاف الحرمين فصار ذلك سبباً في تحمس الملك عبدالعزيز بانشاء مصنع لكسوة الكعبة بمكة وتم ذلك سريعاً وبقيت العلاقات متكدرة بين مصر والمملكة بسبب ذلك حتى وفاة الملك فؤاد وتولى ابنه الملك فاروق عام 1355ه فتحسنت العلاقات مع بقاء منع المحمل المصري من المجيء للحج لأنه بدعة محدثة في الدين ولم تكن موجودة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ولا الخلفاء الراشدين ولا الدولتين الأموية والعباسية وانما استحدثت بعد ذلك وقد سبق ان منع مجيء المحمل الامام سعود الكبير عام 1221ه بل أمر باحراقه ذلك العام في مكة, واستمر الملك عبدالعزيز يبذل ما لديه من المال في تطوير مشاعر الحج وزاد هذا الانفاق بعد اكتشاف البترول وتوفر السيولة المالية لدى المملكة حتى بلغت المشاريع المنفذة والمتصلة بخدمة الحجاج من عام 1372ه الى عام 1374ه 65 مشروعاً وذلك في مكة ومنى ومزدلفة وعرفات والمدينة وجدة من كهرباء وتعبيد طرق وجلب مياه وانشاء مستشفيات ومستوصفات وحفر آبار مياه وبناء مساجد ومحاجر صحية ودورات مياه واذا كانت هذه جهوده في مجال خدمات الحجاج فإن له جهوداً في اجتماع كلمة علماء الحجاز ونجد على كلمة التوحيد حيث اتفقوا على عقيدة التوحيد وكتبوا في ذلك كتاباً وبياناً مفيداً في بابه, بل ان الملك عبدالعزيز استطاع بعقده المؤتمر الاسلامي الأول ان يجمع كلمة كثير من علماء المسلمين الذين حضروا المؤتمر وغيرهم على عقيدة التوحيد التي نادى بها الشيخ محمد بن عبدالوهاب يرحمه الله في دعوته، وحينما أدخل الملك عبدالعزيز بعض وسائل الحضارة إلى بلاده كان مسترشداً باحكام الشرع وبفتوى العلماء فالاسلام لا يقف حجر عثرة أمام كل ما ينفع من وسائل الحضارة وقد واجه الملك عبدالعزيز شدة من الاخوان في هذا السبيل وخاصة بعد دخوله الحجاز وظهور وسائل الحضارة أمامهم مثل التلغراف والهاتف ولكن الملك عبدالعزيز عالج شدتهم في تلك الفترة بشيء من سعة البال ملتمساً لهم العذر بسبب جهلهم وحاول ابعاد الاخوان عن داخل المدن في الحجاز خاصة مكة والمدينة وجدة واشغلهم في مهمات عسكرية أخرى في شمال الحجاز وغيره.
بره بوالديه
وقد جعل المؤسس رحمه الله أول الميزان الموافق 22 سبتمبر من كل عام يوماً وطنياً للمملكة وليس عيداً لأنه ليس في الاسلام الا عيدان في العام عيد الفطر وعيد الأضحى, ومن التعليمات المتصلة بذلك عدم تنكيس الاعلام لموت أحد من زعماء الدول وانما تقدم لهم التعازي برقياً اضافة إلى ضرورة تقيد الوافدين لهذه البلاد باحترام شعائر الاسلام وعدم اظهارهم المنكر، وفي آخر حياة الملك عبدالعزيز علم بادخال بعض الهيئات الدبلوماسية للخمر الى البلاد فتألم من ذلك كثيراً وأصدر أمراً بمنع دخول الخمر الى البلاد بأية صفة كانت، ولا يفوتني ان أتطرق لبر الوالدين عند الملك عبدالعزيز ويكفي ان الله تعالى جعل حقوق الوالدين بعد حقه مباشرة فقال تعالى: واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين احسانا ، كما جاءت احاديث نبوية كثيرة في الحث على بر الوالدين وما فيه من الثواب الجزيل في الدنيا والآخرة والوعيد الشديد لمن خالف ذلك بالاضافة إلى ان التاريخ مليء بالقصص والروايات عن بر الوالدين منذ عهد الرسول بل الأنبياء عليهم السلام الى وقتنا الحاضر ولعل أقرب مثال خطر ببالي في هذا الوقت شدة بر الملك عبدالعزيز بوالده الامام عبدالرحمن بن فيصل حتى انه لما شاهد والده قد تعب وهو يطوف حول الكعبة في حج عام 1344ه حمله على كتفه ولم يأمر بذلك أي خادم أو جندي وأتم به الطواف أمام أعين الناس.
الصبغة الإسلامية في رسائله
ولقد تبوأت المملكة منذ عهد الملك عبدالعزيز مركزاً اسلامياً رفيعاً بسبب وجود الحرمين الشريفين في مكة والمدينة في أراضيها وبسبب تطبيق حكومتها للشريعة الإسلامية ويحس القارئ لرسائل الملك عبدالعزيز لرجال في الداخل والخارج حرصه على تقرير هذه الناحية في رسائله وفي آرائه السياسية، ففي رسائله الخاصة والعامة يكثر الوصية بتقوى الله تعالى وتحكيم شرع الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما يحذر في بعض رسائله من التعامل بالربا المحرم شرعاً ويحذر من النفاق والكذب في المعاملة وكثير من رسائله العامة لشعبه تتضمن هذه المبادئ، وحينما اختير الأمير سعود بن عبدالعزيز ولياً للعهد أرسل له الملك عبدالعزيز برقية خاصة يوصيه بتقوى الله تعالى في السر والعلن مع النية الصالحة وتحكيم شرع الله والنظر والرفق في أمر المسلمين وأمر الأسرة وتوقير العلماء، وقد أجاب ابنه سعود ببرقية عاهد فيها والده على التمسك بما جاء في وصيته, وكان في رسائله العامة يتطرق إلى رد التهم الموجهة إلى الدعوة السلفية التي تناصرها الدولة السعودية وتتبناها وهي دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب وقد ورد ذلك في أول رسالة له وجهها الى أهل مكة وفي أول خطبة القاها هناك بعد دخوله مكة عام 1343ه كما تعهد بالعناية بشؤون الحرمين الشريفين في مكة والمدينة منذ اتمامه ضم الحجاز عام 1344ه ولذلك نجده عام 1369ه حينما جمع بعض المصريين ثلاثين ألف جنيه مصري لترميم المسجد الحرام شكرهم وأمرهم بتوزيعها على فقراء بلادهم وتعهد هو بالقيام بذلك وكان حريصاً على مستقبل الحجاز وابعاد أي توجهات سياسية فيه ولا يتوانى في رد أي اتجاه لا يخدم مستقبل الحجاز واستقراره.
وفي كلمات ورسائل الملك عبدالعزيز السياسية نجده يكرر ان غايته العمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وانه سيتخذ الشورى أساس الحكم وحتى في قراراته السياسية كان مستنداً الى حكم الشرع ولهذا لم تتم عملية ضم الحجاز الا بعد صدور فتوى من العلماء في مؤتمر الرياض تجيز دخول الحجاز لتأدية فريضة الحج مع تأكيد الفتوى عدم جواز الذهاب الى مكة بنية القتال وحينما دخل الحجاز كان أول ما اهتم به ان اصدر مرسوماً ملكياً بتشكيل أول هيئة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الحجاز حدد فيه مهام هذه الهيئة واختصاصاتها وصلاحياتها بل ان الملك عبدالعزيز تحدث عن الصلاة وأهمية أدائها في المساجد في رسالته التي أمر بها بتشكيل المجلس الأهلي والشورى, وحينما أصدر امراً بمنع دخول الخمور الى المملكة بأية صفة كانت حدد القرار عقوبة من تثبت عليه تلك التهمة من السعوديين أو غيرهم, فان كان من غير السعوديين يطرد من البلد وان كان من السعوديين يجلد مائة جلدة ويسجن لمدة عام كامل وكل ذلك يرينا الى أي حد كان الملك عبدالعزيز متمسكاً في رسائله بشعائر الاسلام وتعاليمه, أما السياسة وهي مجال واسع للتغيير في المبادئ والاتجاهات فان الملك عبدالعزيز كان نفس الرجل المسلم المخلص لدينه ووطنه فنراه مثلاً يحتج على موقف الولايات المتحدة من هجرة اليهود الى فلسطين عام 1357ه مع ان علاقته مع الولايات المتحدة حينذاك في أول تحسنها بعد نجاح الشركات الأمريكية في اكتشاف البترول في أراضي المملكة وهو مثال على اهتمام الملك عبدالعزيز بأوضاع المسلمين في البلاد المستعمرة على وجه الخصوص وكان لا يأبه بتحذير القوى الكبرى له ما دام ان في ما تطلبه ضرراً عليه وعلى بلاده فهو مثلاً لم يأبه بتحذير بريطانيا له بأن ينسحب من الخرمة التي استولى عليها بعد موقعة تربه مع الشريف عبدالله بن الحسين عام 1337ه ولم يكترث بتحذير بريطانيا له في أن يسلم رشيد عالي الكيلاني كما رفض قبل ذلك ان تكون علاقته مع حكومة الهند البريطانية كشيوخ الخليج بل رفض تعيين قنصلي بريطاني في القطيف ويبدو أنه كان يخشى ان يكون على غرار المندوب البريطاني في الدول المستعمرة ومع علاقته العدائية مع الدولة العثمانية إلا انه لم يضربها من الظهر وهي منشغلة مع عدو أجنبي كما فعل الشريف حسين بن علي في ثورته العربية المشهورة عام 1334ه وفشلت كل محاولات الانجليز لينضم الى الطاعنين من الخلف بالدولة العثمانية، وحينما توفي الملك جورج الخامس ملك بريطانيا عام 1356ه اسرعت الدول بتنكيس علم بلادها ولكن الملك عبدالعزيز رفض ذلك بشدة قائلاً: وكيف ينكس علم يحمل شهادة لا إله الا الله وان محمداً رسول الله؟ , ولنستمع إلى الأمير عبدالله بن فيصل الفرحان آل سعود الذي تولى امارة منطقة القصيم في عهد الملك عبدالعزيز من عام 1354ه الى عام 1366ه وهو يروي هذه القصة حيث يقول: كان الملك عبدالعزيز في زيارة عندنا في القصيم وفي أثناء اقامته وصل مبعوث من النصارى ونحن حاضرون ولما وصل هذا النصراني لم يكن الملك عبدالعزيز يدري ما الذي يريده وانما أخبر بأنه توجه الى هنا دخل النصراني على الملك في المجلس وسلم وحياه الملك وكان عبدالعزيز بن معمر هو الذي يعرف كلام الأجانب وهو موجود وكان يتقن الانجليزية قال النصراني: اني جئت مبعوثاً من البابا بأمرين على أن تعطونا مقابلهما شيئاً واحداً, قال الملك عبدالعزيز موجهاً كلامه لابن معمر: قل له ما الذي جاء لنا به وما هو الأمر الذي يبتغيه؟ قال النصراني: الأمران اللذان نعطيكم اياهما هما: ان نعترف بحقوقكم في فلسطين وان نساعدكم مادياً ومعنوياً على أن تعطونا شيئاً واحداً, قال الملك: وما هو؟ لكن بدا على الملك انه تغير وهو ينصت قال النصراني: ان تسمحوا لنا ان نبني كنيسة في الظهران، غضب الملك عبدالعزيز غضباً شديداً وتغير حتى في جسمه، قال الملك لابن معمر: اما حقوقنا فلسنا بحاجة لاعترافه فيها فنحن في غنى عنه وأما دعمنا مالياً ومعنوياً فالله لنا وأما الكنيسة فلا أسمح أنا ومن في صلبي بأن توضع كنيسة أو يرى شيء من الكنائس في جزيرة العرب .
رفض عصبة الأمم الاستعمارية
ومن المواقف السياسية في هذا المجال ان الملك عبدالعزيز كان قد رفض الانضمام الى عصبة الأمم المتحدة التي أنشأتها الدولة الاستعمارية بعد انتصارها في الحرب العالمية الأولى عام 1337ه وذلك لأنها قبلت الانتداب البريطاني على فلسطين كما وافقت على وعد بلفور وزير خارجية بريطانيا عام 1336ه في انشاء وطن قومي لليهود في فلسطين بينما نرى الملك عبدالعزيز يسرع بانضمام المملكة الى هيئة الأمم المتحدة عام 1364ه لان نظامها يختلف عن نظام عصبة الأمم فهو قائم على الحق والعدل والسلام بين دول العالم المختلفة حينذاك, وحينما حاول اليهود عن طريق زعيم الصهيونية العالمية وايزمن اعادة موقفهم المشهور مع السلطان العثماني عبدالحميد الثاني عام 1319ه حينما حاول هرتزل رشوته مالياً مقابل بيع فلسطين لليهود لا يقل موقف الملك عبدالعزيز منهم عن موقف السلطان عبدالحميد وقد كشف عن ذلك الحديث الرسمي بين الملك عبدالعزيز ومندوب الرئيس روزفلت هوسكنر الذي جاء الى الرياض عام1362ه ليعرف رأي الملك عبدالعزيز في قضية فلسطين ويطلب مساعدته في حلها وكان ذلك الحديث مسجلاً في وزارة الخارجية السعودية وما جاء في حديث الملك عبدالعزيز لهوسكنر قوله: أما الشخص الذي هو الدكتور وايزمن فهذا الشخص بيني وبينه عداوة خاصة وذلك لما قام به نحو شخصي من جرأة مجرمة بتوجيهه الي من دون جميع العرب والمسلمين تكليفاً دنيئاً لاكون خائناً لديني وبلادي الأمر الذي يزيد البغض له ولمن ينتسب إليه وهذا التكليف قد حدث في أول سنة من هذه الحرب العالمية الثانية اذ ارسل شخصاً أوروبياً معروفاً يكلفني أن أبارك مسألة فلسطين وتأييد حقوق العرب واليهود فيها ويسلم لي عشرين مليون جنيه مقابل ذلك وان يكون هذا المبلغ مكفولاً من طرف فخامة الرئيس روزفلت نفسه فهل من جراءة ودناءة أكبر من هذه وهل من جريمة أكبر من هذه الجريمة يتجرأ هذا الشخص بمثل هذا التكليف ويجعل فخامة الرئيس كفيلاً لمثل هذا العمل الوضيع ، وبذلك فشلت محاولة اليهود لشراء حياد الملك عبدالعزيز كما فشلت مع السلطان عبدالحميد الثاني، ومن الغريب ان هذا العرض من اليهود على الملك عبدالعزيز قد جاء في وقت كانت المملكة تمر بأزمة اقتصادية حتى اضطرت للاقتراض وذلك قبل بداية تصدير البترول تجارياً تماماً كما هو حال الدولة العثمانية حينما عرض هرتزل على السلطان عبدالحميد المال ومع ذلك كان الرفض القاطع من كلا الزعيمين المسلمين.
اهتمامه بقضية فلسطين
وقد اهتم الملك عبدالعزيز بقضية فلسطين وهو اهتمام نابع من اتجاهه الاسلامي وعقيدته الاسلامية فهو يؤكد في كثير من رسائله الى زعماء الدول الكبرى عدم احقية اليهود في أرض فلسطين فهي الوطن الاسلامي والعربي المقدس وان ما يطلبه اليهود فيها ليس الا اعتداء وظلما لم يسجل التاريخ له مثيلاً في تاريخ البشرية وقد ذكر ذلك في رسالة وجهها الى الرئيس روزفلت عام 1362ه, وبجانب ذلك نجد الملك عبدالعزيز صريحاً في آرائه في أمور داخلية وخارجية وهو يحب الصراحة بقول الحق وحينما سأل الملك جلساءه في موسم الحج عن حال المسلمين والأسعار فأخذ كثير من الجالسين يطمئنون الملك بأن الحال ممتازة لكن أحد الحاضرين وهو الأستاذ أحمد عبدالغفور عطار كان صريحاً حيث قال: الحق ان الناس في تعب والأسعار مرتفعة وقليل من الناس في رخاء ويسر أما الأكثر ففي شدة وعسر، فقال له الملك عبدالعزيز: بارك الله فيك أشهد انك الصادق، وكان الملك عبدالعزيز يتلمس العذر لبعض الاخوان الذين يتعبدون الله عن جهل ويرفض ان يقال كلمة سوء فيهم حتى بعد قتاله لهم ويؤكد كرهه لأن يصير بين المسلمين قتل رجل واحد بل يقول عن حركة الاخوان انها أنقى حركة دينية وذلك لان انهيار هذه الحركة لم يكن الا خطأ في التجربة والمنهج الذي ساورا عليه وليس انهيارها انهياراً للاتجاه الاسلامي عامة وكان الملك عبدالعزيز شديد التمسك بالاتجاه الاسلامي الصحيح القائم على عقيدة التوحيد التي دعا إليها الشيخ محمد بن عبدالوهاب ولا يريد ان تظهر بلاده بغير هذا الاتجاه لذلك نراه حينما ذكرت بعض الصحف المصرية عام 1346ه زيارة ولي عهده الأمير سعود ومعه حافظ وهبة لمسجد الإمام الشافعي ومسجد الحسين وهي مساجد فيها قبور وأرسل الشيخ السلفي رشيد رضا الى الملك عبدالعزيز يشعره بذلك أرسل الملك الى حافظ وهبة خطاباً يبدي عدم رضاه عن ذلك ويمنعه من مثل ذلك مستقبلاً, وهو أيضاً يقدر كل اتجاه اسلامي صحيح في مصر ومن ذلك الأزهر حتى كان ينصح الملك فاروق بقوله قوتان في مصر يجب ان تكسبهما الأزهر والجيش , وكان يؤكد على هذا الاتجاه الاسلامي لدولته حتى في رسالته الى زعماء الدول غير الاسلامية ففي رسالة وجهها الى معتمدي الدول الأجنبية في جدة بعد دخول الحجاز عام 1344ه وبعد مبايعته ملكاً على الحجاز يقول فيها: بفضل الله وبنعمته أجمع أهل الحجاز وبايعونا بالملك على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده وتأسيس حكم شوري وقد قبلنا ذلك ونسأل الله الاعانة على حمل أعباء هذا الأمر والله ولي التوفيق , ويؤكد الملك عبدالعزيز في عدة رسائل وخطب سياسية ان الحياة الصحيحة هي التي تستند الى الدين والتمسك به واقامة حدود الله وان سبب صراع المسلمين فيما بينهم وسبب ضعفهم هو اهمالهم العمل بتعاليم الاسلام ويرى بان تحقيق السلام الاجتماعي والسياسي بين المسلمين يتم بشرطين:
أولهما: تمسك المسلمين بعقيدة السلف الصالح.
ثانيهما: الاتصال السياسي والاجتماعي بين الحكام والمحكومين وبين المحكومين بعضهم مع بعض عن طريق المناصحة, ولم تقتصر آراء الملك عبدالعزيز عند هذا الحد بل نراه يضع منهج الاعلام السعودي الذي يجب ان يسير عليه حاضراً ومستقبلاً وذلك في كلمته التي افتتح بها الاذاعة السعودية بمكة في حج عام 1368ه في 9/12/1368ه وألقاها نيابة عنه ابنه الأمير فيصل حيث تضمنت الدعوة الى التناصح والتواصي بالبر والتقوى والى التمسك بكتاب الله واخلاص العبادة لله ودعوة المسلمين الى نبذ الخلافات، بل نجد التأكيد على ذلك المنهج في المرسوم الملكي الذي أصدره الملك عبدالعزيز في انشاء الاذاعة السعودية حيث تضمن التأكيد على نشر الأخبار الخارجية كما هي مع عدم شتم احد أو التعريض بأحد أو المدح الذي لا محل له والاقتصار في الأخبار الداخلية على ما يحسن وما اعتيد نشره وشمولها على القرآن الكريم والمواعظ الدينية والمحاضرات التاريخية عن الاسلام وعن العرب وكان ذلك المرسوم مؤرخاً في 23 رمضان عام 1367ه وموجه للأمير فيصل نائب الملك في الحجاز لتنفيذه.
تقديره للعلماء
أما عن علم الملك عبدالعزيز بأمور الشريعة فان أول ما يجب ان نشير إليه هنا أن الملك عبدالعزيز لم تشغله حروبه في سبيل توحيد المملكة وكذلك مختلف الأمور السياسية عن زيادة الطلب في العلم ولم ينس تكوين نفسه علمياً فمنذ أيام حكمه الأولى كان ينتقي عدداً من الكتب لتقرأ عليه في مجلس معين وهي كتب متنوعة في التفسير مثل تفسير الطبري وتفسير ابن كثير وفي الحديث مثل مسند الامام أحمد ورياض الصالحين وفي التوحيد مثل: كتاب فتح المجيد في شرح كتاب التوحيد وفي التاريخ مثل سيرة ابن هشام والبداية والنهاية لابن كثير وفي السياسة مثل كتاب السياسة الشرعية في اصلاح الراعي والرعية لشيخ الاسلام ابن تيمية وفي الأدب مثل روضة المحبين لابن القيم وديوان المتنبي, وقد أثر ذلك المنهج على ثقافة الملك عبدالعزيز العامة والخاصة, ومن حب الملك عبدالعزيز للعلم قيامه بطباعة عدد من أمهات الكتب الاسلامية وتوزيعها على طلبة العلم والعلماء مجاناً داخل المملكة وخارجها حتى قارب عدد الكتب التي طبعت على نفقته المائة كتاب على اختلاف احجامها طبع بعضها في مصر والشام وفي الهند، وكان يحث على طلب العلم في خطبه ورسائله حتى وافق على رأي بعض العلماء عام 1352ه بجعل عقاب على من كان يستطيع طلب العلم ولم يطلبه يتمثل في ابعاده عن محله الى محل لا يرضاه، كما كان لا يتوانى في الدعم المادي لجهود بعض العلماء العلمية الذين لهم حلقات علمية يكثر طلابها في بعض المناطق ومن هؤلاء الشيخ عبدالعزيز بن باز في الخرج والشيخ عبدالله القرعاوي في جنوب المملكة ولما ظهر التعليم الحديث في المملكة حرص الملك عبدالعزيز على تشجيع طلابه ودعمه, أما العلماء فقد كانت لهم المكانة المرموقة عند الملك عبدالعزيز حيث اتخذ منهم مستشارين وكان له معهم جلسة علم بعد صلاة العشاء في القرآن وتفسيره وجلسة كل يوم خميس من كل اسبوع كما كان يلتقي في موسم الحج ببعض علماء الأقطار الاسلامية ويناقش معهم بعض القضايا الاسلامية مثل الشيخ عبدالمجيد سليم شيخ الأزهر والشيخ محمد رشيد رضا صاحب المنار والشيخ محمود شكري الألوسي من العراق والشيخ محمد الفقي من مصر والشيخ بهجت البيطار من الشام وأمير البيان شكيب ارسلان من لبنان وغيرهم, وكان الملك عبدالعزيز يحترم العلماء ويوقرهم ويشعر بهيبتهم حتى روي عنه انه يقول كلما رأيت الشيخ عبدالله بن عبداللطيف آل الشيخ تصبب العرق من ابطي وذلك من هيبة العلم واحترام العالم, والملك عبدالعزيز ذو بصيرة بأمور الشريعة الاسلامية وهو أمر يتضح بقراءة وتحليل كثير من المواقف المتصلة بهذا الموضوع فهو مثلاً يعرف ان الاسلام لا يقف حجر عثرة أمام ما ينفع من الحضارة والعلم ولذلك نراه يحرص على الاستفادة من الغرب الأوروبي فيما ينفع اذا لم يكن في ذلك شيء ينافي الدين, وقد مكث عشر سنين يجاهد في سبيل ادخال الهاتف والتلغراف الى بلاده سواء مع الاخوان أو مع بعض العلماء الذين لم يستوعبوا ذلك النفع.
ولنستمع الى رواية حافظ وهبة في هذا الصدد حيث يقول: أخبرني جلالة الملك عبدالعزيز في شعبان سنة 1351ه اثناء زيارتي للرياض أن بعض كبار رجال الدين حضروا عنده سنة 1931م لما علموا بعزمه على انشاء محطات لا سلكية في الرياض وبعض المدن الكبيرة في نجد فقالوا له: يا طويل العمر لقد غشك من اشار عليك باستعمال التلغراف وادخاله الى بلادنا وأن فلبي سيجر علينا المصائب ونخشى ان يسلم بلادنا للانجليز, فقال لهم الملك: لقد أخطأتم فلم يغشنا أحد ولست ولله الحمد بضعيف العقل أو قصير النظر لاخدع بخداع الخادعين وما فلبي الا تاجر وكان وسيطاً في هذه الصفقة وان بلادنا عزيزة علينا لا نسلمها لأحد الا بالثمن الذي استلمناها به، اخواني المشايخ انتم الآن فوق رأسي تماسكوا بعضكم ببعض لا تدعوني أهز رأسي فيقع بعضكم أو أكثركم وانتم تعلمون انه من وقع على الأرض لا يمكن أن يوضع فوق رأسي مرة ثانية مسألتان لا أسمع فيهما كلام أحد لظهور فائدتهما لي ولبلادي وليس هناك من دليل من كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يمنع من استعمالهما اللاسلكي والسيارة ، ومع هذا الفهم العميق لنظرة الاسلام في هذه النواحي فان الملك عبدالعزيز قد يعدل عن بعض ما يراه صالحاً لأن فيه ضرراً أكبر حينذاك ومن أمثله ذلك عدله عن مد الهاتف بين مكة وحداء ابان حصار جدة عام 1344ه وذلك حتى لا يثير الاخوان كما اضطر في عام 1354 ه إلى التراجع عن وضع تلغراف في المدينة فترة من الوقت حتى لا يغضب الاخوان وترك ذلك حتى تهدأ العاصفة ومع ذلك كان الملك صارماً حينذاك في الأشياء التي يحسن الصرامة فيها مثل قصة اعتداء أحد رجال الاخوان على رجل ركب دراجة المسمى بسكليت وكان يطلق عليها عند بعض الاخوان حصان ابليس ويكرهون ان يركبها احد ولكن الملك أمر بتأديب ذلك الرجل الذي اعتدى على صاحب الدراجة المذكورة.
فهمه لتعاليم الإسلام
أما ما ذكره حافظ وهبة من أن الملك عبدالعزيز هدم بعض المساجد المقامة على القبور مدارات للمتشددين ايضاً فهذاغير صحيح لأن اقامة المساجد على القبور من البدع في الدين التي تجب ازالتها والتي أكدت عليها دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب وعلماء الدعوة والملك عبدالعزيز ملتزم بالدعوة كأسلافه من أئمة آل سعود فلا يقاس عمله هذا بما عمله في مسألة التلغراف والهاتف السابقة الذكر وذلك لأن بناء المساجد على القبور يؤدي في الغالب الى تعظيم صاحب القبر تعظيماً يصل الى العبادة الشركية ولذلك شدد علماء الدعوة في تحريم ذلك واحبوا هدمها تمسكاً بالقاعدة الاصولية سد الذريعة ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور انبيائهم مساجد , فعمل الملك عبدالعزيز في هدم تلك المساجد نابع من فهمه لتعاليم الاسلام لا غير ومن تمسكه بمبادئ دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب التي سبق ان اتفق علماء الحجاز مع علماء نجد على مبادئها في أصول الدين وفروعه وانها حق, ومن المواقف التي تدل على فهم الملك عبدالعزيز تعاليم دينه ما سبق من محاولة مندوب البابا اقناعه باقامة كنيسة في الظهران وان الملك غضب وقال لا أسمح انا ومن في صلبي بأن توضع كنيسة أو يرى شيء من الكنائس في جزيرة العرب وكان ذلك فهماً من الملك عبدالعزيز لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: اخرجوا المشركين من جزيرة العرب وكان الملك عبدالعزيز ذا بصيرة فقهية ويعرف اسلوب مخاطبة العلماء يظهر ذلك في رسالته الى الشيخ عبدالظاهر ابي السمح امام الحرم المكي المتوفى عام 1370ه رداً على رسالته التي استأذن بها الملك في افتتاح مدرسة دار الحديث بمكة في صفر عام 1352ه حيث نرى فيها اسلوب الملك في مخاطبة العلماء وايمانه بدورهم كما احتوت على بعض الأمور الشرعية المهمة مثل تأكيده على وجود عرض أي أمر على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما عليه السلف الصالح ثم ما وجد في احد المذاهب الأربعة فهو أولى من الجهل أو الاجتهاد مع وجوب عدم الاعابة على احد من الأئمة المعتبرين والبعد عن كثرة الاختلاف وفي الأخير رأى الملك ان يتشاور الشيخ عبدالظاهر مع الشيخ عبدالله بن حسن آل الشيخ المتوفى عام 1378ه حول منهج المدرسة المذكورة ويتعهد بمساعدتهم في كل ما يطلبون, وهذا الخطاب يكشف في الحقيقة عن بصيرة الملك عبدالعزيز الفقهية وحرصه على توجيه الحركة العلمية في بلاده نحو المنهج السليم والى جانب ذلك كله كان الملك عبدالعزيز يحب اكرام العلماء ويعرف وجه المحتاج منهم مثل قصته مع العالم الذي دخل عليه وجلس عنده وبدا عليه الارتباك ثم خرج فعرف انه محتاج فأعطاه وأكرمه.
حازماً حاسماً
وكان الملك عبدالعزيز حازماً في مجادلة غير المسلمين واجابتهم حسب ما تقتضيه الظروف فعندما سأله فيلبي عن كيفية الصيام في القطب الشمالي الذي لا تغيب عنه الشمس ستة أشهر ثم تختفي ستة أشهر اجابه الملك: إذا وجد مسلم صادق الايمان في مكان لا تغرب فيه الشمس فان عليه الصيام اثنتى عشرة ساعة من الأربعة والعشرين ويعتبر ال12 ساعة الأخرى كأنها ليل , ولكن حينما يتضح هدف السائل بأنه للمجادلة فقط فسيكون جوابه حاسماً, فعندما سأله فيلبي: هل ذكر الله أمريكا في القرآن؟ أنهى الملك هذا الهذر قائلاً: والله على أية حال انا لا أشغل بالي بهذه الأمور فلدي ما يكفي من مسؤولية حكم هذه البلاد بما يرضي الله حتى تأتي ساعتي، فلا شيءيفرق الانسان عن الحيوان الا الايمان بالله والعالم الآخر اما ما عدا ذلك فالانسان والحيوان سواء, وفي بداية تلك المناقشة بين الملك عبدالعزيز وفيلبي يقول فيلبي: في البداية نظر اليّ الملك شزراً متحفزاً ظاناً انني احاول التطاول على الاسلام فلما تبين له أني جاد بدأ بالاجابة, وتتضح معرفة الملك عبدالعزيز بأحكام الشريعة العامة والخاصة بقراءة بعض رسائله وخطبه فقد أشار في احدى خطبه الى انه اذا وجدنا دليلاً من الكتاب والسنة أخذنا به واذا لم نجد دليلاً قوياً اخذنا بمذهب الامام أحمد ومتى وجدنا الدليل في أي مذهب من المذاهب الأربعة رجعنا اليه فهذا كتاب الطحاوية في العقيدة الذي نقرؤه وشرحه للأحناف وهذا تفسير ابن كثير وصاحبه شافعي , ويقول أيضاً: اننا لم نطع ابن عبدالوهاب وغيره إلا فيما أيدوه بقول من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم , وفي موضع آخر يقول عن دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب: ما جاء اصلاح أمور العقيدة في بلادنا إلا من الله ثم من أسباب الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمة الله عليه ويتضح بعد الملك عبدالعزيز عن الدعوة الى القومية العربية بقوله: ما كنا عرباً الا بعد أن كنا مسلمين كنا عبيداً للعجم ولكن الاسلام جعلنا سادة ، وبجانب ذلك كان الملك عبدالعزيز ذا بصيرة في أمور الفصل في القضايا حتى كان يقوم بنفسه بوظيفة القاضي في الفصل في بعض القضايا في البادية اذا عرضت عليه وكان ذلك في بداية حكمه وقبل اكماله توحيد المملكة، مما يدل على معرفته بما يتصل بهذه الأمور من احكام فقهية متنوعة, وهو مع ذلك كان يحترم حكم القاضي في أية قضية كانت ما دامت موافقة لحكم الشرع حتى ولو كان تطبيق ذلك الحكم سيحرج الملك أو أحد اسرته، ومن أمثلة ذلك المرأة التي حكم القاضي برجوعها الى زوجها فدخلت أحد بيوت آل سعود وطلبت حمايتها فحميت, ولكن الملك حينما علم بذلك غضب وأمر بارجاعها الى بيت زوجها تنفيذاً لحكم القاضي الموافق لحكم الشرع, ولعل القصة التالية تدل بحق على فهمه العميق أحكام الشريعة الاسلامية ووعيه للأدلة الشرعية وقد أوردها خير الدين الزركلي عن الشيخ محمد بن مانع حيث قال: أخبرني الشيخ محمد بن مانع يوم كان مديراً للمعارف بمكة ان المحكمة الشرعية رفعت الى الملك عبدالعزيز حكماً اصدرته باعدام جندي قتل زوجته ومعها جندي آخر وان تنفيذ الحكم معلق على موافقة الملك وتأمل الملك في القضية فظهر له أن الزوجة كانت قد غابت عن بيتها أياماً وبحث عنها زوجها فوجدها عند أحد الجنود فأطلق عليهما الرصاص فقتلهما وسألته المحكمة فأقر بالقتل ولم يحسن الدفاع عن نفسه فحكمت باعدامه ولم يكد عبدالعزيز يتبين القضية حتى ألقى ورقة الحكم من يده وصاح بحاملها كيف يكون هذا!! اطلقوه واكسوه واكرموه ودعا رئيس المحكمة إليه فقال له: ألم تقرأ الحديث الذي فيه انني أغيركم والله أغير مني,, قال الشيخ محمد المانع: ورأيت القاضي بعد ذلك فسألته ما فعل الله بالقاتل؟ فقال: عفا عنه الملك فأجبته: كلا ان الملك لم يعف عنه ولكنه أعلم منكم وقد حماه من جهلكم , وكان للملك بعض النظرات الصائبة في القضاء مثل اقناعه المرأة التي طالبت بقتل من سقط على زوجها من النخلة فقتله بان تقبل بالدية بعد أن طلب منها أن تسقط من النخلة على القاتل فامتنعت خوفاً على نفسها وقبلت الدية, وكذلك اقناعه من رأى ان في الهاتف شيطاناً باسماعه قراءة القرآن في الهاتف فاقتنع لأن الشيطان لا يقرأ القرآن وغير ذلك.
* استاذ التاريخ الحديث بجامعة الإمام بالقصيم وعضو اتحاد المؤرخين العرب بالقاهرة وعضو الجمعية التاريخية السعودية

رجوعأعلى الصفحة

الاولــى

محليــات

مقـالات

الفنيــة

الاقتصادية

عيد الجزيرة

متابعة

منوعـات

عزيزتـي الجزيرة

الريـاضيـة

مدارات شعبية

العالم اليوم

الاخيــرة

الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]
ContactMIS@al-jazirah.com with questions or comments to c/o Abdullatif Saad Al-Ateeq.
Copyright, 1997-1999 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved.