Monday 10th January, 2000 G No. 9965جريدة الجزيرة الأثنين 4 ,شوال 1420 العدد 9965



العُدوَتان ,,,رسالة إلى الشيشان
د, عبدالرحمن صالح العشماوي

الموكب يسير، والنّهر المبارك يتدفق بالماء النمير، والجبال الشامخة تستأنس بعد الوحشة، والأرض المباركة تفيض بالأمل والرجاء، بعد قرونٍ من الألم والشقاء.
كل شيء في هذا الكون بدأ يتحرّك، يبتهج، يشعر بسريان الراحة في عروقه بعد طول عناء، ما هذا النسيم الذي يهبُّ رُخاءً في هذه الأجواء؟، ما هذه الأريحيَّه التي تكاد تطير بالأرض إلى السماء؟.
ما هذا الإشراق المتجدِّد الذي تسكبه أشعَّة الشمس في الأرجاء؟.
أسئلة كثيرة تنهال على أذهان الناس من كل ناحية، وأنامل النور تشير إلى ذلك المكان البعيد، في قمة ذلك الجبل الشامخ، في تلك الأرض المباركة، ولسان حال المجد يقول لكل سائل: جوابُ سؤالك هناكَ حيث يتدفق الضياء في غار حراء، هناك حيث ينقطع إلى المناجاة خاتم الأنبياء عليه أفضل الصلاة والسلام.
خاتم الأنبياء؟.
نعم ذلك الفتى اليتيم، الصادق، الأمين، هو الذي سيغسل برسالة الحقِّ أدران الباطل، وسيروي عطش القلوب بأصفى المناهل.
وتدفَّق نهر الضياء، وتعلَّقت الأرض بأهداب السماء، ونزل كتاب الله الكريم يشرح الصدور ببلاغته وبيانه وإعجازه، ويصلح النفوس بأوامره ونواهيه وتشريعاته، ويجدِّد ما بَليَ من الفضائل والقيم ويزحزح عن صدور الأرض ما جثم عليها من الباطل والظلم والطغيان، وينعش آمال التائهين، والمستضعفين، ويملأ نفوس المؤمنين بالهمم العالية، والعزائم الثابتة، واليقين الذي لا تهزمه الأراجيف وتنتفض مكة المكرمة، وتهتزُّ قمم جبالها، وترنو بطحاؤها بعين المستيقظ المنبهر بما يراه من إشراقات نور النبوة، وتبدأ الملحمة الأزليَّة التي لا تتوقف بالصراع بين أهل الحق والخير وأهل الباطل والشر، ويجرف تيّار الكبرياء والجبروت صناديد قريش، وتحمل زوارق الأمل والحب والإيمان المسلمين الذين وجدوا برد الإيمان واليقين في قلوبهم، وذاقوا حلاوة الانعتاق من قيود الجاهلية وشهواتها وأهوائها وضلالها.
وتصغي جبال مكة وأوديتها إلى آيات القرآن الكريم يسري بها سكون الليل إلى مسامع الإنس والجن بياناً سماوياً لا يخطيء طريقه إلى أعماق القلوب,والنبي الأمي محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام، يمضي في دعوته صابراً محتسباً محتملاً للأذى، مشجعاً من آمن به على الصبر حتى يأذن الله بفرج قريب,, كل شيء في مكة يتحوَّل، وكل جامدٍ فيها يتحرَّك.
(اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علَّم بالقلم، علَّم الإنسان ما لم يعلم).
هكذا تسري آيات القرآن الكريم في عروق القوم سرياناً لا يملكون مقاومته أبداً، ولا يستطيعون صدَّه أبداً، ولا يملكون قدرة بيانية على مواجهته بمثله أبداً، ولذلك كان لابد أن ينقسم القوم إلى فريقين: فريق الإيمان الذي انشرح صدره لهذا النور، وفريق الكفر الذي هرب إلى الغرور والكبرياء وإحداث الضجيج الكاذب للتشويش على هذه الدفقات الروحية العجيبة.
وتحوَّلت مكة المكرمة إلى ميدان للصراع بين الفريقين,, هؤلاء يتلون القرآن ويرتلون آياته ويحتملون الأذى في سبيله ويجتمعون سراً إلى خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام يستقون من النبع الصافي الذي لا ينضب، وأولئك يرددون كلمات السيادة والعنجهيّة والعصبية، ويرفعون أصواتهم بالتهديد والوعيد، ويسدون آذانهم عن سماع آيات الذكر الحكيم، لم تكن المعركة بين الفريقين متكافئة في ظاهر الأمر، ولكنَّ التكافؤ موجود في الحقيقة، فأهل الباطل من حيث السُّلطة والمال والجاه والسلاح أقوى، وأهل الحقّ من حيث الإيمان واليقين والصمود أقوى، وهنا تنفطر قلوب المشركين وتختنق أنفاسهم بالغيظ والكمد.
أحَدٌ، أحد طلقات رصاصٍ قويَّة كانت تهزُّ المشركين حينما يسمعونها من فم بلال بن رباحٍ رضي الله عنه تخرج إليهم خافتة بصوتٍ واهن ولكنها تحدث في نفوسهم دوياً هائلاً، السياط تضرب جسم بلال والصخرة تجثم على صدره العامر بالإيمان، وحرارة رمال مكة تُلهب ظهره وكل ذلك لا يستطيع أن يؤثر في قلبه، أو ينال من روحه، أما أحَدٌ أحَد فكانت تصل إلى أعماق قلوب صناديد قريش، تهزُّهم هزاً وتُغيظهم، ويسمعون لها دوَّياً لا يقاوم.
من هنا بدأت خصوصية هذا الصراع,, من الحق والباطل، ومن هنا انطلقت شرارة الهزيمة في نفوس المشركين.
مركب الأيام يمضي، ونور القرآن يتدفق، وظلام الجاهلية ينحسر من الكون، وكأنه يتجمع في قلوب وعقول فئة من صناديد قريش أبَت أن تستجيب لدعوة الخير ومضت في المكابرة والغرور حتى وصلت بأصحابها إلى العُدوتين.
العُدوتان؟، نعم ذلك المكان الذي تقابل فيه الفريقان في يوم الفرقان .
يقول تعالى: (إذ أنتم بالعُدوة الدنيا، وهم بالعُدوة القُصوى والركب أسفل منكم، ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولا).
هنالك كانت موقعة بدر الكبرى، حيث وصل الصراع بين الإسلام والكفر إلى قمته في هذه المعركة الحاسمة.
إن هزيمة الكفَّار بدأت من أوَّل لحظةٍ للصراع، لقد كانت رصاصات بلال بن رباح أحَدٌ أحد هي السلاح الأوَّل الذي هَزَم المشركين، ولكنها لم تكن هزيمة مرئية، ولذلك لم يفطن إليها الناس، بل إنَّ صمود آل ياسر هو أول هزيمةٍ حاسمة للمشركين، وأوَّل مظهر مشرق من مظاهر النَّصر للمسلمين، صحيحٌ أن سميَّة ماتت تحت التعذيب وأنَّ أبا جهلٍ وغيره من عُتاة قريشٍ عاشوا بعد موتها، ولكنها ماتت منتصرة رافعة الجبين، وعاشوا بعدها مهزومين، وشتان بين موت المنتصر، وعيشة المهزوم.
لقد قُتل أبو جهلٍ على يد سمَّية أم عمَّار بن ياسر رضي الله عنهم، ولكن روحه لم تخرج من جسده إلا على يدي معاذ ومعوَّذ في موقعة بدرِ الكبرى ولولا أن عقل ابي جهلٍ كان مغلقاً بأوهام الكبرياء لأدرك هذه الحقيقة منذ وقف عاجزاً مهزوماً أمام تسبيح وتكبير سميَّة رضي الله عنها.
إذن فقد شهدت العُدوتان المعركة الأولى الحاسمة بين الإسلام والكفر والنصر المؤزَّر البارز للإسلام، فكانت جديرة أن تكون معلماً من معالم التاريخ البارزة، لانها شهدت وقائع غزوة بدرٍ الكبرى التي نستذكرها دروساً عظيمةً في اليقين وصدق التوجُّه إلى الله تعالى.
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه فيما نقله ابن كثير: أصابنا في الليلة التي كانت وقعة بدرٍ في صبيحتها طشٌ من المطر فانطلقنا تحت الشجر والحجف نستظلُّ تحتها من المطر، وبات رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً يصلي وحرَّض على القتال ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة يصلي ويبكي حتى أصبح .
أرأيتم كيف كان التوجُّه إلى الله تعالى؟ إن في عبارتي قائما يصلي ويصلي ويبكي حتى أصبح من العبرة والتذكرة، ومن الدروس النبوية الكريمة ما يفتح أمام المسلم نوافذ الوعي بحقيقة دوره في هذه الحياة، وبحقيقة عوامل النصر على أعداء الإسلام، إن السيوف تتلمّظ في أغمادها تنتظر أن تُسل للجهاد في سبيل الله تعالى، وإن أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام لينتظرون ساعة الصفر حتى يبدأ القتال لينالوا إحدى الحسنيين إما النصر وإما الشهادة، ومع ذلك كلِّه فقد بات الرسول عليه الصلاة والسلام قائماً يصلي ويبكي يناشد ربَّه النَّصر والتأييد.
إنها دروس معركة بدرٍ الكبرى التي تحتاج منا إلى عنايةٍ وتأمُّل.
كانت ليلة الجمعة السابعة عشرة من شهر رمضان المبارك في السنة الثانية من الهجرة، المسلمون بالعدوة الدنيا، والمشركون بالعدوة القصوى، وقلوب المسلمين مطمئنة بذكر الله، وصدورهم منشرحة بالإيمان، وأصواتهم تنطلق ندية رخيمة بآيات القرآن، أما قلوب المشركين فهي مضطربة خائفة، وصدورهم منقبضة، وإنما يُغَطون ذلك كله بقهقهاتهم الفارغة، وعزف قيانهم الصاخب، وجَلَبة أصواتهم الخاوية، إنه الأسلوب نفسه الذي استخدموه من قبل حين انهزموا أمام سمَّيةٍ وبلال وغيرهما من ضعفاء المسلمين في مكة، حيث كانوا يغطون هزائمهم بالصراخ والضجيج والادعاء الكاذب.
العدوتان,, جانبا الوادي شهدتا موقعة الإسلام الحاسمة وأبصرتا في جانبها الأقصى قريشاً بجبروتها خيلائها ومعازفها وقيانها، وفي جانبها الأدنى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بوجودهم المشرقة، ونفوسهم المطمئنة وصلاتهم وذكرهم ودعائهم,لقد كانتا صورتين متناقضتين تماماً، وكأنهما توحيان منذ النظرة الأولى أن الدائرة ستدور على أهل المظاهر الفارغة، والقلوب الخاوية.
موقعة بدر الكبرى,, رسالة البطولات الإسلامية إلينا مكتوبة بحروف من نور على صفحات دفتر رمضان الكريم، نقرؤها الآن بكل فخر واعتزاز، ونبعث بنسخة منها إلى إخواننا في الشيشان مختومة بخاتم الدعاء الصادق أن يكتب الله لهم النصر على عدونا وعدوِّهم ليشهد رمضان الذي ودعناه منذ يومين، ما شهده رمضان البعيد من النصر.

رجوعأعلى الصفحة

الاولــى

محليــات

مقـالات

الفنيــة

الاقتصادية

عيد الجزيرة

متابعة

منوعـات

عزيزتـي الجزيرة

الريـاضيـة

مدارات شعبية

العالم اليوم

الاخيــرة

الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][البحث][الجزيرة]
ContactMIS@al-jazirah.com with questions or comments to c/o Abdullatif Saad Al-Ateeq.
Copyright, 1997-1999 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved.