وداعاً يا رمضان د, محمد بن سعد الشويعر |
يقال في المثل: أيام السرور قصار، ذلك أننا بالأمس القريب كان كل مسلم في مشارق الأرض ومغاربها، يترقب إطلالة شهر رمضان، تشوقاً للأعمال الخيّرة فيه، والنفحات التي يسبغها هذا الشهر على المحتسبين فيه، حيث ترق القلوب، وتخشع الأفئدة، وتتبدل الطباع، ويستأنس الناس بالعبادة: صوماً وقياماً,, فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قدوة المسلمين في كل قول وعمل، يرغّب في فضائل هذا الشهر واغتنامها ويرسم لأمته المنهج العملي بوظائف شهر رمضان,, من ساعة بزوغ هلاله الى آخر أيامه.
ولذا كان لشهر رمضان الذي أنس به المسلمون، بعد فرحتهم بقدومه، مذاق خاص، ونكهة متميزة عن أيام السنة، ترتيباً وتنظيماً وعملاً ومسارعة بالطاعات، فكان شهراً فضيلاً بما يتحقق فيه من أعمال وثواب، وكان للياليه لون خاص، ليس كالألوان المعتادة، ولكنه لون يمتزج بالسرور المقترن برمضان لدى كل فرد في المجتمع على حسب مفاهيمهم ومنافعهم.
فالأطفال يرونه مرحاً وهدايا، والكبار من الرجال والنساء يرونه خيراً أفاء به الله، يجب ان يقتنص كل فرد من هذا الخير بقدر ما يستطيع من الإكثار، زاداً يدخره لمعاده، ومساعدة لإخوانه المحتاجين خذ من شبابك لهرمك، ومن عافيتك لسقمك، ومن دنياك لآخرتك .
والعاملون يرونه نفحة تخفف عنهم ثقل العمل، وتقلّص من ساعاته، حتى يتسع وقتهم، ويتوزع جهدهم، للعمل البدني، المقترن بشهر رمضان، وتفرغ للعبادة: صياماً وقياماً، وتلاوة للقرآن مع ما يقدر عليه كل فرد من اعمال، أيسرها الكلمة الطيبة لأنها صدقة أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عناء منها.
والتجار واصحاب البضائع يرونه موسماً تنفق فيه السلع، ومع كثرة المتسوقين يكثر الاخذ والعطاء، المرتبط بطريقة العرض المشوّقة، وإبراز الجديد المغري,, لأن مع الحركة البركة كما يقال.
وهكذا نجد رمضان الذي تطلع إليه الناس وفرحوا بمقدمه، كلٌّ قد هيأ نفسه والمهنة التي يزاول، ليغتنم من فرصة حلول رمضان، وأنس ليالي رمضان,, ولا شك ان الكل على اختلاف مشاربهم قد أدلوا بدلائهم في مورد رمضان وكل منهم قد اغترف من ذلك النبع وقال نصيبه,, فأيهم الرابح ومن منهم الخاسر؟؟!.
إن رمضان الذي تشوق إليه كل مسلم، كان يؤمل فيه، ويدعو ربه بأن يكون فيه من المقبولين، ومن العتقاء من النار، قد حلّ، ومضت أيامه ولياليه سريعة الجريان، خفيفة الوطء, وها هي ايامه تتصرم حتى ان هذا اليوم، يوم شك، قد يكون تمام الثلاثين من رمضان، أو يوم عيد، يودع الناس فيه شهرهم الذي خرج بما حفل به من أعمال وصفحاته قد طويت بما سُجّل فيها من خير لمن اغتنم الفرصة، فكان ربحاً او شراً لمن فرّط فيه حيث كانت حسرات عليه، وندامة: كندامة الكسعيّ الذي تمثّل به الشاعر واعتبرها ندامة ما بعدها ندامة الا أن الندامة في رمضان أكبر وأثقل حملاً,, لمن ضيّع الفرصة، وخرج عليه هذا الشهر ولم يُغفر له,, كما جاء في الحديث الذي روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: بأنه بعدما صعد المنبر، قال آمين آمين آمين، ولما سئل عن ذلك؟ قال: جاءني جبريل وقال: يا محمد رغِم أنف رجل أدرك أبويه أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة، قل: آمين فقلت: آمين, فقال: رغِم أنف رجل مرَّ عليه شهر رمضان ولم يُغفر له، قل آمين,, فقلت آمين, وقال: رغِم أنف من ذُكرت عنده ولم يُصلِّ عليك,, قل: آمين, فقلت: آمين.
ولذا فإن الرابح في شهر رمضان من أرباب المصالح والمنافع، هو من جعل الاخلاص والصدق مقصده في عمله في هذا الشهر، وعمل من الصالحات بقدر طاقته لأن الله يقول: لا يكلف الله نفساً الا وسعها ,, وكان قانعاً بالربح الحلال، والإنفاق من كسب حلال على نفسه ولغيره, لأن الله طيب لا يقبل من الاعمال الا ما كان طيباً.
والناس الصافية نفوسهم، في رمضان وفي غير رمضان، يزِنون الأعمال بميزان مصدري التشريع في دين الاسلام، وما خفي عليهم يجدون المخرج منه في مثل هذا الحديث: ما رآه المؤمنون حسناً فهو حسن، وما رآه المؤمنون قبيحاً فهو قبيح وقوله صلى الله عليه وسلم: الإثم ما حاك في قلبك، وكرهت ان يطّلع عليه الناس، وإن أفتاك الناس وأفتوك .
وميزان الأعمال في رمضان، يدركه كل فرد حريص على الخير، لأن النصوص الشرعية، والترغيب في اعمال رمضان، واغتنام الفرص فيه، وما يصاحب ذلك من نيّةٍ وصدق، يستحق معها الممتثل الجزاء الذي وعد الله به، والعتق من النار الذي يسبغه الله على عباده الصائمين,, ومع فرصة الوداع لهذا الشهر الذي انصهرت فيه عادات الناس الحسنة وملازمتهم للمساجد طاعة لله، وتلاوة لذكره الحكيم، الذي لا يأتيه الباطل، ولا يتطرق إليه الشك,, فإن في بقية الشهر ان كان هذا اليوم هو آخره، لاغتنام الفرصة، بوداع حسن، وتوبة صادقة مع الله، وندم على التفريط في سالف أيامه, فربَّ هفوة قلب خاطفة، ورغبة من نفس صادقة، سنحت في لحظة من نهار، جعل الله فيها خيراً كثيراً، وحققت لصاحبها منزلة عالية، فيكون من التفريط في الايام السابقة لحظة استدراك يختم بها المرء رمضان لتكون وداعاً حسناً وما ذلك الا أن الأعمال بالخواتيم، والتعامل مع الله بخشوع قلب، ودمعة عين نادمة، يجعل الله في ذلك منزلة يرفع سبحانه بها المرء، ويُعلي قدره,, فهو سبحانه قريب من عباده، جواد في عطائه، إذا جاء إليه عبده ماشياً، أقبل عليه خالقه هرولة,, ألم يقل سبحانه في دعوة خيّرة لعباده، بأن ينيبوا اليه وان يتضرعوا إليه، حتى يقيل عثراتهم ويقبل توباتهم: قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم (53 الزمر).
أما إن كان هذا اليوم هو يوم عيد الفطر, فإن لله سبحانه فيه نفحات وعطايا، يسبغها على عباده الممتثلين لأمره المستجيبين لهديه، وللمفرطين النادمين على ضياع الفرص, فحرّكتهم الحسرات، بعد ان ذهب المجدّون بجدِّهم والمدلجون بسعيهم، وعاد المفرطون ليندموا على تقاعسهم، فإن في فضل الله ورحمته متسعاً لتدارك هذا وتعويض ما فات، بإقبال وحضور قلب، ورغبة الى الله بالدعاء في يوم العيد، الذي يوافق الجمعة، حيث يجتمع عيدان: عيد الأسبوع المفضل، وعيد السنة بمنزله ومكانته، وبذا مع الصدق والاخلاص,, الصدق مع الله في الدعاء، وأن يقيل الله عثرته، والاخلاص لله في ذلك الاتجاه، إدراكاً بأنه سبحانه هو أهل التقوى، وأهل المغفرة، يتهيأ للإنسان ما تطمئن به النفس في الوداع لهذا الشهر المفضل بالمساعي والأعمال في جميع أيامه ولياليه.
إن الواجب على كل مسلم ان يقيس المحسوس بالمعقول في وداع شهر رمضان ذلك ان كل فرد عندما يودع عزيزاً عليه، يدرك أن هذا الوداع قد يطول اللقاء بعده، وقد يقصر، كما يتوقع وفق أحداث الحياة، ألا يتم لقاء آخر بعد هذا الوداع,, ولذا نرى المحب مع الغالي عنده، يسكب العبرات وينعصر القلب، وتلتوي عضلاته ساعة الفراق، ثم يعقب ذلك ضيق وكآبة، قد يطول أمدها أو يقصر، بحسب القدرة على النسيان، او استمرار التذكّر وبحسب الأشخاص وعواطفهم,, هذا في الأمر المحسوس فيما يتعامل به البشر مع بعضهم.
ووداع رمضان له نمط آخر فهو عند الخاسر في اغتنام فرصه كالخالي من العواطف في العلاقة مع الآخرين، ولا ينفع الضرب في حديد بارد ولا العظة مع القلب الغافل.
وأما اليقظ المهتم، فإنه كالولهان، لا يحب غياب من ارتاحت نفسه إليه، ولا البعد عمّن ألف قلبه وإن من تمام الأنس به,, ومن الوفاء في العلاقة المحسوسة به، الثبات على ما يريح، والاستمرار على ما يرضى عنه الجانب الآخر، وبالنسبة لرمضان عندما نودعه، فإننا يجب ان نقلّب صفحاتنا معه، واعمالنا فيه، فإن كانت حسنة زدنا في الاحسان، وثبتنا على ذلك بقية أيامنا، حتى نلقى رمضان الآخر، ان كان في العمر مدد، ولا نكون ممن قال فيهم علماؤنا الأوائل رحمهم الله: بئس القوم لا يعرفون الله الا في رمضان .
ذلك ان رمضان قد عودنا منهجاً معيناً، وأعطانا ترتيباً وتنظيماً للأوقات والأعمال، وسرنا على ذلك شهراً كاملاً فكان من الواجب ان نعاهد الله على الانتظام والعمل في حياتنا، على ما تعوّدناه في رمضان من ألفة ومحبة فيما بيننا، وتعاضد وتكاتف في حياتنا، فالفقير لا نتركه يقاسي فقره ولا نهتمّ به الا في رمضان، بل نراه حقاً علينا، ونجتهد لنعطيه ذلك الحق,, يقول سبحانه والذين في أموالهم حق معلوم, للسائل والمحروم, ]24 25 المعارج[ ونأخذ أمر الله إلزاماً بأن نهتم بهم، ونتفقد أحوالهم، عندما قال: وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ]33 الزمر[.
والمسكين لا تُسلمه ليأسه ومسكنته بل نشعره بالتعاطف معه، ونمسح دمعته مثلما اهتممنا به في رمضان، فلا ننهره ونقسو عليه إن سأل: وأما السائل فلا تنهر ]10 الضحى[ وان كان يتيماً فنرعى له اليتم ونهتم بأموره حتى يصل الى سن الرشد، ونحافظ على ماله حتى يستحق التصرف، ويشهد الثقات بأمانته وحسن ادراكه، وإن كان مستحقاً للإطعام والنفقة على عياله، فنتمثل فيه امر الله القائل: فلا اقتحم العقبة, وما ادراك ما العقبة, فكُّ رقبة, أو إطعام في يوم ذي مسغبة, يتيماً ذا مقربة ,أو مسكيناً ذا متربة ]11 16 البلد[.
وفي التعامل فيما بيننا تجارة أو صناعة أو صداقة يجب ان نودع رمضان بالتزام المنهج الذي سرنا عليه في رمضان، صدقاً في المواعيد، وأمانة في التعامل، وبُعداً عن الكذب والخداع والتضليل، لأن الله أمرنا بالأمانة التي أثقل حملها السموات والأرض والجبال، فأبين ان يحملنها وحملها الانسان، فظلم نفسه بذلك، لجهله بحق هذه الأمانة وحثّنا على الصدق بقوله سبحانه في خطابه لمن شرّفهم بخصلة حميدة هي الايمان، وأنعِم به من شرف أسبغه الله على عباده: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ]119 التوبة[ والتقوى هي مراقبة الله في السر والعلن، في كل أمر يعمله الانسان مهما كبر أو صغر.
إن كثيراً من الناس غيّروا حالهم في رمضان، وانتهجوا درباً وسمهم به شهر رمضان، فأقلع جزء منهم عن اعمال غير حسنة، وحرصوا على التزام حسنة، يرونها ملائمة لشهر رمضان، فلهؤلاء نقول: ان وداعكم لشهر رمضان يعني الصدق والوفاء، بأن تكون اعمالكم بعد رمضان سائرة في الدرب الذي عوّدتم أنفسكم عليها طيلة رمضان، من التزام بالأعمال الحسنة، وبُعد عن الرذائل والموبقات التي كنتم تغترفونها قبل رمضان، ليكون عمل رمضان مؤدباً وزاجراً,, حيث لمستم الأثر الطيب في أنفسكم: صحة وخلقاً وحسن تعامل ومحبة للآخرين.
كما أن بعضهم قد حرص أن يكون في شهر رمضان ملازماً للمسجد: صلاة ومسارعة للفرائض والنوافل وتلاوة للقرآن الكريم ليلاً ونهاراً,, بحيث أصبحت هذه الأعمال جزءاً ثابتاً في حياته اليومية لا يحيد عنها ولا ينبغي لمن امتلأت بهم المساجد وتزاحموا فيها في شهر رمضان ان يودعوا رمضان بهجرانها ومقاطعتها جماعة، فإن ربَّ رمضان هو ربُّ الأيام الأخرى في غير رمضان، والله سبحانه، الذي توجه له الأعمال، وتصرف له العبادة يجب الاستمرار معه في العبادة لأنه يحب من عباده الدوام، وان قلّت الأعمال، كما جاء في الحديث الصحيح أحبُّ العمل الى الله أدومه وان قلَّ .
كما أن من عوّد نفسه صدق الحديث، وحسن الخلق، وطيب التعامل مع الناس، بالكلمة الطيبة والمعشر الحسن والصفح عن المسيء وتحمل ما يبدر من الآخرين نحوه، لأنه يرى ان شهر رمضان يحث على ذلك، كما نسمع من بعضهم عندما ينتقد أحداً في حديثه، أو لغوه أو تعامله، أو سوء أدبه، يبادله القول: صم فإننا في رمضان وكأنه يؤدبه بما يتلاءم مع مكانة رمضان، ويدعوه لهذا الالتزام المقترن برمضان، فإن من حسن الوداع لرمضان اتخاذ ما كان يحث عليه الآخرين، منهج عمل يثبت عليه في نفسه، ويدعو إليه غيره بعد رمضان، وفي كل ايام السنة ليكون من الوداع الحسن لشهر الصوم التزام أكرم الخصال المستفادة من فصائل رمضان، والغيبة والنميمة، والكذب والبهتان تلك الخصال الذميمة التي لا تحلو بعض المجالس إلا بها ولا يستأنس بعضهم ذكوراً وإناثاً الا بالخوض في ذلك البحر الآسن,, لأن اللسان يستعذب ذلك والآذان تهفو مصغية ومستجيبة للسماع.
هذه الخصال حذّر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم وشدد في اثرها على الصوم حيث ان المرأتين اللتين انهكهما الصوم جوعاً وعطشاً جلستا تأكلان لحوم الناس ولما أمرهما المصطفى عليه الصلاة والسلام بالقيء قاءتا قيحاً ودماً، ولحماً عبيطاً، فقال صلى الله عليه وسلم: لقد صامتا عمّا أحلّ الله وأفطرتا على ما حرّم الله كما أخبر صلى الله عليه وسلم بأن الغيبة والنميمة تأكلان الحسنات كما تأكل النار الحطب فكان من فوائد وداع رمضان معاهدة النفس، وصون اللسان، بالاقلاع عن هذه الخصال الذميمة، والبعد عما يأكل الحسنات، لأن عدو الله ابليس، والنفس الأمارة بالسوء، يجب مجاهدتهما وتعهدهما بعد رمضان بمثل العزيمة والثبات الذي كان في رمضان.
وهكذا نجد أموراً كثيرة أخذت بمجامع القلوب، وخصالاً حميدة أحبّتها النفوس هي من الامور الحسنة وترغبها النفوس الصافية، اقترنت برمضان وألفها الناس، كان من اللازم ان تكون أيضاً ذكراً وعملاً من مستلزمات وداع رمضان والعمل على الاستمرار عليها بعد رمضان ،لأنها دروس أخذت فيه، وخير الدروس ما نفع وتمّ الثبات عليه.
مرافقة المتّقين:ذكر محي الدين بن عربي في كتابه: محاضرات الابرار، ومسامرة الاخيار: حديثاً نسبه لبعض الأصحاب، قال: جاءني بهيم العجلى، فقال: تعلم لي رجلاً من جيرانك، وإخوانك يريد الحج ترضاه لمرافقتي؟ قلت: نعم, فذهبت به الى رجل به صلاح ودين، فجمعت بينهما وتواطآ على المرافقة، ثم انطلق بهيم الى أهله، فلما كان بعد أتاني الرجل فقال: أريد ان تزوي عني صاحبك، ويطلب رفيقاً غيري فقلت ولمَ؟ فوالله ما اعلم بالكوفة له نظيراً في حسن الاخلاق والاحتمال, قال: حدّثت أنه طويل البكاء لا يكاد يفتر، فهذا ينغّص علينا العيش فقلت له: إنما يكون البكاء أحياناً عند التذكرة، أو ما تبكي أنت؟ قال: بلى, ولكنه بلغني أنه أمر عظيم من كثرة بكائه، قلت اصحبه فلعلّك ان تنتفع به، قال: استخير الله، فلما كان اليوم الذي أرادا أن يخرجا فيه، جيء بالابل، فوطىء لهما، فجلس بهيم يبكي في ظل حائط، فوضع يده تحت لحيته، وجعلت دموعه تسيل على خدّيه، ثم على لحيته، ثم على صدره، حتى والله رأيت دموعه على خدّيه ثم على الأرض، فقال لي صاحبي: يا مخوّل قد ابتدأنا مع صاحبك، ليس هذا لي برفيق، فقلت له: ارفق لعلّه ذكر عياله ومفارقته اياهم، فسمعها بهيم فقال: يا أخي والله ما هو بذاك وما هو الا اني ذكرت بها الرحلة الآخرة وعلا صوته بالنحيب, فقال لي صاحبي: ما هذا بأول عداوتك لي، ما لي ولبهيم, إنما كان ينبغي ان ترافقوا بين بهيم، وبين داود الطائي، وسلام أبي الأخوص، حتى يبكي بعضهم الى بعض، فيستشفون او يموتون فلم ارفق به وأقول له: لعلّها خير سفرة سافرتها، وكل ذلك لا يعلم به بهيم، ولو يعلم ما صاحبه، فخرجا وحجّا ورجعا، فلما جئت أسلم على جاري، قال لي: جزاك الله عني يا أخي خيراً، ما ظننت ان في هذا الخلق مثل أبي بكر، كان والله يتفضل عليّ في النفقة وهو معدوم وأنا موسر، وفي الخدمة وأنا شاب وهو شيخ، ويطبخ لي وأنا مفطر وهو صائم.
قلت: كيف كان أمرك معه في، الذي تكرهه من طول البكاء؟ قال: والله ألفت ذلك البكاء وسرّ قلبي حتى كنت أساعده عليه، حتى تأذى بنا الرفقة، ثم ألفوا ذلك فجعلوا إذا سمعونا نبكي يبكون، وجعل بعضهم يقول لبعض: ما الذي جعلهم أولى بالبكاء منا، والمصير واحد؟.
فيبكون ونبكي ثم خرجت من عنده وأتيت بهيماً، وقلت: كيف رأيت صاحبك؟ قال خير صاحب، كثير الذكر لله عز وجل، طويل التلاوة، سريع الدمعة، جزاك الله عني خيراً ]2: 254 255[.
|
|
|