فراق رمضان فوزية أبو خالد |
يأتي شهر رمضان كل عام فلا تفقده السنوات حرارة الاستقبال ولا يخفف اللقاء الخاطف لوعة الوداع.
ولا أذكر منذ ودعت أصابعي نعومة اللعب بالرمل واستسلمت لوحشية اللعب بكبريت الكتابة أن أتى رمضان دون ان تفتك بكفي رغائب الكتابة عن هذا الشهر وتعذبني في الوقت نفسه مراوغة اللغة عن الامساك بذلك الشجن الشفيف الذي يثيره هواء هذا الشهر في المناخ العام والخاص, فلا تكسبني كثرة المراس ولا ملكة الادب القدرة على استلهام هديل هلاله الناحل في دمي حين يطل وحين ينحدر باتجاه الرحيل.
يأتي رمضان كل عام معتزاً شامخاً فينفض أرواحنا من عثث العمر, ينقي جوارحنا من أشواك الشر, يخيط جروحنا من اظلاف البشر، ينصفنا من شهوة التسلط على انفسنا وعلى الآخرين, يعقم البيئة من التلوث الاجتماعي وفيروسات السياسة.
بعنفوان يخلع مجيؤه عن جلودنا تلك القمصان المتيبسة من قلة الاغتسال ويجري الماء في عروقنا من جديد.
يأتي رمضان فيحرر الصوم عضلات وجوهنا من استعباد العادات الفمية التي نمارسها دون داع غير ملء فراغنا الداخلي.
يأتي رمضان فتفك صلاة التراويح وصلاة التهجد تصلب المفاصل والتعصب الذي نعاني من السكوت عنه طوال العام كما تعاني الشعوب المستضعفة من السكوت على المستقوين عليها.
يأتي رمضان فتوضىء الصدقات اموالنا القليلة من نواقض الاستعفاف والتلاحم، ونقلم اظافر الثراء الفاحش بشيء من المشاركة.
يأتي رمضان فيشفى ترتيل القرآن ودعاء الختمة الشجى ضمائرنا من مرض النوم وحالات الغيبوبة المستعصية.
يذهب رمضان فتنفك شياطين البشر من مرابطها تستعيد الذئاب البشرية انيابها الزرقاء, يعود طاعون القطيعة الاجتماعية لينتشر دون وازع بين الاحياء في المدن والقرى معاً.
تعوض النفوس الضعيفة ما فاتها في هذا الشهر من آفات الضعف.
تتربع المصالح الشخصية على العروش التي كانت قد اخلتها مؤقتاً في هذا الشهر حياء منه او مجاراة للجو العام، يتقدم الاستئثار على الايثار بسنوات ضوئية في مارثون العلاقات الاجتماعية من قمة الهرم الى قاع القاعدة وتنشط ميكروبات اليأس السياسي وحميات الاحباط وتعيث نزعات الاستهلاك فساداً في البلاد وفي نفوس العباد بما يزيدها انحناءً لمصادر الاستيراد او لبائعي وهم الثراء.
يحين رحيل رمضان هذا العام ونحن نخطو في الضفة الاخرى من الماء خطواتنا الأولى على طريق الفية ثالثة, فأي مفارقة تلك التي تجعلنا ونحن في شهر انتصاراتنا التاريخية لا نعرف ما اذا كان علينا ان نلتفت الى الامام او الى الوراء,, علنا نعثر على موطىء قدم في المشهد العالمي.
يأتي رمضان فيكشف داخل انفسنا عن طاقات خلاقة كامنة او خاملة غير مستخدمة بتاتاً في حياتنا اليومية خارج الحضور الرمضاني، طاقات من الصبر والحلم والايثار والمشاركة والشفافية, ولكن لا ادري كيف بعد هذا التدريب الارادي المكثف لمدة شهر كامل على التحكم العقلي في سلوكنا الشخصي والعام نستطيع ان نفرط في هذه الطاقات برعونة طائشة وكأن هذا الشهر لم يكن الا لحظات من الفطام المؤقت نعود بعدها الى استعباد العادات.
أقلب وجهي في السماء أرى مُهر هذا الشهر الرمّاح يطوي آخر أشرعته مسرعاً مبتعداً عنا,, أشعر بلوعة الفراق تسري في أوصالي كسم مصفى, أستصرخ الوقت كيف يذهب برمضان ويتركني أحيي الليل وحدي مع وحشة الكتب او شاشة الانترنت, استوقف المهر واستحلفه بالله ثلاثاً ان يترك اثراً من وبره او صهيله من عناده وقوة ساقيه من سموه وشفافيته في حياتنا اليومية لنتبلغ به في ايامنا القادمة لئلا تستسلم أرواحنا مرة اخرى لانحناءات المصالح ولملذات او مذلات الخضوع لغير الله.
* * *
تعليق:يصدق على كل من يلتسن وفلادمير بوتين قول أسوأ خلف لأسوأ سلف, ورغم انتشار رائحة طبخة الصفقة القذرة التي تمت بين الطرفين المتورطين في الوضع الروسي الحصين, على المستويين السياسي والعسكري وولوغها الوحشي في دماء الشيشان بدافع التعصب الديني مهما اعطى من زخرف الأسماء, ورغم ان تلك الرائحة المشبوهة كشفت عن التعهدات المريبة التي حصل عليها يلتسين بعدم ملاحقته قضائياً على جرائمه المالية والاقتصادية والسياسية والعسكرية التي ارتكبها في حق بلاده فان سقوط يلتسين او ما سمي باستقالته يعد تجديداً لأمل الشعوب بان قواد المهازل التاريخية مثلهم مثل قواد الهزائم لا يمكن ان يستمروا في كراسيهم الى الأبد مهما أجادوا لعبة توازن القوى لأن هذه اللعبة بدون فضاء ديموقراطي تصبح لعبة خطرة اخطر من مشي المهرج برجل واحدة على عدة حبال معلقة في الهواء وحسب الرؤية الخلدونية فانه غالباً ما ينقلب فيها السحر على الساحر ولو بعد حين.
***
شمس منتصف الليل:يا لجبروت وسذاجة الكتاب عندما يقفلون صمامات قلوبهم على آلامهم ليكتبوا عما يظنونه واجبا اجتماعيا او التزاما اسبوعيا.
كان توجع ابنتي والطبيب يعالج جرحها المفاجىء يعصر عمري, خرجت من غرفة الطوارىء وخبأت هلعي وقلقي على تلك الشمس المندلعة في سهري الى ما بعد منتصف الليل تحت اظافري وعدت لمواصلة كتابة هذه الزاوية لهذا الخميس,, وكل عام وانتم بخير.
|
|
|