من المصادفات المثيرة في حياتي أن قرأت رواية نجيب محفوظ (خان الخليلي) في رمضان وكأنما هناك اتفاق بين الموعد الذي يجب أن أقرا فيه هذه الرواية وبين الشهر الكريم, فالذين قرأوا هذه الرواية يعرفون أن زمن الرواية (الخارجي) يقع في رمضان، عندما انتقلت عائلة الموظف أحمد عاكف من حي السكاكيني المهدد بالحرب إلى حي خان الخليلي الديني المعروف في مدينة القاهرة, كنت حينها مبتدئا في مسألة القراءة, ومنذ ذلك الحين تداخلت أو ارتبطت تلك الرواية في ذهني مع تطوري العاطفي, ومع تنامي العمر تتنامى الذكريات وتختلط حتى تتداخل في بعض الأحيان, ولاشك أن القارئ المتمرس في قراءة الروايات الكبيرة سيجد أن هناك ذكريات مترابطة بين ما يقرأه وما يتخيله وما عاشه في الواقع, فالحياة عند قراء الرواية تتداخل أجزاؤها الحقيقية في بعضها حتى يصعب الفصل بين المتخيل والمعاش والمقروء, ثلاثة أجزاء تشكل مادة واحدة كلما تقادم العهد بها, حياة المرء الحقيقية هي في المحصلة مجرد ذكرى مركبة, فالحاضر الذي نعتقد انه هو قوام الحياة التي نعيشها هو في الواقع وهم يستدرجنا، لأنه يتساقط في كل لحظة بل في اقل من لحظة ليصبح ذكرى, فالأسطر التي سبقت هذه الكلمة التي تقرأها الآن أصبحت جزءا من الماضي بالنسبة لك, وحتى لو أردت أن تستعيدها باعادة القراءة لا يمكن أن تستعيدها كما كانت لأنها ذهبت في داخلك واقترنت بأشياء لم تتوافر فيها, لكن الشيء الوحيد المستعاد دائما هو الرواية, فالرواية تجمد الشخوص كما التقيتهم لأول مرة حتى أنهم في بعض الأحيان يشكلون حصنا لماضيك تلجأ إليه كلما تقادمت بذاكرتك العهود, ففي اللحظة التي تفتح فيها رواية قديمة قرأتها في وقت من أوقاتك القديمة ينكشف لك الماضي بالكامل وكأنه لم يتحرك, طبعا لكل إنسان علاقة بالماضي بطريقة أو أخرى، ولكن جميع الناس تقريباً يشتركون فيما يعرف بالحنين , وهو مجموعة من العواطف قوامها الرغبة في العودة للماضي مع قناعة مطلقة بالمستحيل, فهو إذاً شرك وفخ يقع فيه الوجدان الانساني, ولكن من حسن حظ قراء الرواية أنهم يملكون زمنا متكاملا حيا تتجمد عنده الأزمنة الماضية التي عاشوها, فالحياة هي منعطفات تنتصب في كل منعطف رواية, فعندما أعود وأدرس تشكلات عواطفي خلال ثلاثين سنة مضت أجد أن هناك رواية معينة تتجمع عندها فترة من حياتي, وكأن كل رواية تمضي بي إلى رواية أخرى أو تختزن فترة من حياتي, ولكن تبقى رواية خان الخليلي بصفتها أول رواية أقرأها بوعي متميزة عن غيرها من الروايات فمن خلالها بدأ وجداني يعرف كيف يشكل ذكريات تتداعى لتتكئ في النهاية بكامل ثقلها على ميوعة الحنين, وهي المرحلة التي ينتقل فيها المرء من الطفولة إلى البلوغ, والمشكلة في هذه الرواية رغم واقعيتها أو انتسابها للواقعية إلا أنها تنطوي على وجودية متخفية, فهي تقوم في الأساس على حياة رجل وفر لنفسه كل المبررات ليقود حياة فاشلة حتى قال أحد النقاد، لا أتذكر اسمه، ان نجيب محفوظ قسا كثيراً على أحمد عاكف, في تلك الفترة لم يجتذبني أحمد عاكف حيث كان في الأربعين من عمره فالذي اجتذبني هو شقيقه الذي كان مقبلا على الحياة كما اجتذبني الموقف الوجودي الذي تشكل من صراع حياتين بطريقة لم يكن هناك اي فرصة لتفادي الكارثة, ففي الوقت الذي وصلت فيه عائلة احمد عاكف لخان الخليلي لتستقر بسبب ظروف الحرب التقى وهو اعزب في الاربعين بفتاة اظهرت له ميلا وعندما بدأ يفكر في الزواج منها وفي الوقت الذي كان يعيش حالة تردد كما هي طبيعته عاد شقيقه الاصغر اللعوب من مدينة اخرى وانضم للعائلة، وعلى الفور لاحظ الفتاة واستدرجها واستمال قلبها دون ان يعرف انه كان يدمر شقيقه ويجهز على اخر آماله في الحب والحياة )Irony(, والشيء الذي ربطني بالرواية غير قصة الحب هذه ان هناك بناء استشرافيا كبيرا قامت عليه الرواية عندما اخذ نجيب محفوظ يمرر الشابين في لقاءاتهم المتخفية عبر طريق يمر الى جوار مقبرة كانا في اول الحياة كما كنت عندما قرأت الرواية لذا لم يفطنا بروح الشباب للمصير, فتنامت علاقة الحب بين الشابين على خلفية المقبرة وكأن المقبرة ايقاع حزين يطاردهما, حتى جاءت النهاية واصيب الفتى بالسل ومات والشيء الذي يكثف رغوة الحنين في هذه الرواية انه في اللحظة التي بدأت فيه الاسرة تلملم عفشها وتغادر خان الخليلي الى الابد شاهد احمد عاكف الفتاة تسير بغفلة الشبان وبمرحهم وكأن شيئا لم يحدث, كنت انا والفتاة متماثلين في العمر في تلك الايام ولكن عندما عدت الى الرواية هذا العام وقرأتها وجدت الفتاة ما زالت على مرحها وكل شيء كان في مكانه كما تركته قبل خمس وعشرين سنة الا عبدالله بن بخيت فقد لاحظت انه تدهور في مزيد من الحنين.
لمراسلة الكاتب:
yara 2222* hotmail. com