ارتباط المسلم بتاريخه يفرض عليه في هذه الايام المباركة الالتفات الى سير رجال عرفوا بالترفع عن بريق الدنيا، فعلقت ابصارهم بالآخرة وخلت قلوبهم من التعلق بالدنيا، فقد جعلوا الزهد منهجا وسبيلا، فلم يأخذوا من الدنيا الفانية الا ما يقيم الاود ويستر الجسد، ومن اولئك الذين زهدوا في الدنيا خلفاء تُساق الى بيوتهم الغنائم، فيصرفونها الى بيت المال، ويعيشون على ما كانوا يعيشون عليه قبل الخلافة، فهذا أبو بكر الصديق صاحب الاموال الطائلة في الجاهلية يتولى الخلافة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فتدين له الجزيرة العربية، وتساق الى بابه الاموال، من غنائم اليمامة، والبحرين، واليمن، فيصرفها الى بيت المال، ويعيش واحداً من الصحابة، لم تلهه الغنائم، لأن همُّه الآخرة، لقد وجه قواده: خالد بن الوليد، وأبا عبيدة بن الجراح، وعمرو بن العاص، ويزيد بن أبي سفيان، والمثنى بن حارثة، إلى الشام، والعراق، فتتوسع الفتوح، وتكثر الغنائم، وتساق الى مدينة الرسول، فلم تغير من حاله، وانما يسخرها لقوة المسلمين في جهادهم، وهذا عمر بن الخاب جاءت إليه الدنيا صاغرة، فترفع عنها، لقد سيقت إليه غنائم القادسية، وأموال كسرى وغنائم فتوحات الشام، ومصر، فبقي على زهده في الدنيا، لم يتخد داراً واسعة، ولا مركباً موطأً ولاطعاما لذيذا، ولا ملبسا متميزا فداره من أوسط دور المدينة ومركوبه البعير، ولباسه ما يلبسه الصحابة، وطعامه كِسَرُ البعير، وخبز الشعير، حتى ان بعض ولاته يقول: إنني أتجوع لطعامه حتى أستطيع الاكل، وقد قالت عائشة رضي الله عنها في انصرافه عن الدنيا ترأمه ويصدُّ عنها وتصدّى له ويأباها، ثم ظعن عنها على ذلك , وقد نقش على خاتمه كفى بالموت واعظاً يا عمر ومن الذين اشتهروا بالزهد من غير الخلفاء حذيفة بن اليمان، فقد ولاّه عمر بن الخطاب رضي الله عنهما المدائن، وبها قصور كسرى، فلم يلتفت الى ما كان عليه الفرس، من المراكب، والملبس ، والمعيشة، وسعة الدور، والفرش، وإنما بقي على معيشته مدة ولايته، وقد استدعاه عمر الى المدينة، فلمّا علم بقرب قدومه خرج ليعارضه في الطريق، فلما رآه على حاله التي كان عليها وقد نزل حذيفة عن حماره عانقه، وقال: أنت أخي وأنا أخوك، لأن عمر بن الخطاب أعجب بزهد حذيفة مع وجوده في بلاد تدفعه الى المعيشة الرخيّة، ومن الزهاد ضرار بن الازور صاحب الاموال الكثيرة في الجاهلية، فقد أسلم، وزهد في أمواله، ونذر نفسه للجهاد، ولم يلتفت الى الدنيا التي كان يسعى إليها بجدٍّ قبل اسلامه, ومنهم أبو ذر الغفاري، جندب بن جنادة، السبّاق الى الاسلام، فهو خامس رجل أسلم، وقد زهد في الدنيا، وكان ينكر على اصحاب المال التوسيع على أنفسهم في المعيشة، والملبس، والمركب، ومنهم الخليفة عثمان بن عفان، ومعاوية بن أبي سفيان، وعبدالرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله وغيرهم من كبار الصحابة، وقد اضطر عثمان بن عفان رضي الله عنه الى اخراجه من المدينة ليسكن الربذة وهي قرية من قرى المدينة، وقد بقي فيها حتى توفي، ولم يوجد في داره بعد وفاته من المال ما يدفع قيمةً لكفنه, ومن زهاد الصحابة بلال بن رباح، مؤذن الرسول صلى الله عليه وسلم، وخازن بيت المال لنبي هذه الأمة، فقد أسلم وعُذِّب عذاباً صبر له، فهو زاهد في الدنيا متطلع الى الآخرة، مع ما يرى من الاموال التي تساق الى المدينة، وتوضع تحت تصرفه، بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم, ومنهم أبو هريرة، عبدالرحمن بن صخر الدوسي، المقدم في رواية الحديث، فقد وهبه الله قدرة على الحفظ لم تتوافر في كثير من الصحابة، فهو من القلائل الذين رووا الألوف من الاحاديث، على الرغم من تأخر اسلامه، وقد كان زاهدا في الدنيا منصرفا للعبادة حتى إن الزاهد عمر بن الخطاب عزله عن امارة البحرين بسبب انشغاله بالعبادة,, والمتتبع لسير كثير من الصحابة والتابعين، ومنهم من أوردنا شيئاً من اخباره وسيرته، يقف على اختيارهم الزهد، مع بسطة الدنيا تحت اقدامهم ومع زهدهم فلم ينكروا على غيرهم من الصحابة التمتع بما اباح الله لهم من زينة الدنيا، باستثناء أبي ذر، فقد كانت فئة من الصحابة ومنهم المبشرون بالجنة قد تمتعوا بما أنعم الله عليهم، فملكوا الدور الواسعة، والمراكب الفارهة، وأكلوا لذيذ الطعام، وتقلّبوا في الفرش الوثيرة، ولبسوا القطن الناعم، ومن هؤلاء سعد بن ابي وقاص، وعثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وعبدالرحمن بن عوف، وحسان بن ثابت وغيرهم كثير.