ليس الصوم تعذيباً للنفس كما يدعي البعض من غير المسلمين، وليس الصوم أيضاً حرماناً لها من شيء هي بحاجة اليه، بل هو رياضة نفسية وروحية معاً، يقول الاستاذ العقاد وأجاد، أصبح ابناء القرن العشرين جميعاً يزاولون نوعاً من انواع الصيام في وقت من الأوقات لصلاح البنية أو صلاح الخلق أو صلاح الجمال، ومعنى الصيام انه الكف عن شهوات الطعام وسائر الشهوات الجسدية وقتاً من الأوقات، وهذا هو الصيام الذي تدعو اليه الحاجة في تحقيق أغراض التربية النفسية، والتربية الاجتماعية، وسائر ضروب التربية النافعة, على حالة من الحالات وهي حالات عدة, ثم يخلص الى القول بأن هذه الأنواع من الصيام كلها صالحة لغرض من أغراض التربية العامة أو الخاصة يهتدي أبناء القرن العشرين ويتعلمون منه ان الآداب الدينية تسبق التحقيق العلمي الى خلق العادات الصالحة والآداب الضرورية لمطالب الجسد والروح في الجانب الخاص أو العام في حياة الانسان.
التربية على الإحساس بالناس
هذا هو الجانب الجليل في التربية بالصوم (وكل جوانب الصوم التربوية جليلة) ويهدف هذا الصيام الى تربية النفس وتقويمها وتعويدها على الصبر وتحمل المشاق وما أكثرها في دنيا الناس كما ان الصوم الصحيح يقوي الشعور بما يعانيه المحرومون (وما اكثرهم) من قلة الطعام، وفي هذا درس بليغ رائع ليشعر المسلم بشعور اخوانه الذين هم طول العام بمثل حال الصائم ويزيدون عليه انهم في الأعم الاغلب لا ينتظرون إفطاراً شهياً ومبالغ فيه في كثير من الحالات.
إن الصيام الواعي فيه وحدة للقلوب والمشاعر والضمائر لينشأ من ذلك المجتمع المتماسك المتعاون المتلاحم، المتسامي الى مستوى ارفع في آدميته وإنسانيته، إن الصوم الواعي حقاً هو ذلك الصيام الذي يخرج الفرد المسلم من ضائقة الأنانية والأثرة وحب الذات، ومن دائرة الطفولة البشرية الى دائرة المجد والرشد الانساني المتميز، ان وحدة الشعور والروابط والمناشط هي سمات وعلامات ومميزات المجتمع المسلم المتراص المتضامن، والصدقات والأعطيات والبر والمعروف والإحسان بوجه عام دليل على صدق إيمان العبد، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في حديث الحارث الأشعري في مسلم والصدقة برهان، حيث النفس غالباً مجبولة على حب المال وجمعه فإذا تغلب المرء على نفسه كان ذلك دليلا على ان هذا الانسان يقدم مراد الله على مراد نفسه (ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) والمسلم بهذا يقتدي بصفوة الخلق محمد صلى الله عليه وسلم كما ورد في حديث بن عباس: كان أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان قال العلماء رحمهم الله تعالى: وإنما تضاعف جوده وكثر في رمضان لأسباب ثلاثة:
1 أولها شرف الزمان وهو رمضان حيث انه شهر تضاعف فيه الحسنات فيتقرب المسلم فيه الى ربه عز وجل بكثرة الأعمال الصالحة الرابحة.
2 ثانيهما: كثرة قراءته صلى الله عليه وسلم للقرآن في رمضان كما ورد، والحياة مع القرآن ومعطيات القرآن نعمة عظيمة، وفيه آيات بينات كثيرة تحث على البذل والعطاء والبر والمعروف والصدقة، كما انها تحث المسلمين على التخفف والتقلل من الدنيا وإيثار الكثير الباقي على القليل الفاني وبيع الخسيس بالنفيس.
3 ثالثهما كان صلى الله عليه وسلم يلقى جبريل في كل ليلة من ليالي رمضان فيدارسه القرآن، ويلاحظ في هذا الأخير أن مجالسة الصالحين والعباد وأهل الورع والتقوى فيها خير كثير وتحصين للفرد المسلم وتزيده في إيمانه وورعه وتقواه، وتحث المسلم دوماً على فعل الخيرات وترك المنكرات وهذا حاصل ومعروف، وقد ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم مثالين حسيين لكل من الجليس الصالح وجليس السوء وبيّن أثرهما الكبير والكثير على المجالس والمخالط، وهو ما يسمى عند التربويين بالقدوة الصالحة وغيرها: حقاً إنه صلى الله عليه وسلم أجود الناس والحديث عن جوده ووده لأمته ورحمته بهم وشفقته عليهم وعطفه على محتاجهم ولقد كان عليه الصلاة والسلام لا يرد سائلاً إلا ألايجد شيئاً يعطيه اياه وبلغ من جوده ان السائل أحياناً يسأله ثوبه الذي يواري جسده الشريف فيدخل بيته ويخرج وقد خلع الثوب فيعطيه السائل، وليست حاله كما يتصور البعض أن لديه ثياباً كثيرة بل العكس هو الصحيح لكنه الجود والكرم وقد تخرج من مدرسته العظيمة من عناه شاعرنا العربي بقوله:
ما قال لا قط إلا في تشهده لولا التشهد كانت لاؤه نعم |
وقال شاعر آخر في نفس المعنى:
ولو لم يكن في كفه غير روحه لجاد بها فليتقي الله سائله |
وكان صلى الله عليه وسلم كما وصفه الثقاة يعطي عطاء من لا يخشى الفقر فقد أعطى وأجزل وفي مواقف عديدة وكلها تنم عن تربية مثلى لهذه الأمة تربية ماجدة رائدة قاصدة، اعطى صلى الله عليه وسلم غنماً بين جبلين وهو وكثير من اصحابه في مسيس الحاجة الى الطعام والكساء، ولقد صدق عليه وحده دون سواه قول الشاعر:
تراه اذا ما جئته متهللاً كأنك تعطيه الذي أنت سائله |
ورمضان لدى المسلمين لا شك انه شهر البر والصلة، حيث الملاحظ ان الصائم فيه تجيش عواطفه وتتعاظم أريحته ويكثر جوده وللتقوى المنبعثة من الصيام أثر تربوي جيد في انكسار قلب الصائم رغبة ورهبة وتذل نفسه لله رب العالمين وتزداد رحمته وشفقته، ورمضان فرصة عظيمة لتذكير الصائم المسلم بأقاربه وأصهاره وذوي رحمه فيزورهم ويصلهم ويتودد اليهم ببره وعطفه ومروءته، اذاً فالصيام مدرسة تربوية عالية المستوى طيبة المحتوى، طيبة النشر والبشر والإحسان، فهو معين الأخلاق ورافد الرحمة والرأفة والرقة واللين والسماحة واليسر وعدم العسر وهو حبل المودة القوي المتين، ومن صام صوماً صحيحاً رقت روحه وعلت نفسه وكبرت همته وجاشت عواطفه وتنامت مشاعره ولانت عريكته، ولعل من اهم أسباب ضعف الرحمة والشفقة بين المسلمين الغنى والشبع، والبعد عن الفقراء والمحاويج (كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى) فإذا جاء شهر الصيام وذاق الجوع والظمأ وعاش المشقة، بل عايش الحاجة فهذا كله يورث الاحساس بإخوانه وخلانه وأصدقائه وقرابته ومن يستطيع برهم والاحسان اليهم فينشأ لديه خلق الرحمة الذي هو هدف تربوي سامٍ يحتاج اليه هو ومن يتعايش معهم في جميع دروب حياته فالرحمة واللين مطلوبة من الجميع تربوياً واجتماعياً فالوالد مع أولاده مطلوب منه الرحمة والشفقة والعكس صحيح، والرحمة مطلوبة من الرئيس مع من يعملون معه، كما انها مطلوبة منهم تجاهه ايضاً والرحمة مطلوبة من المدرس مع تلامذته فيعاملهم بالارفق بالحسنى ولين الجانب ليحبوه ويحترموه وينشغفوا بعلمه وفكره والرحمة مطلوبة من الجيران فيما بينهم، ومن الإمام مع المأمومين، والرحمة مطلوبة من المرشد والموجه والداعية، فيبين للناس بلطف وشفقة فلا يفضح ولا يجرح ولا يشهر ولا يتصيد الاخطاء ولا يروع والاصل في هذا قول الحق سبحانه (فقولا له قولاً لينا لعله يتذكر أو يخشى).
وقال جل ذكره (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة) وجادلهم بالتي هي أحسن، وقال تعالى (قل هذه سبيلي أدعو الله على بصيرة أنا ومن اتبعني) وللامام الشافعي رحمة الله عليه قول بليغ صائب في هذا المعنى حيث قال:
تعمدني بنصحك في انفرادٍ وجنبني النصيحة في الجماعة فإن النصح بين الناس نوع من التوبيخ لا أرضى استماعه فإن خالفتني وعصيت أمري فلا تجزع إذا لم تعطَ طاعة |
أيها المسلم هل يا ترى نحن المسلمين قد عقلنا المغزى التربوي والاجتماعي من الصيام هل تجددت أواصر اللطف والعطف والحب والحنان والتراحم بين الاقرباء والتعاون بين الناس أجمعين، هل يتناسى أصحاب القلوب الطيبة ما مضى ويجتمعون بعد فراق وشقاق (إن وجد) ويتصافون بعد كدر وانقباض هل تذكر المجتمع المسلم حال الضعفاء والبؤساء في كل مكان حتى تشمل الفرحة كل فرد وتعم البهجة كل بيت وتعم النعمة كل أسرة هل أُطلقت الايدي الخيرة من عقالها، فلا تشرق شمس يوم العيد ولا ينقضي رمضان الا وقد تغيرت أحوال المسلمين فكانت البهجة تغمر قلوب أمة محمد صلى الله عليه وسلم قاطبة، واذا بأبناء الملة الواحدة يشتركون في السراء والضراء، والمجتمع السعيد هو الذي تعلو أخلاقه وتسمو صفاته ويبدو دوماً جسداً واحداً وعقلاً واحداً، ويذكر دوماً أبناؤه مصائب اخوانهم المسلمين في كل قطر ومصر حين تنزل بهم المحن والإحن، لا شك ان المسلمين في رمضان يعطون ويبذلون لكنه يحتاج الى اكثر من ذلك، لما نرى من مظاهر السرف والترف أحياناً، والبعض منا يكتفي بالعطاء القليل مع انه يملك ويستطيع بذل الكثير, أيها المسلمين هل بحثت عن الأسر والبيوت المستورة والمغمورة وقد يكونون من أقرب الناس اليك, أيها المسلم اذا عطشت في نهار رمضان فتذكر مئات الآلاف من المسلمين شرقاً وغرباً ظمأى تنتظر ودك ورفدك تنتظر جرعة ماء فهل تساعد في سقياهم ايها المسلم اذا احسست بالجوع في نهار رمضان فتذكر آلاف البطون جوعى تنتظر طعمة او لقمة فهل تكون مطعماً هل تكون ممن قال الله فيهم (ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً) هل تذكرت أيها المسلم وأنت ترفل في أحسن الثياب أجساداً مسلمة مؤمنة مسها وأهلها الضر والعري فهل تكون كاسياً لعورة مسلم, أيها المسلم اذكر وانت يجتمع شملك بأولادك وأحفادك وأهلك واخوانك جموعاً شردها الطغيان وبغي الانسان، اذكر نعمة الله عليك في هذا البلد الطيب الآمن المستقر وأدم شكره وذكره وحافظ على مكاسب بلدك الخير المتميز ديناً ودنيا وكن بعد الله عوناً على المحافظة على هذه النعم العظيمة والمكاسب الكبيرة لبلد الخير ولا تلتفت الى الرغاء والثغاء من الأفاكين والحاقدين، والله الهادي والمعين.