كانت لاتزال نائمة حين كان يرتدي شماغه، على عجل كما يفعل عادة في مثل هذا الصباح الباكر من كل يوم دراسي ولكن اليوم عليه ايصال ابنه الى مدرسته خلال دقائق خمس فاليوم بدأ تطبيق نظام الدوام الصيفي,, وحين همّ بالخروج جاءه صوتها وكأنها تغالب نومها فتطفو على مياهه حين تستيقظ وتغرق أو تغوص ويجذبها لاعماقه حين تعاود النوم تسأله كأنها تنتشله من الاستغراق في النوم سؤالها اللامبالي كالمعتاد والمعروف جوابه سلفاً:
هل استيقظ بسام؟
ويجيبها وهو يعلم انها ربما لم ولن تسمع مايقول
هو الآن بانتظاري في السيارة.
ولم ينتظر تعليقاً كالمعتاد.
وبعد أن أوصل بسام الى مدرسته ظل يراقبه بعينيه وقلبه كأنه يودعه فهي ساعات طوال لن يراه خلالها يحيطه بنظراته الحنونة في كل خطوة يخطوها باتجاه مدرسته,, يطبق عينيه على صورته ويضمها بين جفنيه ويفتحها مرة أخرى طالباً المزيد من الشوق الممتع ومانحاً ابنه المزيد من الحب والحنان دون ان يحس بذلك يراه وهويلهو مع رفاقه يحمل حقيبته الصغيرة على ظهره الصغير وماهي إلا لحظات حتى اختفى ابنه ورفاقه داخل البوابة الكبيرة وعادت عيناه المبتسمتان برضا تمسحان آثار خطواته,, تتبعانها على الأرض على جانب الطريق ثم على المقعد المجاور له وكأنه مازال يراه أوهكذا خيل له,, افاق من تلك اللحظات الممتعة التي تتكرر كل يوم في مثل هذا الوقت,, نظر حوله بفتور وأدار محرك سيارته عائداً إلى بيته فمازال الوقت مبكراً على بداية عمله اليومي,, وحين توقف امام منزله تساءل عن سبب عودته لمنزله واحس بالملل والضيق يضيقان عليه الخناق أكثر من ذي قبل وهو ينظر لساعته حيناًولباب منزله المغلق حيناً آخر.
احس بضيقه يرفض ان يصمت فقد ملّ الصمت رغم انه اختاره,, لا لم يكن باختياره بل هو سطا على كنوز القناعة لديه والرضا بقدر الله فلم يكن بيده ان يختار بعد ان فرض الواقع امره عليه احس انه يقف امام نفسه يسألها.
ماذا لو لم اعد إلى منزلي؟
اجابته نفسه بصدق وبصراحتها المعهودة وهي تهز كتفيها مؤكدة لامبالاة زوجته النائمة الآن به.
الأمر سيان,, ستبقى وحيداً.
نعم هذه مشكلته,, وضع يديه على المقود واسند رأسه عليهما احساسه الدائم بانه شخص مهمل,, مقابلة زوجته الدائمة له بلامبالاة فهو سيان لديها كان بالمنزل أم خارجه فهي الآن وككل يوم نائمة,, فقد تعود منها ,, لا لم تعوده هي بل هو اعطاها الفرصة لتهمله وشجعها على ذلك حين سلب منها مسؤولياتها كأم واضافها إلى مسؤولياته العديدة فهو لم يكن راضيا ً عن أسلوبها في احتضان عطاء عمره الأثير بل حتى أسلوبها في حياتها نفسها,, لم يكن يرضيه فقد كان يتمنى الكثير مما لم يحظ به في طفولته البائسة وحياته مع العديد من الاخوة والأخوات,, مجرد فرد ضمن عائلة كبيرة لم يكن يحظى فيها بأية امتيازات سوى كونه رجلاً ولم يكن هذا يكفيه كغيرة,, فبداخله احساس بالظلم,, بالاضطهاد والاغتراب في مجتمعه وأسرته وحتى الآن مع زوجته,, حرمه من كل شيء,, حرمه الفرصة لإثبات وجوده,, لتحقيق كيانه وطموحاته التي أحيط بها شعوره بعدم الاهتمام وحتى حين رغب بالزواج أحس بآماله تنمووتترعرع,, وخشيت احاسيسه بالظلم والاضطهاد ان تنتهي على يد شريكة حياته المنتظرة وبلسم آلامة كما تمنى لكن تلك الآمال مالبثت ان ذبلت واصفرت وانقلب خوف احاسيسه من النهاية إلى انتصار ورغبة بالتمدد والاسترخاء داخل نفسه المتعبة فقد كانت زوجته تريده استمراراً لحياتها السابقة تريد ان يمنحها هو الحياةوالحب كملكة متوجة في عرش قلبه وخلية عمره,, كانت تريد وتريد دون ان تفكر بلحظة عطاء تروي بها لحظة من سنين عطشه وحرمانه,, كانت صدمة قاسية احالته لشخص آخر,, لم يكن شخصاً آخر بل هو استمرار ممل ومقيت لعدم احساسه بالاهتمام الذي كان يستحقه ولافتقاده للحب,, الحب هو ماينقصه بالتحديد فهو أحب الجميع جميع من حوله واحب زوجته ولكنه لم يشعر يوماً بحبها له,, باهتمامها,,برعايتها وعنايتها به فقد كانت دوماً الأهم والأولى بالعناية من جانبه,, وحين زفت إليه البشرى بقرب قدوم طفلهما الأول كانت تبارك لنفسها قبل أن تبشره,, أحس هو بذلك كما أحس به طوال فترة حملها اثناء عنايته الفائقة بها وخدمته المخلصة لها وتقبله بكل صنوف الأنانيه منها,, دون لحظة عطاء واحدة منها,, كان يتمنى لو أحس بها يوماً تخبره عن حبها له,, عن شوقها إليه ولو لم يكن صادقاً عن شكرها له وتقديرها لاهتمامه بها ولكنه دوماً يحظى بالطلبات,, والأوامر,, والرغبة في المزيد من العناية,, وحتى تلك اللحظة الوحيدة التي أحس بها انه ولد من جديد حين رأى ابنه لأول مرة ترفض ان تمنحها له مرة أخرى فهي ترفض بشدة أن يقاسمها أحد ما ولو طفلها هي عنايته واهتمامه وهو لايريد ان يكون ابنه صورة منه بل يود تلافي جميع ما تعرض له في سنين طفولته الماضية ورغماً عنه احس بنفسه يأخذ مسؤولياتها رويداً رويداً ويضيفها لمسؤولياته العديدة فهو يحاول الجمع بين الدورين دورها كأم ودوره كأب,, كان كمن يحاول تعويض النقص في أمومتها بزيادة جرعات ابوته,, ورغم احساسه الممتع بالحنان تجاه فلذة كبده حين يطعمه بيديه ويحمله,, يضمه لصدره ليبعده عن والدته التي ترغب دوماً في القليل من الراحة,, وينام وهو يعانقه,, ورغم انه ظل طوال العمر ابنه ذو السبع سنوات يؤدي نفس الدورين بحرص شديد وقد اضاف إلى مسؤلياته إيقاظ ابنه بسام صباحاً وتهيئته كل يوم لليوم الدراسي الجديد بينما تكتفي هي بسؤالها اليومي المعتاد حين يتهيأ للخروج والذي تعرف جوابه سلفا:
هل استيقظ بسام؟
وتنام دون ان تسمع اجابته ودون ان يفكر بالإجابة عليه,, إلا أنه الآن يحس بالتعب,, يود لو يأخذ يوما واحدا فقط إجازة من هذا المسلسل الطويل والجميل فلا شيء يوازي حبه لولده ولكنه نسي,, أو فقد شيئا مهما في حياته وهو احساسه او فقدانه للحب والاهتمام ورغبته في تلقي الحنان كما يعطيه فذلك التجاهل منها يحبطه ويفقده الأهمية في حياتها ويقلل من شأنه امام ابنه فقد سلب منه دوره الأمومي جزءا من دوره الأهم كأب فاحس الآن وبعد هذه السنين انه لم يتقن أياً من الدورين ورغم ذلك لم يتغير شيء في حياته لاهو تخلى عن مسؤولياته ولاهي احست بما في داخله ومنذ قليل كان ككل يوم يوصل ابنه إلى المدرسة ويستمتع بتعقبه حتى يغيب عن عينيه فيعود ليستدل بآثاره حتى يتوصل إلى الحقيقة التي تيقظه من مشاعر حبه اللامتناهي لابنه ولكل من حوله وتعيده إلى الواقع,, وعاد ليتابع واقعه فينظر إلى ساعته وهي تشير الى السابعه والنصف صباحاً موعد ذهابه إلى عمله اليومي أدار محرك سيارته وانطلق,.
مها الزبيري
*فضلت صديقة الصفحة مها الزبيري ان تمنحنا حرية اختيار عنوان لهذه القصة فاخترنا هذا العنوان (ستبقى وحيداً) تعبيراً عن معاناة بطل القصة الذي فقد الاحساس بالحب من زوجته أقرب الناس إليه,, ولكنه وجد هذا الحب في طفله الصغير الذي منحه كل الحب في حياته.
القصة في مجملها تطرح تصوراً للزوج المغلوب على امره,, واستطاعت الصديقة مها أن تصف لنا شخصية البطل المتسمة بالقلق والضياع واللامبالاة التي شعر بها بعد ان فقد كل إحساس لديه تجاه زوجته.
نهاية القصة جاءت حاسمة وقاطعة,, ومعبرة عن شخصية البطل المسالمة جداً,, والذي لم يجد حلاً سوى القناعة والرضا بتقبل الأمر الواقع,, و(أدار محرك سيارته وانطلق),.