يا سيدة النَّقاء والصَّفاء,.
والمدن التي انطوت مع آخر شلاّلات مطر الضوءِ والضياءِ والنُّور والوهج,.
جلستُ كثيراً فوق أريكة الزَّمن الجميل الذي مَنَحتِني فيه زمَنكِِ، وأنتِ تُحرِّكين قافلة الطريق وتهمُسين بعينيكِ إلى بوح الخفايا,.
كان الدربُ طويلاً قصيراً، ليليٌ نهاريٌّ، لكنَّه مليء بالأحلام، مَطيَّتُكِ إلى مدن السعادة، تلك الأحلام التي رسمتِها,, مررتِ معي بها بتلك المدن الخرافّية على جانبَيّ نهركِ، حين ذاك كانت مدينة افلاطون تستهويكِ، توقفتِ عندها، أشرعتِ سرُوجكِ بسطت يديك,, كأنما كنتِ تفرشين ملاءةً من وهجٍ,, رأيتُ تفاصيل كلِّ ذرةٍ فوق أرضها، فسفوريةٌ، عسجدية، خمائليةٌ، بهيةٌ، قزحيةٌ،,, وآه,, ترددينها بصوتٍ فيه بحَّة، تمدَّد حتى مسح على الأرجاء كلِّها، فتطاولت شجرات الحب، والصدق، والعمق،,, و,, الحسرة كانت في تعاطيف آهتكِ، كيف يلتقي الجزء بالجزء، ولا ينفر الجزء من الجزء إلا في معادلة المدن الفاضلة، والنفس الفاضلة، والكلمة الفاضلة، والحس الفاضل،,, وكل ما هو فاضل,, وحين أعدتِ يديكِ إلى مكانهما كانت الفضائل كلُّها قد كوَّنت منظومةً واحدة في بقعة الطريق الطويل الذي عَبرناه معاً,, لا أدري لماذا عندما مرّت المحطات وتعسجد الطريق برائحة الصندل الذي كان منثورَ قدميكِ,, ومسح الليل عيني الكون فكحَّلهما، ومسح الصبح بوجهه فأشرَقه، لا أدري لماذا توقفتِ، وترجَّلتِ، ومن ثم حملتِ أشياءكِ وأودعتِها سرَّ الكون في كون السرِّ,, ومضيتِ، تركتِ لي رائحة المدن وطعم الفضائل ورائحة العسجد,, وبحَّة الآهة تشرخ تشرخ حادةً في نصل الحسِّ، تذكرتُ أن مدن الفضيلة قد أُغلقت,, وأصبح الدخول إليها بإذن منكِ وحدكِ,,.
أتدرين أنني كلما اشتقتُ إلى المرور بهذه المدن حملت زوادتي ومضيت إلى حيث دربك الطويل اللّيلي النّهاري,, ولا أجد ما يرافقني فيه إلا أنتِ، أدري أن لكِ قدرة عجيبة على أن تكونينني,, ولأن تستقبلي مني ما أكون في اللحظة,, ومعي,.
سأحدثكِ عن لحظة ما ذهبتُ فيها أتملى الألوان,, أخاطبُ الأرض وذرات ما فوقها، أعرج بكل مرتفع ومنخفض مررنا به معاً، أتطلعُ إلى كلِّ عالٍ وخفيض رميتِ فوقه ثوب دفئكِ، أستعيدُ ذبذبات الهواء الذي امتلأ برائحة أنفاسكِ، أطرِّز مع كل لون لامس شيئا منكِ، غطاء الطريق كي يظل في كنفكِ,,، فعلتُ ذلك فعلتُ,,، وبكل صدق هاتفني الطريق، كلُّ لحظةٍ في حركة اللَّحظة فيه قالت لي,, كلُّ الكلام أختُصِر في نبضة حسٍ بكِ,, تذكرت ما قلتِ:
هذه الأنهار التي تجري,, وتلك الشلالات التي تنحدر، والجبال وهي تنتصب عالية وترتفع خفيضة، والسماء اللازوردية الهائمة في ملكوت الفضيلة، والأرض وهي منبسطة في بوتقتها قدرة عجيبة على أن كل شيء في لا شيء، أن يسمع ولا يسمع أن يرى ولا يرى,, أن يتنامى,, يتنامى,, حتى لم يعد هناك من قول لم يُقل، أو أمل لم يَرِد، أو أمنية ولم تتكوّن,.
مددتِ إلي يديكِ,, حملتاي استقل معكِ المركبة، ونبحر ضاربتين في بحر هو نهرك، في ملكوت، هو سماؤكِ وأرضكِ، في تناهٍ بين نبضة الرمشة، ورمش النبضة، طوينا معاً كل المسافات، وأبعاد اللحظات، ومسافات المحطات، وجاءنا الزمن بمدنه وتوقف,.
هنا لا أملك أن اقول لكِ شيئاً غير الذي هو منكِ,.
ولا أستطيع شيئاً غير الذي منحتِه أنتٍ,.
ولا أعهد أمراً لم تكنُي قد شكَّلتِ فيه نقطة البدء، او قفلة النهاية,.
وآه,.
أتذكرين عندما كنتِ تقولين: لا نهاية فالدرب كلُّه بدايات؟ كنتِ تؤكدين على نظرية الاستمرار,, وأن شيئاً لا ينتهي بانتهاء شيء,, لكنك سيدة التكوين والابتكار، ألم تخُطِّي فوق طاولات الزمن في المدن التي مررنا بها أن بداية كل شيء هي بداية كل شيء، وأن الشيء هو بداية لكل شيء، وأن شيئاً لن يكون دون أي شيء، وأن أي شيء لا يكون دون شيء هي معادلتكِ الخرافية التي كانت منطلق البدء حتى وجدتكِ مرسومة وموسومة في كل شيء,.
قلتِ لي: لا تترجلي، وبعدها ترجلتُ لكنني بقيتُ,.
أما أنا فقد قلت لكِ: لا تترجلي وبعدها بقيتُ,, وامتطيتُ أنا صهوة المقود كي أذهب بكِ إلى مدني,, وعند بواباتها,, وجدتكِ قد سبقتِني إليها، لم تعد مدني، لأنكِ التي سكنتِ فيها منذ عهد التكوين,.
ضحكنا معاً ونحن نلج بواباتها,, ونعلم أن لا شيء من لا شيء.
وأن الزمن الذي اختصرَته بوابات المدن,, كان منصوباً في البداية,, وفي النهاية وأن كل لحظة بينهما قد انطوت,.
وتلاشى الزمن والمحطات والمدن وكل شيء,, وبقيتِ لي القرطاس والقلم والحلم,, والأمنية,.
فالأماني مطايانا إلى تلك المدن,.
فهلَّا اطلقت آهتكِ كي أستبين الدرب الليلي النهاري الذي تتسيَّدين فيه وحدكِ الضوء، والظل والماء والبحر,, والمجداف والنهر,, والقاع والوردة,,؟,, وتنثرين الفضيلة بذوراً لبارقات القادم,,؟ يا سيدة النقاء؟.
|