وصف المستكشف الشهير الكابتن كوك قارة انتركيتيكا، قائلا: إنها بلد قدر له ان يظل مدفونا تحت جليد دائم,, وأضاف قائلا: وإذا توغل اي مستكشف في جنوب هذه القارة فلن احسده على الشهرة التي سوف يجنيها من اكتشافه, ولكني سأعلن بصراحة ان العالم لن يجني نفعا منها,, ولكن تلك القارة تعج هذه الايام بالعلماء الذين تتضاعف اعدادهم إلى بضعة آلاف، خصوصا خلال فصل الصيف، وهم يواجهون ببسالة الرياح الباردة التي تبلغ سرعتها 90كم/ ساعة والجليد والصقيع الدائم,, ولك ان تتساءل: لماذا يتحملون كل هذا؟
الجواب ببساطة : لأن هذه القارة تحتوي على كنوز علمية غير عادية، فالجليد يحتفظ بعينات فضائية قديمة مثل النيازك، والمحيط يحتوي على كائنات بحرية فريدة في تكيفها مع البيئة، والمكان يكاد يكون هو الوحيد الذي لم تلمسه بعد يد الانسان.
مكتشفو الصحراء الجليدية
وصلت حركة استكشاف قارة انتركيتيكا إلى قمتها في بداية هذا القرن، ومنذ ذلك الوقت وضع آلاف من الناس اقدامهم عليها, وطالما واجه هؤلاء الرحالة خطر الموت في الصدوع الجليدية او فقدان اجسامهم للحرارة او الجوع، علاوة على ان هناك دائما خطر الضياع في فضاء واسع لا يوجد به سوى قليل من العلامات المميزة, وعلى المسافر في هذه الارض ان يتصف بالقوة البدنية والذهنية لكي يبقى على قيد الحياة,, والامر كما يقول المستكشف البريطاني ارنست شاكلتون: (ان الصفات الواجب توفرها في المستكشف هي حسب اهميتها كالتالي: التفاؤل والصبر والتحمل البدني والمثالية,, واخيرا الشجاعة ولكن التفاؤل يبطل الاحباط ويجعل المرء قادرا على الاستمرار، ونفاد الصبر معناه كارثة,, والتحمل البدني لن يعوض الصفتين الاوليين).
ويضيف رئيس المركز البريطاني لأبحاث انتركيتيكا عوامل اخرى مثل وجود الحافز والثقة بالنفس, والمركز البريطاني لا يجري اختبارا نفسيا لمن سيعمل به كما تفعل دول اخرى، ولكنهم يعتمدون على المقابلات الشخصية وعلى اختبارات طبية دقيقة.
وقد كتب رانولف فيينس يصف المشاكل النفسية التي تعرض لها عام 1992 اثناء رحلة عبوره للقارة المتجمدة مع زميله مايك سترود قائلا: ان كليهما اراد انه يتراجع في اليوم الاول وكان كل منهما يتمنى في قرارة نفسه ان يكون الاخر هو البادىء بعذر لذلك, وظل الرجلان ثلاثة اشهر دون استحمام وهما يتشاركان خيمة واحدة، ولكن ما كان ينال منهما هي التفاصيل الصغيرة المملة مثل: من منهما يملأ ملعقته بالعصيدة اكثر من الآخر؟,, ومن زحافته أخف في جرها من زحافة الآخر؟
لقد كان كل جزء من جسميهما يصرخ بالالم ولم يكن ثمة من حل سوى شحذ طاقتهما الذهنية للتغلب على هذا الموقف,, فالامر كما يقول المستكشف ديلي ستيجر: (إن نسبة 70% من السفر الى انتركيتيكا مسألة عقلية), وفي كثير من الاحيان يصاب الناس في انتركيتيكا بالانهيار,, ففي عام 1983 احرق طبيب ارجنتيني مبنى قاعدة بلاده هناك، كما ان مكتب التحقيقات الفيدرالي اضطر رجاله الى التحقيق في شجار نشب في القاعدة الامريكية هناك، كما ارسلت استراليا وسيطا لتهدئة العلاقات التي توترت بين الستة عشر عضوا في قاعدتها هناك.
آخر بقعة في الأرض لم تلوث
تحتوي قارة انتركيتيكا على 30 مليون كيلومتر مكعب من الجليد تختزن 90% من المياه العذبة، وتمتلك الكائنات الحية القليلة هناك ميكانيزمات خاصة تعينها على البقاء، فبعض الاسماك اجسامها مضادة للتجمد,, وإذا ذاب الغطاء الجليدي فوق القارة فسوف يرتفع مستوى الماء في البحار حوالي سبعين مترا كما ان جفاف الهواء وانعدام التلوث يجعل الرؤية في هذه القارة واضحة جدا، حيث يمكنك ان ترى على بعد عدة اميال,, ولكن المشكلة هي صعوبة الحكم على المسافات, وقارة انتركيتيكا من الناحية الفعلية صحراء، فكمية الماء المتساقط على القطب الجنوبي تعادل سبعة سنتميترات في العام فقط.
وتمتلك اكثر من اثنتي عشرة دولة قواعد دائمة في القارة المتجمدة الجنوبية، هذه القواعد تعيش فيها مجموعة من العلماء ومساعديهم لدراسة هذه القارة التي تعتبر بظروفها البيئية غير العادية اكبر معمل في العالم.
يقول عالم الاحياء البريطاني كيث ريد الذي قضى ثلاث سنوات هناك يتبع الحيوانات التي تعتمد على البحر في غذائها,, (إننا نثبت اجهزة ارسال في طيور البطريق، وتنطلق هذه الطيور وهي تحمل معدات تساوي مبلغا كبيرا من المال دون ان تكون واثقا من عودة هذه الطيور مرة اخرى (وهناك طرق اكثر بساطة من الناحية التقنية مثل دراسة فضلات عجول البحر والطيور لمعرفة المعلومات اللازمة عن غذائها.
وفي جنوب القارة القطبية حيث البرودة اشد قسوة يمكن لبعض الكائنات الحية ان توجد، فعالم الكائنات الدقيقة البريطاني الدكتور ديفيد وليام، يقوم هناك بدراسة كيفية تفاعل الكائنات الحية الدقيقة مع الاشعة فوق الحمراء الناتجة عن ثقب الاوزون، وارتفاع درجة الحرارة الراجع الى تأثير البيوت الزجاجية,, وهناك مجموعة اخرى من العلماء في انتركيتيكا يقضون وقتهم وهم ينظرون الى السماء بدلا من النظر الى الارض,, يقول احدهم، وهو عالم الغلاف الجوي الدكتور جون دوديني (إننا لا نهتم بأنتركيتيكا نفسها، وإنما نتخذها رصيفا نقف عليه لدراسة الفضاء خارج حدود الارض.
الصراع حول امتلاك القارة
كلمة انتركيتيكا مشتقة من كلمة يونانية معناها (بلاد الدببة) فالدب القطبي يوجد فقط في المنطقة القطبية الشمالية, ويوجد في هذه القارة نوعان فقط من النباتات المزهرة، وليس بها اي نوع من الاشجار,, كما لا يوجد فيها اي نوع من الحشرات الطائرة اما الحيوانات الموجودة فيها فهي طيور البطريق التي تستوطن جزيرة زقادوفسكي ويبلغ عددها حوالي 12 مليونا وكذلك اسماك القد التي تعيش في المحيط والتي يمكنها ان تعيش في درجة حرارة تصل الى خمس درجات تحت الصفر ولكنها تموت اذا زادت درجة الحرارة الى خمس درجات مئوية, ومن المعروف ان المطر لم يتساقط فوق القطب الجنوبي منذ حوالي عشرة آلاف سنة كمايقدر العلماء.
اما السيادة على تلك القارة فحكايتها طويلة وطريفة، فقبل توقيع معاهدة انتركيتيكا عام 1961، كانت كثير من دول العالم تزاحم للسيطرة على مكانة في القارة القطبية بحماسة أدت الى كثير من التوتر في العلاقات الدولية,, فقد ادعت بريطانيا السيادة على شبه جزيرة انتركيتيكا عام 1908,, ولكن نفس هذا المكان ادعت ملكيته كل من الارجنتين والتشيلي في الثلاثينيات من هذا القرن، كما تنازعت الولايات المتحدة الامريكية واستراليا على شرق القارة بينما ادعت المانيا النازية لنفسها ما كانت تسيطر عليه النرويج.
ففي عام 1938 ارسل النازيون بعثة سرية الى انتركيتيكا لتأكيد سيطرتهم على هذه الارض، وقامت الطائرات الالمانية التي تحملها حاملة طائرات برسم خرائط لجزء كبير من سواحل القارة وألقت بصلبان معقوفة من المعدن في كل مكان تطير فوقه.
واثناء الحرب العالمية الثانية تزايد قلق البريطانيين من نشاط الالمان والارجنتينيين فأرسلت بريطانيا بعثة بحرية سرية جدا تسمى (العملية تابارين) لاقامة قواعد لها هناك,.
واخيرا انتهى الصراع الدولي حول القارة بتوقيع المعاهدة المذكورة آنفا والتي جمدت ادعاءات الدول الطامعة في اراضي هذه القارة وسمحت فقط بالتعاون العلمي بين الدول هناك, واستعمال القارة للاغراض السلمية قط، وقد جددت هذه المعاهدة عام 1991,, ولا يزال معمولا بها حتى الآن.
والجدير بالذكر ان البروتوكول المتفق عليه بين الدول يمنع التعدين في القارة للاغراض التجارية حاليا وفي المستقبل القريب,,
فهل ستصمد هذه المعاهدة في ظل نقص المصادر الطبيعية وزيادة السكان في العالم ,,, ؟
مترجمة عن (نوفيل اوبسرفاتوار)