العبقرية والجنون ,, وما بينهما د, عبدالرحمن بن سعود بن ناصر الهواوي |
قد نطلق اليوم كلمة عبقري على هذا الشخص أو ذاك، ونصمه في اليوم التالي بالجنون، بناء على ما يقوم به من أعمال أو تصرفات أو ما ينتجه من إبداعات, فكم من الأشخاص اعتبروا مرة عباقرة فيما أنتجوه في عالم الأدب والشعر والفن والرسم والاختراعات، ولم يسلموا من وصمهم بالجنون مرة أخرى,
ولو نظرنا إلى الإنسان من وجهة النظر العلمية لوجدنا أنه يمتلك مخاً متطوراً ومعقداً غاية التعقيد وتتجلى قدرة الخالق في صنعه.
ويمثل الجهاز العصبي في الإنسان وحدة متكاملة تركيبيا ووظيفياً، وهو وسيلة اتصال سريعة مع أعضاء الجسم الحسية والحركية لنقل الشفرات (الإشارات العصبية) في وقت بالغ القصر, والجهاز العصبي له قدرة فائقة على استقبال المعلومات والتنظيم والسيطرة الفائقة الدقة والبالغة التعقيد بالجسم وتهيئته للاستجابة لكافة أنواع التغيرات التي تطرأ نتيجة اختلاف الظروف البيئية والاجتماعية التي يعيش فيها الانسان الى جانب الاستجابة الفورية لأي نشاط مطلوب القيام به لحظة تأثير المؤثر الخارجي أو الداخلي, كما أنه جهاز عمل ووسيلة تكامل للمنبهات والمؤثرات التي يستقبلها وردود الفعل حيالها, إضافة الى أنه جهاز تآزر وترابط فيما بين أجزائه وكافة أجزاء الجسم المختلفة، فهو ينقل الإحساس من وإلى الجسم متحكماً في حركة كافة العضلات عن طريق شبكته العصبية الهائلة وتفريعاتها المنتشرة في كافة أعضاء جسم الإنسان.
قد يصاب الإنسان بأمراض نفسية يعتقد أنها ناتجة عن اختلال التوازن النفسي، أو بأمراض عصبية ناتجة عن اختلال وظيفي في عمل الجهاز العصبي.
يقول عدس وتوق (1986م): يمكن تفسير أفعال الإنسان حسب رأي الاتجاه العصبي البيولوجي عن طريق ما يجري داخل الجسم، فالأحداث النفسية تمثلها الأنشطة المختلفة التى تجري على الدماغ والأعصاب التي تربط الدماغ بالأجهزة الأخرى للجسم.
ولكن ماهية العبقرية والجنون، ورد في لسان العرب لابن منظور (1418ه 1997م ): عبقر: موضع بالبادية كثير الجن, يقال في المثل: كأنهم جنّ عبقر, وقال الجوهري: موقع تزعم العرب أنه من أرض الجن, وقال ابن الأثير: عبقر قرية تسكنها الجن فيما زعموا إذا رأوا شيئاً فائقاً غريباً مما يصعب عمله ويدق، أو شيئاً عظيماً في نفسه نسبوه إليها فقالوا: عبقري، ثم اتُسع فيه حتى سمي به السيد والكبير, وقال أبو عبيد: ما وجدنا أحداً يدري أين هذه البلاد ولا متى كانت, وقال الأصمعي: سألت أبا عمرو بن العلاء عن العبقري، فقال: يقال هذا عبقري قوم، كقولك: هذا سيد قوم وكبيرهم وشديدهم وقويهم ونحو ذلك, وقال أبو عبيد أيضاً: وإنما أصل هذا فيما يقال أنه نسب الى عبقر، وهي أرض يسكنها الجن، فصارت مثلا لكل منسوب الى شيء رفيع, والجن: ولد الجان, وقال ابن سيدة: الجن نوع من العالم سموه بذلك لاجتنانهم عن الأبصار، ولأنهم استجنوا من الناس فلا يرون.
ويقول الخولي (1976م): ينسب لفظ العبقرية الأجنبي الى الجن، فهو اسم مكان زعموا أنه موطن للجن, ولما كان الجن يتميز بالمهارة الفائقة، فقد أطلقوا اللفظ على أصحاب العبقرية والنبوغ والذكاء الخارق, والعبقرية هي تفوق في الذكاء أو القدرة الذهنية، ولا سيما في الخلق والإبداع، أو نبوغ في ملكات معينة, ويوصف صاحبها بأنه عبقري أو نابغ أو نابغة.
ويقول حلمي (1406ه 1986م): النبوغ (العبقرية): هي منطقة ضيقة جداً بين العقل والجنون، وهو أشبه شيء بوصف الجمهور للصراط، حتى أن النابغة في تعبير أهل هذا الرأي يكون كإبرة الميزان الدقيق، يميلها أقل ثقل إلى اليمين تارة وإلى الشمال تارة أخرى لا تستقر على حال، أو كرقاص الساعة لا يدري أين مكانه الحقيقي.
ويقول الوردي (1988م): ما يقال عن درجات الذكاء يقال عن درجات الجنون، فالناس كلهم مجانين، إنما يتفاوتون فيما بينهم في درجة جنونهم، فليس في البشر عاقل كل العقل، أو مجنون كل الجنون، وأكثر الناس لديهم من الجنون درجة ضعيفة، وفي مقدورهم ترويضها والسيطرة عليها، وهذا يؤدي بنا إلى القول: إن الكثير من الذين نحسبهم عقلاء هو ليسوا عقلاء تماماً، فكل واحد منهم لابد أن يكون في عقله شيء من الخلل الذي يجعله يفهم الأمور بخلاف ما يفهمه الآخرون قليلاً أو كثيراً.
ويقول مرحبا (1982م): ما الفرق بين الأصالة والعبقرية والجنون؟, إن عدداً لا يستهان به من الأشخاص ممن كانوا يوسمون في الماضي بالمجانين ضعفاء العقول قد أنصفتهم الأجيال التالية فأقرت بعمق أصالتهم وعرفت لهم فضلهم بعد أن سامتهم الجحود, وإذا كانت الأكثرية الشعبية غير صالحة لأن تكون معياراً للتميز بين الأصيل والمقلد، وبين العبقري والمجنون، فما عسى أن يكون هذا المعيار إذن؟, هل هو الاتزان؟ لكن هناك دائماً بعض النقص في الاتزان لدى أكثر الناس تماسكاً، وبعض التماسك لدى أشد الناس اختلالاً, هل هو السيطرة على الذات؟ هناك دائماً عجز في السيطرة على الذات أمام بعض المغريات يتحدى أعظم القادة والأبطال, وهل هوالسيطرة على الواقع؟ ترى أي واقع؟ واقعنا نحن الذين نسمي أنفسنا عقلاء، أم واقع أولئك الذين نصفهم بالهوس والمدحولين وسائر من بهم لوثة، أو مس من الجنون؟ فليت شعري! أي سيطرة على الواقع أعظم من تلك التي تخلق من العدم واقعاً جديداً أغنى من واقعنا (نحن العقلاء) الفقير الشاحب الملتاع، وأكثر منه إشباعاً وأكرم تسامحاً، وأعظم مرونة وأطول بناناً ما دام واقعنا الفج الشديد العاتي عاجزاً عن تلبية أغراضهم، فما حاجتهم إلينا وإلى واقعنا الأسود الصارم المرير؟ أو ليس الإحساس بالرضى والسكينة والسعادة هو المعيار؟, وما ينطبق على الاتزان والسيطرة ينطبق أيضاً على غيرها من المعاني التي يمكن اتخاذها معايير بين الناس،كالتركيز والانتباه والصحة النفسية والمتانة الشخصية والسلوك الخلقي,
قد نجد بعض الأشخاص ينأون بأنفسهم عن أهلهم أو مجتمعهم أو حتى أوطانهم فننعتهم بصفات معينة، ولكن قد لا نعرف الأسباب التي أدت بهم إلى ذلك,
يقول الدباغ (1388ه 1969م): من هو اللامنتمي؟ ويقول: هو الذي ينتمي ناحية قصية من محيطه، ثم ينظر الى جماعته,, ويقارنها باتجاهاته وميوله ورغباته فيقرر أن يفصم أواصره بها، ويطمس معالمها من عقله، ويمسح على بصمات ثقافتها في روحه ويمج ما رضعه منها من مثل وتقاليد, قد يفعل اللامنتمي ذلك في نوبة من تحد أو طيش أو حماقة صبيانية، أو بدافع من الشعور بالخلو والحيرة والفوضى,, وقد يفعل ذلك لأن ناحية أو أو أكثر فيها لا تلائم ذوقه فيتركها استنكاراً ليس إلا,, وقد يفعل ذلك لأنه يعتقد أن عليه أن يحدث تغييراً أو إصلاحاً في تلك الجماعة فيتركها فترة من زمن أو يهاجمها ناقداً, فاللاإنتماء إذن لا يتعدى أن يكون رغبة في التعبير عن السخط وعدم الرضى، أو مظهرا من مظاهر الضياع والفوضى، أو رغبة في الإصلاح والتغيير.
المراجع:
1 ابن منظور، 1418ه 1998م, لسان العرب , دار إحياء التراث العربي بيروت لبنان,
2 حلمي، محمد كمال، 1406ه 1986م, أبو الطيب المتنبي , مكتبة سعد الدين دمشق سوريا.
3 الخولي، وليم، 1976م, الموسوعة المختصرة في علم النفس والطب العقلي , دار المعارف مصر.
4 الدباغ، فخري 1388ه 1969م, الانتماء , مجلة العربي الكويتية العدد:124.
5 عدس، عبدالرحمن و توق، محي الدين، 1986م, المدخل إلى علم النفس , دار جون وايلي وابنائه المحدودة.
6 مرحبا، عبدالرحمن، 1982م, أصالة الفكر العربي , منشورات عويدات,
7 الوردي، علي، 1988م, وجهاً لوجه , مجلة العربي الكويتية, العدد:360.
|
|
|