وليس كل شاعر لسن,, لكنهم على وجه الإجمال لا يسلم من ألسنتهم خاصة أولئك الذين يقولون الشعر الحقيقي, وليس الشعر الهش كما يحصل في زماننا هذا من بعض من ينتسب للشعر والشعر منه براء.
وإذا كان الوالي يحكم بسيفه أحياناً، فإن الشاعر يحكم بشعره,, ويجلد به,, وكان الهجاء باباً من أبواب الشعر غفل عنه الناس في الآونة الأخيرة,, مع أن هذا الزمان يحتاجه خاصة إذا عرفنا أن كثيراً من الأشياء توضع في غير محلها الحقيقي وأن الزمن,, زمن أبو كدّوس كما تقول العامة,, والهجاء يؤدب ولا يجب أن يكون مسلطاً على الأخيار وذوي التفكير البناء وأهل المروءة, أي أنه يجب أن يعبر هو الآخر عن الحقيقة، أما التقول بالهجاء والتعدي فهي صفات غير محمودة ولا تليق بأهل المروءة والحقيقة, ومعروف ما كان بين جرير والفرزدق من تلاسن بالشعر سرى مع الدهر,, ورغم قسوته إلا أنه يستفاد منه كثيرا، ولو أن الدراسة الآن في مدارسنا لها قوة المقررات القديمة والشروح القديمة لرأيت جيلاً ذا بيان وفصاحة وبلاغة، ولرأيت عقولاً ثاقبة في الرأي والعطاء وحسن التدبير، لأن الشعر والنثر المثري يكسب العقول رجاحة وسموا ويجعلها تعطي عطاء ثرا,, واعتقد أن الفرزدق وجريراً لم يبلغ شأوهما شاعر في اختراع المثالب ورغم أنهما ينتميان إلى قبيلة واحدة، إلا أن الشعر الهجائي بينهما لم يفتر، ومن الغريب أن كل واحد منهما يدرك قيمة صاحبه, وكان الفرزدق يهدد من حاول الإساءة إليه بالهجاء، فكانوا يتورعون من غضبه ويرضونه بما يريد، كما كان يسطو على بعض الأبيات عندما يقولها أحد الشعراء المقلين,, فيسلبها منه عنوة ويدعيها، خاصة إذا كانت من الذي يصك الآذان، ويؤثر في السمعة والشرف، وقد روى الجاحظ أن الفرزدق مر بابن ميادة الرماح وهو ينشد في جمع من الناس قوله:
لو أن جميع الناس كانوا بربوة وجئت بجدي ظالم وابن ظالم لظلت رقاب الناس خاضعة له سجوداً على اقدامنا بالجماجم |
فقال الفرزدق: يا بن الفارسية والله لتدعنه لي أو لأنبشن أمك من قبرها.
قال ابن ميادة خذه لا بارك الله لك فيه,, فقال الفرزدق:
لو أن جميع الناس كانوا بربوة وجئت بجدي دارم وابن دارم لظلت رقاب الناس خاضعة لنا سجوداً على أقادمنا بالجماجم |
وهكذا نرى أن العرب على طبعها القديم,, تكون الغلبة للقوي ولا زال في الأعراب من هذا الطبع,, رغم نور العلم ووهج الحضارة.