لما هو آتٍ دِحَيِّم و,,, وصِيَّتُه د, خيرية إبراهيم السقاف |
العصفور يتململ في عشه،
والضوء يتململ في سكونه،
وشيء من النسمة يتحرك في مداه،
وتلك الأشجار، كأنها تتمطى أوراقها كي تلامس الشيء يتحرك من النسمة الفجرية الندية، لا شيء,,, إلا حركة الإقبال البهي في جمال جلال هذا الكون الصبحي الراكض إلى ساحة النشور,,.
ودِحَيِّم يهزُّ عصاه عند شارفة باب بيته الطيني العتيق، يُخرج قدمه اليسرى، ثم يعود فيُدخلها ويُخرج قدمه اليمنى، وهو يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم اللهم اجعله صباح خير ، ذلك لأنه خاف من بدئه باليسرى، ثم عاد يحدِّث نفسه توكلت على الله وغذَّ السير في الطريق المتعرج الطويل، متجهاً إلى المسجد، وهمهمة الشارع، وحركة وقع أقدام الذاهبين تهزُّ في صدره الفرح الحمد لله لا تزال الناس بخير، الناس تذهب إلى المسجد، إذن فالناس تستيقظ للصلاة ,,, رفع رأسه بعد أن كان يدسُّ وجهه بين كفُّيه بعد أن فرغ من صلاته ودعائه، وهو يمسح بيديه على وجهه، الحمد لله التفت ينظر إلى الفارغين من الصلاة، بعضهم تحرك ليذهب، وآخر أمسك بالقرآن يتلوه، وآخرون يذكرون ويسبِّحون، ومجموعة دلفت خارجة من حيث أتت,,, لكن دِحَيِّم هزَّ رأسه ورفع يديه إلى السماء، وبصوته المتهدج كان يقول: اللهم، زد في الذاكرين، واملأ قلوبهم بالخوف منك مع الاعتماد عليك، اللهم أعِنّا أن نربي أبناءنا فنحسن إليهم، وأن نعلِّمهم واجبهم نحوك وأن نوفَّق في ذلك، اللهم إني أتألم أن أعدَّ عدد المصلّين فلا يتخطّون عدد أصابع اليدين لأكثر من مرة، فزدهم,, زدهم، ولا تجعل الدنيا أكبر همِّهم ولا مبلغ علمهم، اللهم لا تُعن الشيطان عليهم، اللهم احفظهم من شرّه، وانصرهم على مكرِه، وباعد بينهم وبينه فلا يصل إليهم ولا يُضلّهم، اللهم قد كثُرت المنافذ الآخذة بهم إلى ما يُبعدهم عنك، ويجعلهم غافلين عن ذكرك، غير مؤدين لواجبهم نحوك، وأنت من تملك أمورهم وبيدك يا إلهي أمرهم من قبلهم ومن بعدهم، اللهم بارك لهم في أوقاتهم وأعنهم على أن يعمروها بذكرك وشكرك وأن يحسنوا عبادتك، اللهم أنت ترى وتسمع وعينك لا تغفل ولا تنام، فاكنف هذا النشء في كنفك، واحجبهم بك عمّن سواك، واحفظهم مما حولهم من الضياع والفراغ، اللهم إن أردت بهم أمراً فأعقبهم فيه الخير الذي هو خيرك,,, كي يؤدوا الأمانة، ولا يُفرِّطوا في الفرض والواجب، ولا يتأخروا عن الطاعة، والجماعة، ولا يهنوا مع الواهنين، ولا يضيعوا مع الضائعين ولا يخسروا الدنيا ولا الدين,,, .
سقطت دمعات دحيم، وهو يبحث عن عصاه، حملها في وهن وحزن، وتوكأ عليها ثم غادر المسجد,,.
وهو يغادره كان يكرر: اللهم أدخلني مدخل صدق، وأخرجني مخرج صدق، واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً,,, ، اللهم افتح لي أبواب رحمتك ,,,، مضى,,, بعد أن أشرقت الشمس، وجد الشارع المتعرج قد اكتظ بالمارة، كثُر عدد المتحركين يمنة ويسرة,,, وقف، أسند ظهره إلى جدار أحد البيوت,,, جلس,,, وعصاه بجواره,,, مرَّ بعضهم,, مدَّ إليه ببعض قطع من النقود,,, امتنع عن أخذها,,, أمسك بيد واحد منهم,, قال له: هل أديت الصلاة في المسجد؟ قال: لا, لماذا؟! قال: وإلى أين أنت ذاهب؟ قال: إلى عملي,,, قال: وما يفيدك العمل؟,,, قال: منه معاشي، قال له دِحَيِّم: معاش الدنيا تحرص عليه,, وماذا عن معاش الآخرة؟! تعطيني بعض قروش تُقرضني؟ فأين قرض الله؟ قال: من خلال هذه القروش أقرض الله,, قال: أنت يا بُني تعطيني لأنك تشفق عليّ، أفلا تشفق على نفسك يوم لا ينفعك العمل لمعاش دنياك؟,,, أنت استيقظت لعملك بعد ساعة ونصف الساعة من ميقات الصلاة,,, حرصت على ميقات رئيسك في الدنيا، ولم تحرص على ميقات ربك,,,، حرصت على من تواجهه ولا يختلف عنك، وفرَّطت في دعوة الذي يُحيطك من كلِّ جوانبك,,, مضى الشاب، وحمل دِحَيِّم عصاه، وذهب حزيناً إلى بيته,,.
طرقت عصاه رُدهات بيته الطيني,,, دخل غرفه حجرةً حجرة,,, لم يكن فيه أحد، هنا كان ينام ابني الأكبر، وهناك كانت تجلس زوجتي، وهنا كُنَّا نَحتَسي طعامنا,,, وغادرني الجميع، بعضهم سوف يعود للحظات، وآخر مضى ولن يعود,,, وليس لي غير اليسير من المتاع والذكرى,,.
جلس يتفكر، يبكي,,.
وجاءه من الخارج صوت أطفال الحارة وهم ذاهبون إلى مدارسهم,,.
فتح الباب,,, وهو ينظر إليهم، يتساءل: لماذا لم يستيقظوا أبكر من الآن,,, ويحرصوا على الصلاة في المسجد حرصهم على الذهاب إلى المدرسة، وإلى العمل,,,؟
قال دِحَيِّم: سوف أكتب على جدران الحارة: المدرسة الصحيحة هي المسجد,,,.
وهو يعلم أن مجرد الكتابة على الجدران قد تصبح شيئاً من العبث.
*** : هذه اللوحة كتب فكرتها القارئ محمد عبدالرحمن أحمد الخالدي,,, وطلب إليَّ صياغتها فقط، فقد مرّت بأبيه,,, وجاء ذات يوم ليجده ميتاً في إحدى ساحات بيته الطيني وقد ترك له رسالة شفهية لدى إمام المسجد في حارته نصُّها هذه القصة وَوَصِيَّةُ أن يحرص على صلاته في المسجد هو وأبناؤه, الأخ محمد عبدالرحمن الخالدي، الكويت، آمل أنني وفّقت .
|
|
|