الحمد لله، سهّل للعباد طرق الخير ويسّر، وأنعهم عليهم بنعم لا تعد ولا تحصر، وهيأ لهم من مناسبات الفضل والجود ما به تغسل الذنوب وتطهر، وأصلي واسلم على نبينا محمد الذي غفر له ما تقدم من ذنب وما تأخر، وعلى آله وأصحابه ما اتصلت عين بنظر، وأذن بخبر، والتابعين ومن تبعهم باحسان إلى يوم المعاد والمحشر.
أما بعد : أهنئكم وأهنئ نفسي ببلوغ هذا الشهر المبارك، والوافد الكريم الذي طالما تشوقت له النفوس المؤمنة، ودعت ربها، بأن يبلغها إياه، ويعينهم على قيامه والتنافس فيه بالاعمال الصالحة، وحق لعباد الله الصادقين ان يفرحوا بقدومه، ويأنسوا فيه، ويهنئوا أنفسهم وإخوانهم المسلمين بقدومه وبلوغه.
حق لهم ذلك، فرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قدوتهم، كان يبشر اصحابه، ويهنئهم فيه، فقد روى الطبراني بسند، رجاله ثقات، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: أتاكم رمضان، شهر بركة، يغشاكم الله فيه، فينزل الرحمة، ويحط الخطايا ينظر الله إلى تنافسكم فيه، ويباهي بكم ملائكته، فأروا الله من انفسكم خيراً، فإن الشقي من حرم فيه رحمة الله .
وروى الترمذي، وابن خزيمة، وغيرهما باسناد حسن ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا هل شهر رمضان: إذا جاء شهر رمضان وإذا كان أول ليلة من رمضان صفدت الشياطين مردة الجن، وغلقت ابواب النيران، فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنان، فلم يغلق منها باب، ونادى مناد: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر اقصر، ولله عتقاء من النار .
وحق للموفقين بالفرح والتهنئة بهذا الشهر الكريم، لما جعل فيه الله سبحانه وتعالى من عبادة الصوم، وما فيها من فضائل مما لا يخطر على قلب بشر، ولا يتخيله خيال.
وحق لهم التهنئة والفرح بهذا الشهر الذي انعم الله فيه على عباده بنزول كتابه العظيم الذي فصل فيه بين الحق والباطل، وبين فيه الحلال والحرام، قال تعالى: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان).
رمضان شهر الخير والبركة، شهر الجود والانفاق، شهر المحاسبة والتأمل، شهر القراءة والذكر، شهر الصوم الحسي والمعنوي، شهر التربية والتعليم، شهر العبادة والصلاة، شهر الآداب والاخلاق، شهر العزة والقوة، شهر الحرية من الشهوات والاهواء، شهر الغلبة على الشيطان.
رمضان مدرسة جامعة، تربي في النفوس المؤمنة معاني الخير والفضيلة، وتنمي العقيدة في القلوب وتحيي الايمان في النفوس، وتغسل القلوب مما ران عليها من الاغباش والذنوب، وتجلو الافئدة مما صدأ عليها من الخطايا والسيئات، وتوقظ النفوس الغافلة، وتعيد المعاني الكبيرة للعقول الشاردة، وتصوغ الحياة كلها على منهاج ربها وهدى نبيها محمد صلى الله عليه وسلم وتذكر المؤمن الناسي لعله ينتفع بالذكرى.
رمضان شرع لحكم عظيم وغايات جليلة، وأهداف عالية.
شرع لتتمكن التقوى في النفوس: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون).
وشرع لتربية النفوس على العبادة والصبر، والجود والانفاق، والادب والاخلاق، يتذكر فيه المسلم حال صيامه وقيامه بعبادة ربه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان: كل عمل ابن آدم له يضاعف له، الحسنة بعشرة امثالها إلى سبعمائة ضعف، قال تعالى: إلا الصوم، فإنه لي، وأنا أجزي، يدع شهوته وطعامه من اجلي، للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، ولخلوف فم الصائم اطيب عند الله من ريح المسك، فإذا كان صوم يوم احدكم، فلا يرفث، ولا يصخب، فإن سابه احد أو قاتله، فليقل: إني صائم .
وشرع الصيام في رمضان لاحياء العقيدة الصادقة، وتنمية قوة العلاقة مع الخالق جل وعلا، وتذكر معاني التوحيد الصافية، فما انقادت النفوس للصيام، ولا استجابت لترك الطعام والشراب، ولا لبت النداء للعلو فوق الشهوات، والسير وراءها إلا طلبا لما عند الله جل وعلا، ولا تحكم العقل في العواطف، ووجه الجوارح لعدم مقاربة الاعمال السيئة، ومحبة فيما اعده له، وبلوغ الغاية العظمى، فلنكن على هذا المستوى العظيم في تعاملنا مع هذا الشهر الكريم، في صيامنا وقيامنا، وسائر اعمالنا الصالحة، وإحجامنا عن الاعمال المشيئنة، لنكن كذلك حتى نفوز بما أعده الله تعالى لعباده المقربين المتقين الابرار.
إن رمضان بنفحاته وخيراته، وحكمه الجليلة، هو ذلك الذي يحيي في النفوس معاني التوحيد الكبيرة، ويعيد التأمل فيها، والتنبيه لما يضادها، ففي شعب الحياة عوائق، وفي الطريق عقبات، وللنفوس شهوات ورغبات، يستغلها الشيطان للانحراف بها عن جادة الطريق المستقيم او ليلهيها فيها، ويبعدها عن ساحل النجاة وبر الامان، إلى تقلب الامواج والتعرض للفتن، والغوص في الظلمات.
والانسان في هذه الدنيا تتقلب احواله ما بين افراح وأتراح، وسرور واحزان، فقد يبطره فرحه، ويلهيه سروره، وينشغل بهمه وحزنه، ويغلب تفكيره في مشاغله، والمؤمن بين هذه الاحوال المتقلبة، وعداوة الشيطان المتأصلة، وجماح الهوى والشهوات، والانشغال بالنفس والاهل، يحتاج إلى مواطن تذكير، ووخزات تنبيه، ووقفات تأمل وبخاصة في اهم المهمات، وأصل الاصول، وأوجب الواجبات ذلكم هو في تثبيت العقيدة، واحياء معاني التوحيد، وقوة العلاقة بين العبد وربه جل وعلا.
والمناسبات الخيرة، ومن اعلاها وأقواها شهر رمضان المبارك عامل قوي في تذكر تلك المعاني، وتثبيتها، وجلاء ما ران عليها والمؤمن الحصيف العاقل هو ذلك المتذكر، الذي وصفه الله تعالى بالايمان: (وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين).
وهو من أهل الخشية والخوف من الله: (سيذكر من يخشى).
وهو أهل العقل والحكمة، والقلب الحاضر: (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد).
ونحن في بداية هذا الشهر المبارك لعلنا نقف مع هذا الركن العظيم، ومع هذه العبادة، لنفقهها حق فقهها، ونتأمل ما فيها من معاني العقيدة السليمة، فتتمكن في نفوسنا، ونحظى بقبول عند ربنا جل وعلا، ونكون ممن فاز وانتصر على نفسه وشهواته، ولا يكون حظنا التهنئة في بدايته، والغفلة في التعامل معه، والتأسف في نهايته، ونسيان بعد مغادرته، فالله الله ليكن هذا الشهر منطلقا جديدا للتعامل مع الله تعالى في كل مجالات الحياة وشعبها، ومسالكها المختلفة.
أسأل الله تعالى الذي منّ علينا ببلوغ هذا الشهر المبارك ان يعيننا على صيامه وقيامه، وأن يتفضل علينا بسائر القربات والطاعات، وان يتقبله منا، وأن يرزقنا فيه الرحمة والمغفرة والعتق من النار نحن ووالدينا والمسلمين أجمعين، إنه سميع مجيب.
* الاستاذ بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية