Thursday 2nd December, 1999 G No. 9926جريدة الجزيرة الخميس 24 ,شعبان 1420 العدد 9926


الرواية والسينما,, في فورست غامب
يركض والنجاح هو الشيء الوحيد الذي يستطيع اللحاق به!!
ابراهيم نصر الله

المتابع الجاد لما تنتجه السينما الهوليودية بإمكانه أن يلاحظ ببساطة، أن جائزة الأوسكار التي حاز عليها الممثل الأمريكي توم هانكس عن فيلم فيلادلفيا عام 1994، كانت أكبر بكثير من الدور الذي لعبه، دور محام شاب مصاب بالإيدز، وبدا الفيلم رغم معاناة العالم من هذا المرض، فيلماً أمريكياً محلياً، لم يستطع تجاوز الحالة الفردية ليصل إلى رحاب الإنسانية عبر قضيته التي طرحها، خاصة إذا ما استعدنا دور آل باتشينو الكبير في فيلم عطر امرأة والذي نال عليه أوسكار أفضل ممثل قبل توم هانكس بعام.
وتتأكد هذه الهواجس أكثر حين يتبين لنا أن موضوع الإيدز لم يكن غائباً عن السينما، حيث ظهر في أكثر من عشرة أفلام تتناول الموضوع، لكنها كانت المرة الأولى التي تنتج فيها هوليوود فيلماً عن الإيدز من خلال شركة كبيرة هي كولومبيا وهذا بحد ذاته يعيد إلى الأذهان لعبة الجوائز الكبرى في السينما الأمريكية.
ومن بين الأفلام التي كان الإيدز موضوعها كذب لفرنسوا مارغولان، والليالي الوحشية لسيزيل كولار، وأصدقاء بيتر وغيرها.
لكن ظلال الشك حول أهمية دور توم هانكس في فيلادلفيا ، والتي تؤكدها مصادفة انتاج الفيلم عبر شركة كبرى في قلب اللعبة، ولا تنفي أهمية مخرجه الذي قدم قبل عامين من فيلادلفيا فيلمه الذائع الصيت صمت الحملان ونال عليه أنتوني هوبكنز جائزة الأوسكار في واحد من أكثر الأدوار رعباً في تاريخ السينما.
بعيداً عن أي شك، وقريباً من حدود المعجزة، يتحرك توم هانكس في فيلمه فورست غامب الذي أخرجه روبرت زيميكس المأخوذ عن رواية تحمل العنوان نفسه لونستون غروم, وكان باستطاعة أي مشاهد متتبع لمسيرة السينما أن يتنبأ واثقاً بأهمية الفيلم وأهمية الدور الذي لعبه هانكس، قبل وقت طويل من بدء عملية ترشيح الأفلام للأوسكار، إنه دور لا يمكن أن يُنسى، وهذه حقيقة تتجلى في كل تفصيلة من تفاصيل هذا الفيلم الأخاذ.
أياً كانت نظرتك للحياة، فإنها ستختلف حتماً، إذا ما رأيت العالم عبر عينّي فورست غامب بهذه العبارة المطمئنة الواثقة يقدم صانعو الفيلم فيلمهم, إنها قصة أمريكي ساذج سحر العالم ببراءته وهو يجتاز مجموعة من المخاطر لا يمكن لأحد أن ينجو منها ببساطة، سلاحه الصدق المطلق في إقدامه وفي هروبه، هذا الهروب الذي يشكل العمود الفقري للشخصية، عبر نداء صديقته جيني : اركض فورست اركض , لكن فورست الذي امتلك تلك الطاقة الهائلة التي حولته إلى عدّاء اسطوري، لم يكن يخطر بباله ولو لثانية واحدة أن النجاح والمجد هما وحدهما اللذان كانا قادرين على اللحاق به في كل ما يعترضه من أهوال، بدءاً من مطاردة الصبية الأشقياء له في طفولته، وانتهاء بمشاهد المعركة التي خاضها في غابات فيتنام.
يستند الفيلم بصورة أساسية إلى أداء توم هانكس، ويستند في بنائه على لعبة بسيطة معقدة وخطرة أيضاً، حيث نقطة السرد التي تتشعب منها الأحداث، وتتمثل في انتظار فورست للحافلة في أحد المواقف المخصصة لها، تبدو هذه النقطة كما لو أنها مركز الدائرة، الذي تنطلق منه الحكاية لتدور في جزء من محيطها وتعود ثانية للمركز.
وحتى نهاية الفيلم تقريباً، يبدو جلوس فورست مسألة صادمة، يبحث المشاهد عن مبرر لها، دون أن ينشغل بها كثيراً، بسبب غنى سلسلة الأحداث والمشاهد التي يقدمها الفيلم من حياة بطله، هذه الحوادث المنتقاة بعناية لتختصر في استرجاعها حياة فورست غامب كلها، وتتجاوزها لتختصر الحياة الأمريكية منذ الخمسينات، مروراً بالستينات، وبروز ظاهرة الهيبز والحرب الفيتنامية، ووصولاً إلى الإيدز في إشارة موحية.
تبدو حياة فورست غامب هنا، الجانب الأكثر براءة وهي تتحرك في أكثر السنوات الأمريكية قسوة وعنفاً، ويبدو نجاح فورست سخريةً مرةً بقيم الدمار والضياع التي يعيشها مواطنوه، ويكفي هنا أن نتذكر الجزء الساحر من الفيلم المتمثل في قيام فورست بالركض بعد أن تتركه جيني العائدة إليه بعد سنوات.
إن ركضه في البداية لم يكن يهدف إلى تجاوز الشارع الذي يسكنه، لكن هذا الركض لم يطفئ ذلك الانكسار الذي خلّفه رحيل حبيبته، فيركض إلى نهاية الحي، ثم إلى نهاية المدينة، ثم إلى نهاية الولاية، ثم إلى نهاية أمريكا، ليعود ويصل إلى الجانب الآخر في ركض متواصل استمر ثلاثة أعوام، يتبعه خلالها مجموعة من المريدين الذين يعتقدون أن ركضه حكمةً، وأنه سيقولها لهم أخيراً، لكنه خلال ذلك يتحول إلى نجم كبير، ويتحول الشخص الذي يحصل على شيء من آثاره إلى غني بين ليلة وضحاها، لكنه فجأة يتوقف، فيتوقف الراكضون خلفه: سيقولها, يتهامسون, ولكنه لا ينطق أكثر من جملة واحدة: لقد تعبت وعليَّ أن أعود إلى البيت.
لقد كان الفيلم معززاً برواية كبيرة، مستنداً إلى تفاصيلها المذهلة التي تلامس حدود الأسطورة، خاصة في مشهد ملاحقة الأولاد له وهو الطفل نصف المعاق، لا يستطيع السير إلا والأحزمة الجلدية والحديدية تسند قدميه، هذا المشهد الذي تتغلب فيه غريزة البقاء على الإعاقة، فيبدأ الركض بكل ما في روحه من قوة، لتبدأ بعد ذلك الأحزمة بالتمزق والتطاير بعيداً عن قدميه في مشهد من أعذب مشاهد الفيلم وأقواها.
وإذا كان الفيلم معززاً برواية كبيرة كما قلنا، فإنه ورغم بساطته الظاهرة كبساطة بطله وبراءته، يستند إلى آخر ما توصلت له تكنولوجيا الصناعة السينمائية من خدع سينمائية بدءاً من مقابلة فورست الطفل للمغني الذي سيصبح مشهوراً فيما بعد ألفس بريسلي وانتهاء بمقابلته لعدد من رؤساء الولايات المتحدة.
على ضفاف شخصية فورست تتحرك مجموعة من الشخصيات أهمها شخصية جيني التي لم تستطع أن تفرض حضورها بشكل لافت، وشخصية دان قائد فصيلة في فيتنام، وتكاد شخصية دان هذه توازي شخصية فورست، فهي شخصية محرومة من قدرها على نحو مفجع، مهيأة لأن تموت في ساحة حرب، كما مات الأب والجد وجد الأب من قبل في الحروب, لكن إنقاذ فورست له في فيتنام يشكل طعنة إنسانية لمصيره الذي يبدو واضحاً بالنسبة له، دان الذي لا يخرج من الحرب فاقداً مصيره الذي انتظره طويلاً فقط، بل فاقداً ساقيه أيضاً, إلا أن الايمان بذلك القدر الذي يحمل مصيراً تراجيدياً أسود، لا يلبث أن يتراجع تدريجياً بعد تورطه في العمل مع فورست على ظهر مركب لصيد القريدس ليصل في النهاية إلى نتيجة أن الحياة هي أجمل قيمة على وجه الأرض,تبدو هنا إشارة الفيلم الأولى ونهايته المتمثلة بالريشة الطائرة التي يتقاذفها النسيم, وتستقر أخيراً في كتاب يحمله فورست في حقيبته، ثم وقوعها من الكتاب وهو يوصل ابنه إلى موقف الحافلة، لتنطلق من جديد، تبدو حركة هذه الريشة وانسيابها الذي يشبه رقصة باليه، أشبه ما تكون بمصير أبطال الفيلم، وخاصة فورست ودان.
يقول فورست: أمي كانت تقول لي أننا أشبه ما نكون بنسمة تعوم في الفضاء, ويقول دان : إن لكلٍ قدره, ولكن، ربما كان الاثنان على حق .
يبقى أن نشير هنا، إلى أن فورست وهو يسرد حكايته في موقف الحافلات لكل من يجلس بجانبه، ويواصل سردها لشخص آخر بعد صعود الأول للحافلة بتلقائية شديدة، يبقى أن نقول أن الشخص الوحيد الذي سخر من فورست كان رجلاً، أما النساء فكن على درجة مذهلة من الحساسية وهن يستمعن إلى قصته, أهذه مصادفة، بالطبع لا,, إذا ما تذكرنا أن فورست كان ضحية الذكور في الفيلم، وهو يعاني من استغلالهم له، أما الجانب الذي كان يحميه فهو أمه وجيني الغائبة الحاضرة على الدوام.
هو فيلم لا ينسى، وعلامة بارزة في مسيرة السينما العالمية، ودور ليس من السهل أن يكون له مثيل، فيلم يمكن أن يُقرأ على أكثر من مستوى، بعيداً عن تلك العبارة التي طرزت بها احدى وكالات الأنباء تقريرها عن الفيلم حين قالت: إن فوز الفيلم جاء نتيجة لخضوع أعضاء الأكاديمية الأمريكية للجمهور الذي تدفق لمشاهدة الفيلم بعشرات الملايين .
لكنه سيبقى ذلك الفيلم الذي يستحق الجوائز الست التي فاز بها.
رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات

الاولــى

محليــات

فنون تشكيلية

مقـالات

المجتمـع

الفنيــة

الثقافية

الاقتصادية

منوعـات

عزيزتـي الجزيرة

الريـاضيـة

تحقيقات

مدارات شعبية

العالم اليوم

الاخيــرة

الكاريكاتير



[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved