Thursday 2nd December, 1999 G No. 9926جريدة الجزيرة الخميس 24 ,شعبان 1420 العدد 9926


من أدب أمريكا اللاتينية
نهار بالثزار ,, الرائع
للكاتب الكولومبي الكبير: (جابريال ماركيز)
ترجمة: حصة إبراهيم العمار

*ترجمة:
حصة إبراهيم العمار
تمّ بحمد الله بناء القفص فعلّقه بالثزار بحكم العادة تحت الإفريز وعندما تناول الجميع طعام الغداء شغلوا به وأجمعوا على كونه أجمل قفص في العالم مما حدا بالكثيرين للتوافد عليه من كل حدب وصوب، وهذا ما دعا (بالثزار) إلى انزاله وإقفال المحل!.
ينبغي أن تحلق, قالت زوجته (أرسولا) تبدو كراهب!
لا تصح الحلاقة بعد تناول الغداء,, أجاب.
كان شعره قد ترك ينمو لأسبوعين,, فغدا قصيراً شائكا واكتسى ذلك الطابع التعبيري العام, لطفل مذعور,, على أن ذلك كان أبعد ما يكون عن الحقيقة إذ ان زواجه من (ارسولا) الذي مضى عليه أربعة أعوام أتم بعدها الثلاثين عاماً قد جعل منه إنسانا حذراً,, يقظاً لكنه كان عن الذعر أبعد ما يكون!
ولم يبذل في صناعة ذلك القفص جهداً خارقاً، إذ انه اعتاد منذ نعومة أظفاره على تلك المهنة.
فاسترح لوهلة إذاً,, بذقن كهذه لن يكون باستطاعتك رؤية أحد.
إبان خلوده إلىالراحة,, كان عليه ان ينهض مرات عدة ليري الجيران القفص، أما زوجته فما أبدت به كثير اهتمام ، بل ان استغراقه في صنعه واهماله لأعمال النجارة قد أغضبها,, ولم يتحصل على كثير من النوم إبان أسبوعي بناء القفص بل انه ظل يتقلب طوال الليل متمتما بشبه جمل بين الفينة والأخرى,, علاوة على إغفاله حلاقة ذقنه, على أن انزعاجها تلاشى مع نشوة الانتهاء من صنع ذلك القفص.
عندما استيقظ (بالثزار) من نوم القيلولة كانت (ارسولا) قد كوت قميصه وبنطاله ووضعتهما قرب سريره، أما القفص فحملته إلى طاولة الطعام وظلت تتأمله في صمت.
كم ستطلب ثمناً له؟ سألته.
لست أدري! قال بالثزار، سأطلب خمسين (بيزو) لأرى إن كانوا على استعداد لدفع عشرين.
أطلب الخمسين قالت أرسولا تعبت ما فيه الكفاية وحرمت نفسك لأسبوعين من لذيذ الكرى,, كما وأنه قفص كبير أعتقد أنه أكبر قفص رأيته في حياتي.
وشرع يحلق ذقنه.
أتظنين أنهم سيدفعون خمسين (بيزو)؟
ليس هذا في عرف السيد (مونتيل) شيئا كما وأن القفص يستحق ذلك من الحكمة أن تطلب ستين (بيزو)!.
بدت حرارة الجو أقل احتمالا,, في ذلك الأسبوع الأول من أبريل,, وزاد في وهجها اللافح,, ذاك الصوت المتصل لحشرة (زيز الحصاد)، وعندما أتم (بالثزار) ارتداء ملابسه,, فتح باب الفناء التماسا للبرودة فدخل تبعاً, عدد من الأولاد لرؤية القفص، وكانت قد تسللت أخبار ذلك فعقد الدكتور (أوكثامثيو جيرالدو) وهو طبيب سعيد في حياته,, ضجر من عمله عقد العزم على شراء القفص فقد كانت زوجته مولعة بالطيور إلى حد كرهت معه قطط الأرض لتلذذها بأكل العصافير,, وكانت تشغل فكر زوجها الذي ما أن اتم رؤية آخر مريض حتى اتجه صوب بيت (بالثزار) لمعاينة القفص.
قلة من الناس كانت هناك في منزل (بالثزار) لرؤية القفص الموضوع على الطاولة بشبكته الهائلة وأدواره الثلاثة,, كان بديعاً حقاً، خصصت به أماكن عدة لوضع طعام الطيور وشرابها ولعبها,, كان في مجمله كهيكل مصغر لمصنع ثلج هائل, وتأمله الطبيب بدقة دون أن تمسه يده موقناً في قرارة نفسه انه أجمل مما قيل عنه,, بل أنه في واقع الأمر كان أروع بكثير مما تخيله وزوجته.
إنه أبهى من نسج الخيال فكر الطبيب وشرع يبحث بين الجمع المحتشد عن (بالثزار) وما أن رآه حتى قال:
أنت مشروع لمهندس معماري غير عادي.
وأحمر وجه (بالثزار) خجلاً:
شكراً, أجاب.
هذا صحيح قال الطبيب كان ذا امتلاء,, رقيقاً,, بضا كغادة مليحة إبان صباها,, ويداه كانتا ناعمتين رقيقتين كذلك، أما صوته فبدا كصوت راهب يتكلم اللاتينية:
لست في حاجة أصلاً لوضع طيور داخله قال مديرا القفص أمام النظارة كما لو كان في مزاد,, يكفي أن تعلقه على شجرة كي يغني ذاتيا!.
ووضعه على الطاولة ثانية ثم تأمله وقال:
حسناً سآخذه.
تمت البيعة! قالت (أرسولا).
إنه لابن السيد (مونتيل) قال (بالثزار) طلبية خاصة!
وجنح الطبيب إلى اتخاذ موقف مهذب:
أهو الذي قدم التصميم؟
كلا رد (بالثزار)، قال فقط أنه يريد قفصاً كبيراً كهذا لزوج من الطيور الاستوائية!
ورنا الطبيب إلى القفص:
لكن هذا لا يناسبها! علق الطبيب.
بل إنه الأصلح, رد بالثزار مؤكدا وحاذى الطاولة التي وضع القفص عليها فتحلق الأطفال حوله صمم القفص وفقا لمقاييس دقيقة تلائمها! قال ناقرا القبة ببراجمه فانسابت نغمات رنانة :
راعيت في صنعه المتانة والدقة!
إنه يتسع لببغاء, علق أحد الأولاد.
هذا صحيح, وافقه الصانع بالثزار .
وأدار الطبيب رأسه:
حسناً لكنه لم يقدم التصميم قال ولم يطلب مواصفات معينة كل ما طلبه كان قفصا لزوج من الطيور الاستوائية! أليس كذلك؟
نعم، رد بالثزار .
لا مشكلة هناك اذاً قال الطبيب ليس بالضرورة ان يكون هذا مطابقاً للقفص المطلوب.
بل إنه هو بعينه قال بالثزار في حيرة ولهذا صنعته!.
وندت عن الطبيب إشارة نفاد صبر:
بإمكانك بناء قفص آخر قالت ارسولا مخاطبة زوجها منقِّلة بصرها بينه وبين الطبيب الذي سألته: لست في عجلة من أمرك؟
لقد وعدت زوجتي ان أوافيها به هذا المساء قال الطبيب!
آسف جدا أيها الطبيب قال بالثزار على أنه ليس في مقدوري بيع ما قد بيع!
.
وهز الطبيب منكبيه فجفف حبات من عرق ندت جبينه ثم شرع يتأمل القفص بنظرات ثاقبة حيرى كمن يشيّع سفينة أبحرت للتو في أحضان المجهول.
وكم دفعوا لك ثمنا له؟
وبحث (بالثزار) عن عيني زوجته دون أن يجيب!.
ستون (بيزو) قالت.
وظل الطبيب يتأمل القفص متمتاً: إنه جميل جداً,, غاية في الحسن,.
واتجه صوب الباب مروحا في نشاط على وجهه بجريدة وندت عنه ابتسامة خفيفة وآثار ذلك المشهد تغيض إلى الأبد في أعماق ذاته مونتيل غني جدا, قال.
كان (خوزيه مونتيل) في واقع الأمر أقل ثراء مما يشاع عنه، على أنه ما كان ليتوانى عن القيام بأي شيء يثري ذلك الانطباع وفي منزله القابع هناك,, الغني بأنواع شتى من معدات قابلة للبيع ظل (مونتيل) غير عابىء بما تردد عن اعتزامه شراء القفص! وخلد بعد هنيهة إلى القيلولة فيما مكثت زوجته المسكونة بهاجس الموت تتقلب على سريرها لساعتين ما داعبها خلالهما نوم، وتسللت إليها أصوات من الخارج ظلت تدنو حتى سمعت أمام بابهم هرجاً ومرجاً وفتحت الباب فرأت (بالثزار) متوسطا الجمع والقفص في يده، وقد بدا أنيقا وسيما وارتدى طقما أبيض مخلفا ذاك الانطباع الصادق الذي ينم عن الفقراء إما حاذوا بيوت الأغنياء!
يا له من رائع قالت زوجة مونتيل، وقد شع وجهها بهجة وهي تتجه بالزائر صوب الداخل وتابعت هيا إلى البيت قبل أن يحول هؤلاء الفناء إلى مدرج كرة قدم.
ولم يكن (بالثزار) غريبا عن ذلك البيت إذ ان صاحبه كثيرا ما استدعاه لمهارته واستقامته كيما يقوم بأعمال نجارة في هذا الوضع أو ذاك على أن المسكين ما شعر يوماً بالراحة بين الأغنياء وكان كثيرا ما يفكر فيهم في وزجاتهم القبيحات,, كثيرات الجدل,, في النكد المستشري بينهم فلا يملك إلا أن يستشعر حيالهم شفقة لا غبطة.
عندما ولج,, كان يجر قدميه جرا.
هل عاد (بيب)؟ سألها.
كلا أجابت أم الطفل إنه لا يزال في المدرسة.
كان (بالثزار) قد وضع القفص على مائدة الطعام.
على انه سيعود عما قريب أما السيد (مونتيل) فيستحم تابعت!
لكن السيد (مونتيل) لم يكن في واقع الأمر يستحم إذ ان فضوله لمعرفة ما يجري قد جعله يكتفي بدلك جسده بشيء من الزيوت العطرية فحسب, كان حذرا إلى درجة لا ينام معها والمروحة الكهربائية تعمل حتى لا يمنعه ضجيجها من سماع ماقد يبدر من أصوات!
ما الذي يحدث؟ قال مناديا زوجته.
تعالي وشاهدي هذه التحفة النادرة صاحت زوجته!
وخلف نافذة النوم بدا السيد (مونتيل) وقد لف حول جيده فوطة أنيقة,, كان مشعرا بدينا!.
ما الأمر؟.
انه قفص (بيب)، قال (بالثزار)!
ورنت زوجته صوبه في شيء من الارتباك!
قفص من ؟ سأله مونتيل)!
انه قفص (بيب) رد (بالثزار) متجهاً صوب (مونتيل).
لقد طلبه ابنك!
ولم يحدث وقتها شيء إلا أن (بالثزار) قد أحسن ساعتها وكأن أحدهم قد فتح عليه باب دورة المياه فجأة,, وجاء (مونتيل) بثيابه الداخلية فصاح:
(بيب)، !
لم يعد بعد همست زوجته دون حراك.
لحظتها,, ظهر (بيب)، في الممر,, كان في الثانية عشرة من عمره,, وكأمه كان عاطفيا,, معقوف الرموش,, مثيراً للشفقة,:
تعال إلى هنا! ناداه أبوه أأنت من طلب القفص؟
وأرخى الولد رأسه فشده أبوه من شعره مجبرا إياه على النظر إليه مباشرة!
أجبني صاح فيه!
ودون أن ينبس الطفل ببنت شفة,, عض شفته السفلى!
(مونتيل)! همست زوجته وترك السيد (مونتيل) الطفل فالتفت إلى (بالثزار) في سورة غضب:
آسف جدا (بالثزار) على أنه كان يجدر بك استشارتي قبل الشروع في صنع القفص لم يكن غيرك ليتعاقد مع حدث واستعاد وجهه هدوءه وصفاءه إبان حديثه.
وعمد إلى القفص فرفعه ودفع به إلى صانعه:
إليك به! وحاول أن تبيعه لأي كان! قال وشدما أتمنى قبل كل شيء ألا تجادلني في ذلك وربت على ظهر بالثزار برفق قبل أن يردف: لقد نصحني الطبيب بالابتعاد عن الانفعال!
كان الطفل إبان ذلك يقف تائها حائرا ملتاعا دون حراك فما يرفّ له جفن حتى صوب (بالثزار) بصره إليه عندها ند عنه أنين كالعواء وارتمى على الأرض منتحبا.
ونظر أبوه في برود إليه فيما حاول (بالثزار) التسرية عنه:
دعه يبكي حتى تنفطر كبده وتحمر عيناه قال الأب في قسوة فيما كانت الأم تحاول الإمساك برسغيه على أنه ظل يصرخ بأعلى صوته دون دموع.
دعيه! قال زوجها آمراً.
وتأمل (بالثزار) الطفل شأن من يشهد نفوق حيوان مسعور.
كانت الساعة قد حاذت الرابعة,, وقتها كانت (ارسولا) تدندن بلحن قديم وهي تقطع البصل,, شرائح رفيعة!
(بيب)! قال بالثزار).
ودنا من الطفل مبتسما,, ثم مد يده بالقفص إليه,, وقفز الطفل فاحتضن ذاك القفص الذي كان يوازيه حجماً ثم طفق ينظر عبر اسلاكه إلى (بالثزار) في صمت, ما ذرف دمعة واحدة.
(بالثزار) قال الأب له, لقد طلبت منك للتو أن تأخذ قفصك.
أعده له خاطبت الأم طفلها.
بل احتفظ به قال بالثزار ثم إني في حقيقة الأمر ما صنعته إلا له!
وتبعه (خوزيه مونتيل) إلى غرفة المعيشة:
لا تكن أحمق بالثزار قال له,, معترضا طريقه خذ قفصك إلى بيتك,, ليس في نيتي أن أدفع لك سنتيما واحدا ثمناً له!
لا يهم قال (بالثزار), لقد كنت اعتزم إهداءه إياه!
حينما شق (بالثزار) طريقه بين جموع المحتشدين كان مونتيل لا يزال يمارس الزعيق وقد أحمر شدقاه وبرزت عيناه وبدا واهناً ممتقع اللون!.
أحمق أخرج لعبتك التافهة من هنا لم يبق إلا أن يأتي من يوزع الأوامر هنا! أبله!
في الخارج لقيه الجمع بترحاب واحتفاء حتى تلك اللحظة كان الاعتقاد السائد لديه أنه ما زاد على أن صنع قفصا,, هو أجمل ما يكون وقام بإهدائه إلى ابن (مونتيل) كيما يكف عن البكاء,, بأن ما حدث لم يكن بذي شأن على أنه أدرك مع عبارات الاحتفاء به أهمية ما قام به على الصعيد العام فخالجته نشوى جذلى.
إذا فقد دفعوا لك خمسين (بيزو) ثمنا للقفص؟
بل كان ذلك ستين رد (بالثزار).
إن هذا لهو مما يسجل لك! ما سبقك أحد في استخراج هذا المبلغ من جيب (خوزيه مونتيل) قط ينبغي أن نحتفل بذلك!
وغرر الجميع به فشرب حتى ثمل وأثمل من معه وطفق يهذي بمشاريع خيالية يعتزم صنع آلاف من الأقفاص خلالها فيأتيه عائد ضخم أجل ظل يهذي تحت تأثير أم الكبائر سوف أبيع القفص بستين ثم اتحصل على ستين مليون بيزو ريع بيع مليون قفص علينا أن نبيع الكثير للأثرياء قبل أن يموتوا! قال في قمة ثمله جميعهم مرضى ولسوف يموتون إنهم من الاعياء بمكان لا يستطيعون معه تحمل فورة غضب قد تعتريهم.
ولساعتين ظل (بالثزار) يلقم جهاز الفوتوغراف الآلي نقودا صدحت الموسيقى خلالها دونما انقطاع ودعا الجميع له بالصحة والثراء وطول العمر وبألا يبقى على وجه البسيطة للأغنياء من أثر,, على أنهم لما حان وقت الطعام تركوه جميعا وحيدا,, كسيف البال.
وظلت (ارسولا) تنتظره حتى الثامنة بعد أن أعدت له طبقا من لحم مقلي مغطى بشرائح البصل, كان أحدهم قد أخبرها بأن زوجها في الحانة يصارع الثمل ويوزع على الجميع جعة لكنها لم تصدق إذ إن تاريخه ما شهد مثل ذلك قط.
على أنها وبحلول منتصف الليل اضطرت إلى الخلود إلى النوم، أما (بالثزار) فقد رأى نفسه في غرفة مضاءة بها طاولات عدة يحيط بكل منها أربعة مقاعد ويقبع غير بعيد عنها مرقص رحب تخطر عليه طيور السقساق, وجهه كان ملطخاً بأحمر شفاه ولأنه لم يكن قادرا على المشي فقد فكر في الارتماء على السرير مع غانيتين, وقتها كان مفلساً تماما حتى انه كان قد اضطر إلى رهن ساعته مع وعد بالسداد صبيحة اليوم التالي.
بعد دقيقة كان ملقيا على الرصيف كطائر مفرود الجناحين,, ولاحظ أن أحدا كان يخلع حذاءه فلم يكترث! ما كان يود قطع الاسترسال في أعذب أحلام حياته، أما السيدتان اللتان مرتا به في طريقهما إلى دار العبادة الخامسة فجراً فما جرؤتا على النظر إليه ظنا منهما أنه كان قد فارق الحياة.
رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات

الاولــى

محليــات

فنون تشكيلية

مقـالات

المجتمـع

الفنيــة

الثقافية

الاقتصادية

منوعـات

عزيزتـي الجزيرة

الريـاضيـة

تحقيقات

مدارات شعبية

العالم اليوم

الاخيــرة

الكاريكاتير



[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved