Friday 26th November, 1999 G No. 9920جريدة الجزيرة الجمعة 18 ,شعبان 1420 العدد 9920


الاتجاه المعاكس نموذج السياسة الصفراء في الإعلام العربي

أُصيبت مشاعر المشاهدين المسلمين والعرب بجرح عميق لمدة ساعتين كانوا يتابعون فيها برنامج الاتجاه المعاكس المعروف حلقة الأسبوع الثاني من شهر شعبان وقت ان كان البرنامج يناقش قضية المسلمين الشيشان التي أوشكت روسيا على القضاء تماما على مقاومتهم العسكرية وعلى حياتهم المدنية ايضا، ومع ذلك فوجىء المشاهدون بسيدة تُدعى د, حميدة نعنع أحد ضيفي البرنامج تحاور باحثا في شؤون الشرق الأقصى يمثل الضيف الآخر للبرنامج ويتسم بالهدوء والرزانة والحياء في طرح وجهة نظره، ويبدو ان أخلاقه جعلته يراعي انه يحاور أنثى ومع ذلك لم ترحمه حميدة نعنع ولم تقدر له ذلك، بل راحت ترفع صوتها وتهب في وجهه كلما ذكرها بمآسي الروس القديمة والحديثة للمسلمين والعرب، مشيرا الى أنهم أول دولة اعترفت باسرائيل.
وخلاصة الرأي الذي طرحته هذه السيدة هو ان الشيشان ليس لهم الحق فيما يفعلونه مع روسيا لأن هذا يضعفها، وضعف روسيا ليس في مصلحة العرب والمسلمين، وان روسيا من حقها الحفاظ على وحدتها، بل راحت تتهم الحركات الاسلامية بعلاقاتها مع الصهاينة والأمريكان حتى وصلت الى حد ادعاء تعاون الحركات الوهابية مع الصهاينة وربطت ربطا مزيفا بين هذا الادعاء واحدى فتاوى العالم الجليل ابن باز بتحريم شراء السلاح من روسيا حتى ولو تم استخدامه في محاربة اسرائيل.
ونحن هنا لا نشغل أنفسنا بالرد على هذاالكلام، لأن أي مسلم عاقل، بل أي كافر عاقل لا يرضيه القصف المتوحش والتدمير الشامل الذي تشهده الشيشان تحت أي مبرر من المبررات التي تدعيها حميدة نعنع والتي وصلت الى حد إلقاء اللوم على المسلمين والعرب لأنهم السبب في انهيار الاتحاد السوفيتي، ولكن الذي شغل المشاهدين كثيرا وأصابهم بالدهشة والاشمئزاز هو ما وُصفت به حميدة نعنع على أنها باحثة وكاتبة في القضايا الاسلامية، ومع كل مرة يظهر فيها هذا التعريف على شاشة الجزيرة أُصيب المشاهدون بمشاعر الخزي والعار الممزوجة بالقرف والاستياء ومما زاد الطين بلة هو تركيز الكاميرا بين الحين والآخر على النصف الأسفل لحميدة نعنع وهي تضع ساقا على ساق لتظهر عورتها شبه كاملة وتترك المشاهدين في حيرة كبيرة لفك هذا اللغز؟.
ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي يقدم فيها الاتجاه المعاكس ضيفا شاذا يُثير الجمهور تطبيقا لقاعدة صحفية غربية معروفة تتخذ من الغرابة قيمة ومعيارا للنشر، بحيث يتم اختيار الشخصيات الغريبة فكرا واتجاها من موضوع البرنامج نزولا أو تقليدا لاختيار الأخبار الصحفية التي تتسم بالغرابة؛ فقد استاءت مشاعر العرب والمسلمين كثيرا من الاتجاه المعاكس في أزمة كوسوفا حين ظهر علينا أحد المنتسبين الى العروبة ليبي الجنسية مدافعا عن يوغسلافيا في قتلها وتشريدها لمسلمي كوسوفا ومعددا مواقفها التاريخية في مساندة العرب تاركا أيضا الكثير من علامات الاستفهام والحيرة لدى المشاهدين، وقبلها بقليل استاءت مشاعر المسلمين ايضا من نفس البرنامج حين ظهرت من خلاله سيدة تُدعى فاطمة ليتها تُغير اسمها محسوبة على الشعب المصري تعمل كاتبة بروز اليوسف، هاجمت هذه السيدة المقاومة الاسلامية في جنوب لبنان ضد الاحتلال الاسرائيلي ووصفتها بالارهاب في الوقت الذي أجمع فيه الاسلاميون والقوميون على شرعية المقاومة اللبنانية خاصة وأنها تحظى بتأييد النظام الحاكم بلبنان وإعجاب الرأي العام العربي والاسلامي كله، وتركت ايضا هذه السيدة كثيرا من الحيرة وعلامات الاستفهام التي لم نجد لها اجابة يقبلها العقل؟.
واذا كانت فلسفة الاتجاه المعاكس تقوم على مواجهة الرأي بالرأي الآخر، فإن هذه النماذج تتجاوز بكثير هذه الفلسفة وتدعو الى التساؤل: لماذا يحرص الاتجاه المعاكس على اختيار هذه النوعية من الضيوف رغم افتقادها لأي قاعدة جماهيرية يمكن ان تقبل آراءها أو أفكارها؟.
هل هي ممارسة خاطئة لمفهوم الديمقراطية؟ أم هي قناعة بمفهوم الديمقراطية الغربية؟ هل هي مجرد وسيلة للفرقعات الاعلامية وإثارة اهتمام المشاهدين بغض النظر عن مصلحة الوطن؟ هل هي ايمان بحرية الرأي كهدف في حد ذاته وليست وسيلة لخدمة قضايا الأمة العربية والاسلامية؟ هل هي مجرد أمراض المهنة التي تصيب الاعلاميين في البلدان العربية؟ أم هي كل هذه التساؤلات؟.
ان افتراض حسن النية يدعونا على الأقل الى ضرورة اعادة النظر في مفهوم الحرية بالمنظار الغربي ومراعاة الحالة التعليمية والثقافية السائدة في العالم العربي والاسلامي، وأهمها ارتفاع نسبة الأمية التعليمية والأمية الثقافية؛ إذ إن انعكاس مثل هذه المفاهيم الغربية على المشاهدين يشكل خطورة بالغة خاصة في ظل غياب الخلفيات الثقافية الكافية بحقائق الموضوع والمصطلحات المطروحة.
ويكفي أن نستدل بمصطلح الاسلام المتخلف الذي اتهمت به حميدة نعنع الشيشان، والطالبان في افغانستان، وكانت مفارقة عجيبة جدا لدى المشاهدين ان تقدم حميدة نعنع نفسها على أنها نموذج الاسلام المتحضر، في الوقت الذي لا تغطي من عورتها إلا النزر القليل، وكان الأخطر ان تصدّر للمشاهدين العوام مفهوم التخلف كبديل لمفهوم الجهاد الاسلامي في الشيشان خاصة ان هذه المرة هي التي تقوم فيها روسيا بالاعتداء رغم تصفيتها للمجاهدين القوقاز الانجوشيين الذين من حقهم لاعتبارات عديدة الاستقلال عن الحكم الروسي.
ولاشك ان طرح مثل هذه المصطلحات وغيرها الاسلام المدني، الاسلام السياسي، الاسلام المستنير,, الخ يحدث لبسا كبيرا، بل ويعكس صورة مشوهة عن الاسلام سواء لدى أبنائه في الداخل أو عند المجتمعات الغربية؛ لأنها تأتي في اطار تفتيت مفهوم الاسلام وتجزئته تحت أنواع عديدة ومسميات مختلفة ومتناقضة أحيانا، شاعت وراجت على لسان من هب ودب وحشر نفسه بمناسبة ودون مناسبة في الحديث عن الاسلام، وهو في حقيقة الأمر أبعد ما يكون عن هذا الدين العظيم.
ولم يقتصر الأمر على هذا، بل يعتبر تشويها لصورة الباحثة الاسلامية وفقا لملامح الصورة التي تركتها حميدة نعنع على الطالبات والباحثات الشبان في مختلف البلدان العربية والاسلامية، ويبدو ان هذه الصورة من غرابتها وشذوذها وبعدها عن أية ملامح أو روائح الباحثات الاسلاميات فلم تحرك فيهن ساكنا حتى ان الحلقة خلت تماما من أية مداخلات تليفونية تصحح الصورة التي قُدمت بها حميدة نعنع على أنها باحثة اسلامية، أو الصورة التي طرحتها عن نموذج المقاومة الشيشانية.
والسؤال المطروح: لماذا يتبنى أشباه حميدة نعنع مثل هذه المواقف رغم بعدها ومجافاتها للحقيقة؟ هل هي مجرد تسطيح فكري أخذ حظه في الاعلام العربي الذي يسيطر على معظمه علمانيون ومتسطحون ومتنطعون ومغيبون ومتخبطون وفاقدون للهوية والشخصية، ومفرغون من القيم والمبادىء، ومحبطون يائسون من جدوى معظم السياسات العربية ومعظم وسائل اعلامها أيضا، أم هي مجرد توابل اعلامية يستخدمها الاتجاه المعاكس من فرط غرابتها؟ هل هي مواقف مدفوعة الأجر؟ أم أنها تستهدف إرضاء جهات أو دول أجنبية لتحقيق مصالح أو مناصب؟ هل هي عبقرية فذة تدرك مالا يدركه كل العرب والمسلمين؟! أم هي مجرد ضياع واحساس باللا انتماء الى الاسلام أو العروبة؟ هل هي مجرد غزو فكري نتيجة التلمذة على أيدي أساتذة أجانب؟ أم أنها قناعات شيطانية نتيجة البعد عن الله وغياب التربية؟.
وفي هذا الخصوص,, يمكن تسمية ما يقدمه الاتجاه المعاكس بالسياسة الصفراء على طريقة الصحافة الصفراء التي ظهرت في أوروبا وتأثرت بها مدارس صحفية عديدة في الوطن العربي, بهدف تحقيق أكبر قدر من الانتشار والتوزيع والكسب المادي.
ولعل الاتجاه المعاكس يتبنى نفس النهج ولكنه في قضايا سياسية جادة ومهمة وبرؤية مثقف واعداد وتقديم مثقف وعلى ألسنة كتاب ومفكرين وباحثين وهذا هو الذي يضفي على البرنامج قيمة لدى الحريصين على متابعته، ولذلك فانه يقدم نموذجا ملموسا من أساليب صناعة الرأي في المجتمع الأمريكي، حيث يعمد الاعلام الى نشر الرأي والرأي الآخر للتظاهر بالديمقراطية والعدل، ولكنه في نفس الوقت يرجح كفة احد الآراء على الأخرى ترجيحا كميا وكيفيا؛ كميا من خلال حجم المعلومات المسموح بتمريرها الى الرأي العام، وكيفيا من خلال نوعية هذه المعلومات التي تحمل من سمات المنطق والدليل أكثر من الأخرى.
ولأن أي رأي سواء كان لشخص أو جماعة أو حتى دولة هو نتاج للمعلومات المتاحة، فإن الاعلام الأمريكي الذي يسيطر على معظمه اليهود يضمن صناعة الرأي لصالحه، وبالتالي يضمن جزءا كبيرا من صناعة القرار.
وعلى نفس الخط يسير الاتجاه المعاكس فيتدخل منذ البداية في اختيار الضيوف، وهذه أول خطوة في عملية الترجيح خاصة اذا أخذنا في الاعتبار المستوى الثقافي والنقاشي للضيف والذي غالبا ما يكون معلوما لدى الاتجاه المعاكس، ثم تأتي مقدمة البرنامج والاعلان عنها بشكل مكثف قبل موعد البرنامج بعدة أيام وهذه ثاني خطوة في عملية الترجيح؛ حيث تحمل المقدمة عادة مجموعة من التساؤلات التي تعكس الرأي والرأي الآخر في موضوع البرنامج ولكن بطريقة غير متوازنة، حيث تكثر الاستفهامات لصالح احد الاتجاهات، بينما تقل لصالح الاتجاه الآخر، كما تحمل بعض التساؤلات كثيرا من الحقائق والأدلة لصالح اتجاه، بينما تأتي كمجرد استفهامات أو افتراضات استفهامية لصالح الاتجاه الآخر، وهو ما يعني منذ البداية التأثير على أحد الضيوف لصالح الضيف الآخر، وكذلك تهيئة الرأي العام وخاصة غير المثقف لتقبل وجهة نظر على أخرى.
ولعل خطورة مثل هذه الطريقة التي تفتقد مبدأ التوازن بين الرأي والرأي الآخر تكمن في أنها تحمل دليل ديمقراطيتها عبر قيامها على مبدأ التعددية الذي يزعم الليبراليون أو دعاة الديمقراطية الغربية انه كاف لتحقيق العدالة متناسين أو متعمدين تجاهل مبدأ التوازن بين الرأي والرأي الآخر، والذي بدونه تتحول التعددية الى اسلوب أكثر خطرا من الأحادية نفسها؛ لأننا في هذه الحالة أمام نوع من التحيز باسم الديمقراطية نفسها، كما اننا أمام نوع من أساليب تزييف الرأي العام وخداعه لا يمكن كشفها بسهولة، وهذه هي فكرة صناعة الديمقراطية التي يدعيها الغرب، ومن هنا تأتي أهمية الفرق بين الديمقراطية الغربية والشورى في الاسلام، حيث تعد الديمقراطية عدا كميا، بينما تقدر في الاسلام تقديرا كيفيا كميا في آن واحد.
واذا كان الاعلام الأمريكي ينهج هذا الأسلوب لخدمة قضايا ومصالح المجتمع الأمريكي، وأحيانا أخرى لخدمة قضايا ومصالح اليهود والصهاينة، فان الاتجاه المعاكس حينما ينهج نفس النهج لا نعرف أي مصالح يقوم بخدمتها؟.
ولكن من الواضح ان الجمهور أصبح هو الغرام والهيام الذي يسعى اليه كل مذيع بغض النظر عن اتجاهات هذا الجمهور نحوه، أو مدى افادته من برنامجه، أو في أي اتجاه يصب هذا البرنامج، أو لأي مصلحة يقوم بخدمتها والدفاع عنها,, كل هذا قد يكون بعيدا عن فضائيات العرب بشكل عام، لكن الحاضر الغائب في معظم برامجها هو الجمهور لمجرد المشاهدة.
* باحث ومتخصص إعلامي

رجوعأعلى الصفحة

الاولــى

محليــات

مقـالات

أفاق اسلامية

قمة مجلس التعاون

عزيزتـي الجزيرة

الريـاضيـة

شرفات

العالم اليوم

تراث الجزيرة

الاخيــرة

الكاريكاتير



[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved