بدون ضجيج طيور: الفزع، الكراهية، الشؤم! جارالله الحميد |
مخرج الكراهية و(الصدمة) والعنف العبقري الاصلع (هيتشكوك) اختار مرة (الطيور) ليصنع فيلما بهذا الاسم يحول فيه هذه الكائنات اللطيفة والرقيقة والهامسة الى (لمسة) رعب في وجدان ابطال فيلمه ووجدان المشاهد على حد سواء , من المفروغ منه ان (هيتشكوك) قد تخطى بعبقريته تلك النوعية من الافلام التي لقيت رواجا في صفوف الشبان والمراهقين بالذات (فهم يختبرون بواسطتها مقدرتهم على التحمل في مثل هذه الظروف!) تلك النوعية التي تصور لك مثلا بطلة وحيدة تفيق من كابوس فتحلق فوق رأسها اسراب الخفافيش وحين تذهب لغسيل وجهها يخرج من الصنبور أفاع وزواحف كريهة وتلطخها بقعة دم آتية من لا مكان.
اختار (هيتشكوك) الطيور , ووظفها ببراعة وقد تخلت عن كل مبادئها العاطفية وتبنت في توقيت واحد هجوما (مخيفا) على اهالي قرية وادعة بمناقيرها الحادة واصلا بما يبثه منظر الطائر الذي تحول الى (مجرم) بلا أسباب!
لم تكن بداية فيلم (الطيور) الذي لا ينسى من ذاكرة السينما توحي بكل او ببعض ما سيحدث رغم علم المشاهد انه جاء للفرجة على (سيد) افلام الرعب والخوف, كل ما هنالك ان سيدة شوهدت بداية الفيلم كانت تتبضع على عجل من اجل رحلة صغيرة الى مدينة في الريف, اللمسة الساحرة جاءت هكذا: اثناء خروج السيدة من احد المحلات حانت منها نظرة الى الافق, فلمحت طائرين او ثلاثة, واكتسى وجهها بالتشاؤم الذي لا يكتشفه المشاهد بسهولة مالم يكن مدربا على هذه النوعية من الافلام التي تحتفي بالعابر وغير الاساسي, لماذا؟!! فقط لانها رأت الطيور, وهذه جزئية تعيدنا الى كتاب (إريك فروم) تلميذ فرويد المدلل والمتمرد (اللغة المنسية)وهو دراسة في الاحلام والمصادفات.
هنا سيأخذك (هيتشكوك)الى الطريق الذي سلكته السيدة في رحلتها ويبدو غير مطمئن ويملؤه شجن الغروب والوحدة, عظيم هذا المخرج وهو يسير بك عبر طريق شبه منسي ويحقنه بألوان الشفق الموجعة والحزينة, رغم انه لا يقدم سينما حزينة، هو يقدم سينما مفترسة!
في المدينة الصغيرة يبدأ الاصلع باطلاق اول اسرابه: عائلة صغيرة تقشر الكستناء عند المدفأة التقليدية, وفي تلك اللحظات التي لا يعقبها الا النوم الهنيء تنطلق من اسفل المدفأة ومن داخلها، من نيرانها وحطبها آلاف العصافير الذهبية الجميلة الفارة كما لو كانت غارة من الجراد, فيكافحها اهل البيت ويعجزون ثم لا يملكون الا ان يتفادوها بأرجلهم ويتقون ان تنزل على وجوههم, لحظات رعب مجنونة, آلاف العصافير الذهبية في غارة مجنونة بلاهدف.
في الغد,, في جو هادىء مشوب بالحذر (كبيانات الحرب الاهلية) بدأت تصطف بطريقة شبه عسكرية افراد الطيور السوداء التي تشبه الغربان ولكنها اضخم منها ومناقيرها اشد سطوة من مناقير الغربان، تصطف على اعمدة الكهرباء والأسلاك وحديد اللاسلكي، محيطة بحركة حربية مدروسة ومنفذة بكفاءة بمبنى المدرسة الابتدائية, بصمت وهدوء الرهبان! انك تتساءل لحظتذاك: هل يمكن ان يكون العجوز (هيتشكوك) قد درب مجاميع الطيور ايضا؟!.
في اللحظة التي خرجت فيها اول طفلة من المدرسة انقضت الطيور السود بعنف لا شبيه له تلاحق الاطفال تنهش ملابسهم ولحمهم وبعض هؤلاء تعقد المفاجأة قدميه فيقع مستسلما للقدر الموجع!
لن نغرق في التفاصيل الاخيرة لهذه المعجزة السينمائية, نكتفي بما داعبنا به هذا الاصلع من بدايات المخاوف, نعود لنقول: هكذا يغرقنا العبقري (هيتشكوك)في جنون سينماه التي لا ترى القبح والشر والخوف من منظور اعتيادي ممل, بل هي تكمن خلف لحظات (النشيج) لتنسج اغنية موجعة من (قرف) الناس الماثل خوفا لا يرد, وبدون ما يفعل الحواة, فقط بالسينما ذاتها, بالحوار بين اللقطات بإنطاق الشريط الاصم, وبتلك النظرة العابرة التي نظرتها امرأة الى الافق فرأت طيورا, واكتسى وجهها بالتشاؤم!
|
|
|