النقد د, فهد العرابي الحارثي |
النقد في حقيقته أو في جذوره هو رؤية أخرى لبعض او لكل تفاصيل المنجز,, ثقافياً كان ذلك المنجز أو اجتماعياً أو سياسياً أو اقتصادياً,, والنقد أيضاً هو قراءة ثانية أو ثالثة للقيم الكامنة في العمل المكتمل,, فنية كانت تلك القيم أو أخلاقية أو جمالية.
ولهذا فالنقد ليس له أن يكون إلغائياً، إنه في هيئته المثلى إضافة,, هدفها تعزيز البناء وإكسابه مزيداً من القوة والثبات.
وأحسب أن المعنيين بإنتاج الثقافة، أو قراءة الأحداث في مختلف أنواعها، قد سعدوا بما قاله صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز لرؤساء تحرير الصحف المحلية إبّان زيارته الأخيرة لباريس، مما له علاقة بالنقد وأهميته وتأثيره على طريق تكامل الجهود، وفي سبيل البحث عن الأكمل والأجمل, فالأمير سلطان من موقع القائد والرائد عزّز شرعية النقد، وهو ثبتها في مكانها اللائق البارز من عجلة التنمية التي ليس لها أن تتوقف عن الدوران,, فبدون التقويم المستمرلخطوات العمل ومراحله لا يمكن التحقق من سلامة الإنجاز وجدواه، وبدون المراجعة وإعادة النظر في الأهداف والوسائل ستتعطل فرص الإضافة وفرص البحث عن الاكمل والأجمل, وبهذا المقياس فإن العمل المستثنى من النقد هو عمل ناقص مهما كان مستوى الثقة في إتقانه وتجويده, وبهذا المقياس أيضاً فإن العمل المفتوح على النقد هو العمل الطموح الذي يتطلع دائماً إلى النمو والارتقاء واكتساب مزيد من الصحة والعافية.
إن ما قاله الأمير سلطان لرؤساء تحرير الصحف المحلية يعيد للصحافة أهم وأبرز وظائفها في مجتمع ما زال يكتظ بحقول البناء والتشييد في كل المجالات، وأحوج ما يحتاجه مجتمع يبني هو أن يكون هناك مساحة رحبة لتقويم ذلك البناء في كل وسائله وجميع غاياته, إن أمراً كهذا يضيف قوة إلى البناء ,, ويخلق حوله الإحساس المبتغى بأنه إنجاز مشترك لكل الفعاليات المؤثرة في المجتمع ذاته.
إن مبدأ الرقابة على الأعمال والمنجزات مطلب تنموي وشرط منهجي لا يمكن تعطيله أو الاستغناء عنه إذا ما أُريدَ للأمور أن تسير في مضمارها الصحيح وإذا ما أريد للمنجز أن يتوافر على العناصر اللازمة لضمان صحته وعافيته.
والصحافة عموماً هي إحدى أدوات الرقابة الفعالة,, وليس من المصلحة في شيء إعاقتها أو صرفها عن أداء هذه المهمة المثلى.
وهنا أتذكّر ما قاله صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبد العزيز في أكثر من مناسبة حول الترحيب بالنقد وحول الثقة التي توليها الدولة للصحفيين السعوديين، فهم قبل كل شيء مواطنون، تهمهم بلادهم، ويهمهم كل ما يؤدي إلى رفعتها وسموها, وهم بعد كل شيء معنيّون بأمور التنمية، ومسهمون فيها، وعليه فمطلوب منهم أن يتكلموا عنها، وأن يراقبوا مسيرتها وتفاعلاتها.
وأتذكر أيضاً رأي صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبد العزيز في مسألة النقد, فهو يقول إن كان النقد صحيحاً فهذا من شأنه أن يعين المسؤول على الإصلاح، وتقويم المعوج، وتلافي الخطأ، وبلوغ الأمثل, وإن كان النقد غير صحيح فهذا يُهيىء الفرصة لتوضيح الحقيقة، وإظهار ما هو صحيح، وهذه غاية إعلامية لها في حد ذاتها من التأثير أكثر مما للدعاية المباشرة التي لا تخلو من الفجاجة في أغلب الأحيان.
إن من تلقائيات الطبيعة البشرية الضيق بالنقد,, وبالمقابل فإن من تأثير التربية والتعليم وتراكم التجربة تهذيب الطبائع البشرية وتطويعها، وإكسابها المرونة، وإقناعها بقبول مبدأ الشفافية في الأعمال والممارسات, وقد جمعتني مناسبة اجتماعية بخمسة وزراء، منذ حوالي أربع سنوات، كان من بينهم معالي وزير الاعلام د, فؤاد الفارسي, وحول طاولة العشاء التي ضمّتنا في تلك المناسبة، كان صلب الحوار هو استعداء وزير الإعلام على بعض الكتّاب والصحفيين الذين لا يملّون النقد ولا يشتغلون بغيره !! مع أن هؤلاء الوزراء الأربعة الآخرين هم من الوزراء الناجحين والمثقفين، وممن تلقّوا تعليمهم في أرقى الجامعات الغربية حيث البيئة الأمثل للحوار وللنقد، وحيث الشفافية المطلوبة من اجل القوة في الإنجاز ومن أجل الرقي في العلاقة بين فئات المجتمع وفعالياته المختلفة.
إنني من حيث المبدأ لا أتفق مع من يرمي إلى إلغاء النقد أو يضيق به، وإنني من حيث الممارسة ومعاينة الواقع أعترف بأن هناك من الصحفيين من لا يستطيع أن يقدّر حجم المسؤولية والأمانة الملقاتين على عاتقه، وأن هناك من هؤلاء أيضاً من لا يستطيع أن يدرك حجم الأضرار المعنوية وربما المادية التي تترتب على ما يدعيه بدون سند منطقي أو شرعي، فهو على الأرجح يستغل مساحة النقد المتاحة استغلالاً أرعناً، وهو بالأحرى يعمل على تشويه مبدأ الشفافية في العلاقة بالإنجاز لهذه الوزارة أو تلك، فيجور في نقده، ويبهت في دعاواه، فيما يسوق من المزاعم, إنه بهذا يفسد كل شيء، ويخلط كل الاوراق، ليتداخل الجيد مع السيىء، وليحمل بالتالي النقد من حيث هو ضرورة رقابية وتنموية كل اوزار هؤلاء من أصحاب الأغراض.
إن من أهم قواعد النقد النزيه المطلوب: التثبّت من المعلومات وتوثيقها وإعادتها إلى أصولها, وإن من أهم شروط ذلك النوع من النقد: الصدق، والهدوء، والاعتدال، ومحاذرة الانفعال، والبعد عن الأهواء والأغراض، والتحلي بأدب الحوار وتلافي التجريح أو الإساءة.
إننا في حاجة إلى النقد,, ولكننا نعني دائماً النقد المسؤول,, النقد الذي رسّخ شرعيته، وأكد ضرورته وأهميته قادة هذه البلاد وروّاد نهضتها ورقيّها.
|
|
|