* القاهرة مكتب الجزيرة محيي الدين سعيد
منذ قرن ونصف القرن قام إمام شامل عالم الدين المسلم بتوحيد مقاومة شعوب داغستان والشيشان ضد تعدي روسيا القيصرية على أراضيهم، وفي ظل قيادة شامل الكاريزمية شن أبناء داغستان والشيشان حملة طويلة ومريرة أدت في النهاية إلى تأسيس دولة اسلامية تتمتع بحكم ذاتي أو إمامة في شمال القيصر.
وفي مواجهة جنود القيصر القساة الذين كان يطلق عليهم كوساكس اكتسب الداغستانيون والشيشانيون شهرة واسعة بكونهم مقاتلين شرسين حتى أصبحت هناك مقولة شائعة للتفاخر بأن هزيمة جندي قوقازي واحد تحتاج لمائة جندي من الروس,, واليوم يتكرر نفس السيناريو حيث تشهد بلاد القوقاز قتالاً شرساً بين الروس والشيشان في هجوم روسي يواجه مقاومة قوية من الشيشان تشبه ما جرى قبل 150 عاماً وما حدث في أعوام 94 1996 .
وقد أصبحت 40 في المائة من أراضي الشيشان تحت السيطرة الروسية في ظل اصرار واضح من الجنرالات الروس على التقدم في الشيشان مهما كانت الظروف السياسية والعسكرية بل والإنسانية أيضاً,, وتجاهل تام للنداءات التي تصدر من مختلف أنحاء العالم مطالبة بوقف هذا القتال الشرس.
ويذهب المراقبون إلى أن أمر توقف هذه العمليات العسكرية خرج تماماً من يدي كل من رئيس الوزراء الروسي ووزير دفاعه حيث يصر سبعة من الجنرالات على تحدي السلطة السياسية في موسكو والمضي قدماً في تدمير الشيشان وتشريد أهلها.
وتؤكد الأنباء أن واحداً من هؤلاء الجنرالات الذين يطلق عليهم,, العظماء السبعة، هو الذي قاد العملية العسكرية لاحتلال مطار بريشتينا في كوسوفا تحت ستار مهمة حفظ السلام وهو الأمر الذي كاد أن يؤدي لكارثة حقيقية بين الغرب وموسكو,, وتذكر صحيفة موسكو فسكي كو مسوموليت الروسية ان عدداً كبيراً من الجنرالات الروس يهددون بالاستقالة اذا دخل الكرملين في مفاوضات مع الحكومة الحالية في الشيشان.
وقد بلغت الحملة العسكرية الروسية في الشيشان مبلغاً قاسياً وتحولت العملية كلها الى محاولة لتأديب هذا الشعب المسلم عقاباً على المطالبة بحق تقرير المصير والاستقلال عن موسكو,, وخلال الأيام القليلة الماضية استطاعت القوات الفيدرالية الروسية أن تحول الوضع في القوقاز وليس في الشيشان فقط إلى كارثة انسانية,, فالى جانب مأساة الهاربين من جحيم القتال راحت المقاتلات الروسية تقصف بلا هوادة أماكن تجمع المدنيين في شوارع العاصمة الشيشانية جروزني دون تفرقة بين مدنيين أو ميليشيات مسلحة.
لكن المثير للدهشة والاستنكار أن الآلة العسكرية الروسية الضخمة كانت تستطيع اقتحام العاصمة جروزني منذ اللحظات الأولى لبدء الحملة الحالية، لكنها اختارت اطالة أمد الحملة لسببين رئيسيين: الأول: الهروب من المشكلات الداخلية المتفاقمة التي تكاد تعصف بنظام الحكم الحالي برئاسة الرئيس بوريس يلتسين، فالأزمات الاقتصادية والسياسية الداخلية دفعت الجنرالات الروس الى الهروب بعيداً عن موسكو ولفت الأنظار بعيداً عن أوكار الفساد المنتشرة في دواوين الإدارة الروسية وعلى جميع المستويات,, وكانت الأزمة الشيشانية هي المخرج الوحيد للهروب من الأزمات الداخلية، لهذا تبدو عملية القتل والتعذيب البطيء لشعب الشيشان محاولة لها ما يبررها من جانب الجنرالات الروس.
أما السبب الثاني لإطالة أمد هذه الحملة الشرسة فهو الاستمرار في تأديب الشعب الشيشاني أطول فترة ممكنة حتى لا ينتفض مرة أخرى ويطالب بحقه في الاستقلال كبقية الأقليات والشعوب المضطهدة في العالم.
وبالرغم من أن الروس يعلنون أنهم يسعون للقضاء فقط على ما يطلقون عليه قطاع الطرق في اشارة إلى المقاتلين الإسلاميين الساعين للاستقلال إلا أن القنابل الروسية تقع يومياً على رؤوس المدنيين وفي كل يوم تقع مجزرة يكون ضحيتها أطفال مدارس وعجائز ونساء.
ومن الجدير بالذكر أن الدبابات الروسية زحفت منذ أربعة أعوام لاقتحام الجمهورية التي أعلنت الاستقلال في الشيشان ولكنها روسيا أجبرت على التراجع بعد 21 شهراً.
وكحل وسط يحفظ ماء وجه موسكو اتفق الطرفان على صيغة تمنح الاستقلال للشيشان بعد 5 سنوات، ولكن بعد التمرد الذي شهدته الجمهورية المجاورة داغستان والذي قاده اسلاميون شيشانيون، وأيضاً بعد تفجيره قنابل في مبان روسية اندفعت القوات الروسية ساعية لاستعادة الهيمنة محتلة أكثر من ثلث الأراضي الشيشانية وأدت المغامرة العسكرية الى تعرض آلاف المدنيين الى غارات يومية وقصف مدفعي أوقع العشرات من المصابين وأدى الى نشوء كارثة انسانية جديدة حيث نزح آلاف اللاجئين هرباً من المعارك، وعلى صعيد آخر كان لقرار الغزو الروسي أثر سلبي على الجنود الروس الذين استعادوا ذكريات الحرب السابقة عندما سقطوا صرعى للجوع والمرض، وهم اليوم في ظروف معيشية أسوأ من قبل.
ويزعم الروس انهم تعلموا دروساً من هزيمتهم السابقة في الشيشان، لذلك اعدوا العدة لانجاح حملتهم العسكرية الحالية فاستدعوا النخبة من قوات المظلات والقوات الخاصة من أجل المشاركة في القتال، كما أنهم استخدموا نفس التكتيك الذي استخدمته الولايات المتحدة في ضرب يوغسلافيا بالاعتماد على الطيران بشكل رئيسي في المعركة.
ويرصد المحللون ثلاثة سيناريوهات لاستمرار الحرب:
الأول: هو غزو واسع النطاق مع الوضع في الاعتبار فشل الحملة السابقة.
الثاني: الاستيلاء على شمال الشيشان مع تنصيب حكومة موالية لموسكو واقامة منطقة أمنية حول مناطق تمركز الانفصاليين.
الثالث: القصف المدفعي المتواصل وشن هجمات دورية بواسطة القوات الخاصة على مواقع الانفصاليين، وذلك بجانب اقامة الحكومة الموالية.
الحكومة البديلة
والواضح الآن ان روسيا لن تتراجع هذه المرة خاصة ان الحرب بالشيشان ساهمت في رفع شعبية رئيس الوزراء الروسي فلاديمير بوتين رجل يلتسين داخل روسيا أمام الشيوعيين,, حيث يسعى بوتين الى استغلال هذه الحرب كفرصة ذهبية جاءت لروسيا لاستعراض قوتها العسكرية والاحتفاظ بالشيشان كجزء من الأراضي الروسية، وهما أمران لو نجح فيهما بوتين فسوف يضمن إلى حد كبير فوزه في انتخابات الرئاسة الروسية عام 2000 وخلافة الرئيس الحالي يلتسين.
وتبدو فكرة الحكومة البديلة في الشيشان هي الأكثر إلحاحاً أمام المسؤولين الروس وفي مقدمتهم بوتين الذي عقد اجتماعاً مؤخراً مع أعضاء البرلمان الشيشاني السابق، وأعلن عقب الاجتماع ان أعضاء البرلمان هم الهيئة الشرعية الوحيدة في الشيشان وفي المقابل كان رد هؤلاء الأعضاء باعلان تأييدهم للحملة العسكرية وولاءهم التام لروسيا.
ويعود الإلحاح على فكرة الحكومة البديلة الى أن هذه الحكومة سوف تلبي كل مطالب موسكو وسيسيطر عليها الكرملين لتكون موالية تماماً لروسيا,, وقد ظهر الاتجاه لتكوين الحكومة الجديدة عندما بدأت موسكو تدرك ان الرئيس الشيشاني الحالي أصلان مسخادوف، والذي كان معروفاً باسم رجل موسكو ورشحه الكرملين ذات يوم للرئاسة في الشيشان، لم يعد مستعداً للتعاون مع روسيا وانضم مؤخراً الى صفوف المقاتلين الشيشان لتفقد روسيا شريكها الأساسي الذي ساندها في حرب الشيشان عام 1994.
وقد تم بالفعل اختيار الحكومة البديلة ويرأسها مالك سيدوليف الذي يقال انه سيزور الشيشان قريباً لممارسة مهام عمله في المناطق التي تسيطر عليها القوات الروسية الفيدرالية,, وأعلن مسؤول شيشاني في هذه الحكومة المشكلة، أن شعب الشيشان يمكن الاعتماد عليه تماماً حيث ان 60 في المائة منهم خارج حدود الجمهورية وسيكون هؤلاء القاعدة الاجتماعية التي ستعتمد عليها الحكومة وستعمل على اعادتهم لوطنهمويذهب رئيس الوزراء الروسي بوتين الى أن الشيشان كانت وستظل جزءاً من روسيا وان المجتمع الدولي لم ينظر لها على أنها دولة مستقلة تماماً.
وأشار إلى أنها أصبحت في الفترة الأخيرة مسرحاً لتنفيذ أعمال السطو والعنف ضد السكان الآمنين واتخاذ الارهابيين منها منصة للوثوب والاعتداء على المناطق الروسية المجاورة، علاوة على أنها أصبحت حسب تصريحات صحيفة لبوتين مركزاً لتجارة المخدرات وتهريب الأسلحة وغسل الأموال القذرة.
ويؤكد ان ما تقوم به الدولة في الشيشان هي أعمال ضد نقاط ارتكاز من يصفهم بالمجرمين ومواقعهم، وليس ضد السكان بهدف اعادة الشرعية لاحدى مناطقها، ويشدد على أنه ليس من الوارد اطلاقاً الحديث عن تسوية سياسية للأزمة الشيشانية طالما لم يتم القضاء نهائياً على هؤلاء المجرمين قائلاً: ان الدولة الحضارية لا تجري محادثات مع المجرمين.
ورغم الاصرار الروسي على انجاح الحملة العسكرية ضد الشيشان بأي وسيلة وأي ثمن فان الخبراء والمحللين العسكريين لا يتوقعون ان تنجح الحملة الروسية في تحقيق أهدافها لأن هذا الأمر يتطلب تدخلاً برياً كبيراً وهو ما تخشاه القيادة الروسية، حيث انه يمكن أن يؤدي إلى نتائج عكسية على صعيد ارتفاع الخسائر في صفوف قواتها.
ويرى الخبراء انه سيكون من الصعب على القوات الروسية تحديد مواقع الثوار بدقة، كما انه من المتوقع ان يقوم هؤلاء الثوار بشن هجمات مضادة على هذه القوات، وبخاصة مع اقتراب فصل الشتاء والظروف الجوية الصعبة والطبيعة الجبلية للمنطقة وكلها عوامل ليست في صالح الموقف الروسي, وقدتزايدت الأصوات الدولية المطالبة بوقف الحرب الروسية ضد الشيشان وطالبت عواصم اسلامية وغربية الحكومة الروسية بوقف هجماتها ضد المسلمين الشيشان,, وحذرت منظمة الأمم المتحدة لحماية اللاجئين من تفاقم أزمة لاجئي الشيشان مع حلول فصل الشتاء.
وأعربت المنظمة عن قلقها البالغ من تزايد اعداد اللاجئين الشيشان بسبب استمرار الغارات الروسية، ورفض اللاجئون الشيشان في انجوشيا وعددهم أكثر من 200 ألف لاجئ، دعوة المسؤولين الروس لهم بالعودة إلى ديارهم، وأكد اللاجئون انهم فقدوا الثقة في الجنود الروس الذين يستهدفون المدنيين خلال هجماتهم,, وأكدوا ان مدن الشيشان تحولت الى مدن أشباح وأن أكثر من 80 في المائة من سكان الاقليم قد غادرو الشيشان ولم يبق سوى كبار السن أو الذين لا يخشون الروس.
ويقدر المراقبون العسكريون حجم القوات الروسية بأكثر من 90 ألف في مقابل 15 ألف فقط من المقاتلين الشيشان.
|