في اطار التحركات النشطة للسياسة الخارجية السعودية قام صاحب السمو الملكي الامير سلطان بن عبدالعزيز بزيارة هامة للعاصمة الفرنسية باريس، التقى فيها الرئيس الفرنسي جاك شيراك، ووزير الدفاع الان ريشار وعديداً من المسئولين الفرنسيين.
وقد جاءت زيارة الامير سلطان في اطار دعم علاقات التعاون والصداقة بين فرنسا والمملكة، وتحولها المطرد نحو تاسيس شراكة استراتيجية بين البلدين، ويرى المراقبون أن اسس هذه الشراكة تكمن في:
ا العمق التاريخي في العلاقات بين البلدين وتطورها من مجرد تبادل تجاري وتعاون عسكري الى تقارب وفهم متبادل للقضايا العربية، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية والحوار العربي الاوروبي، ومستقبل النظام الدولي.
2 العلاقات الاقتصادية القوية بين البلدين والتي تستمد قوتها من العلاقات غير التنافسية بين اقتصاد البلدين، بما يحقق التكامل والتعاون بينهما، فالمملكة تصدر النفط ومنتجاته، مقابل استيراد التكنولوجيا المتقدمة والمنتجات الزراعية والغذائية والمعدات العسكرية الفرنسية، وقد بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين في الثمانية اشهر الماضية 7,3 مليارات ريال، بينما بلغت صادرات فرنسا للمملكة عام 1998 حوالي 8,4 مليارات فرنك، وقد احتلت بذلك المملكة موقع الشريك التجاري الاول في الشرق الاوسط مع فرنسا، وبالرغم من ذلك فان هناك فرصا عديدة لتطور وزيادة حجم ومستوى المبادلات التجارية بين فرنسا والمملكة، خاصة في مجالات الاستثمار وتبادل الخبرات والتدريب، وربما تشجع القوانين والنظم الجديدة في المملكة المستثمرين الفرنسيين على دخول اسواق المملكة.
3 ان العلاقات التاريخية بين البلدين، ونمو المصالح التجارية يخلق اسساً موضوعية لتطوير التعاون السياسي والثقافي بين البلدين، وتجدر الاشارة هنا الى رغبة فرنسا في الابقاء على دورها في الخليج وتنمية هذا الدور بهدف المساهمة في ايجاد حل للازمة العراقية من جهة، وتطبيع علاقات ايران مع العالم الخارجي من جهة ثانية، في الوقت نفسه فان المملكة تحرص على الدور الفرنسي لتحقيق قدر اكبر من التوازن في علاقاتها مع الدول الاخرى.
4 تسليم البلدين بالاهمية الاستراتيجية لكل منهما، ففرنسا احدى اهم القوى الدولية التي تطمح في لعب دور اكبر في تشكيل النظام الدولي الجديد من خلال تدعيم الوحدة الاوروبية ولعب دور بارز في قيادة اوروبا الموحدة، اما المملكة فهي احدى اهم القوى الاقليمية في الشرق الاوسط، كما تلعب ادوارا عربية واسلامية ودولية بالغة الاهمية، من هنا فان مكانة المملكة وثقلها السياسي والاقتصادي والثقافي يشجع فرنسا على تطوير علاقاتها بالمملكة نحو شراكة استراتيجية، لاسيما وان سياسة المملكة تحرص على اقامة وتطوير علاقات خارجية متوازنة مع كل الاطراف الفاعلة في النظام الدولي.
البداية في جدة
الاسس الاربعة لقيام شراكة استراتيجية بين المملكة وفرنسا تقدم نموذجا جيدا للعلاقات بين دول الشمال والجنوب في عصر ما بعد الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتي والحديث عن النظام الدولي الجديد، فالعلاقات بين دول الشمال والجنوب يجب ألا تقتصر على تبادل تجاري او حتى تعاون عسكري، يقوم على تصدير مواد خام او نصف مصنعة مقابل استيراد تكنولوجيا متقدمة او اسلحة بل يجب ان تقوم على المشاركة الكاملة في المجالات السياسية والثقافية والاقتصادية و التكنولوجية، أي ما يعرف بالشراكة الاستراتيجية، التي تقوم على الاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشئون الداخلية ومراعاة الخصوصية الثقافية، والثابت أن تأسيس مثل هذه الشراكة يدعم العلاقات بين البلدين، ويضمن استمراريتها وتطورها.
ويرى المراقبون أن اهمية الشراكة الاستراتيجية لم تكن خافية على قيادة المملكة، من هنا فقد ارسى خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز والرئيس الفرنسي جاك شيراك اولى لبنات هذه الشراكة في زيارة الاخير الى جدة في يوليو1996، وقد نمت وتعززت ملامح هذه الشراكة عبر زيارات اصحاب السمو الملكي الامير عبدالله بن عبدالعزيز ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء الى فرنسا عام 1998، ثم زيارة صاحب السمو الملكي الامير سلطان بن عبدالعزيز، في المقابل قام عديد من المسئولين الفرنسيين بزيارات متتالية للمملكة بحثوا خلالها آليات تطوير الشراكة الاستراتيجية بين البلدين، والتي كان ابرزها تشكيل لجنة مشتركة سعودية فرنسية تجتمع كل 6 اشهر في احد البلدين، وتبحث الجوانب المختلفة للعلاقات بين البلدين.
والمتابع لتصريحات صاحب السمو الملكي الامير سلطان بن عبدالعزيز والمسئولين الفرنسيين الذين التقاهم يلحظ تشابها واضحا في مواقف الطرفين، فيما يتعلق بتقييمهم لمدى اهمية العلاقات بين البلدين وضرورة تطويرها، وكذلك بالنسبة لمسيرة السلام في المنطقة وتأييد قرارات الامم المتحدة والاتفاقيات التي وقعت بين الجانبين الفلسطيني والاسرائيلي.
والمؤكد أن مسيرة السلام في المنطقة قد شكلت محورا رئيسيا في مباحثات صاحب السمو الملكي الامير سلطان مع الرئيس جاك شيراك، فالقضية الفلسطينية ومستقبل مسيرة السلام هي احدى اولويات السياسة الخارجية للمملكة.
والى جانب ملف مسيرة السلام تطرقت المباحثات الى الاوضاع في الخليج وازمة العراق، والاوضاع في المغرب العربي، وبداواضحا أن الجانب الفرنسي مهتم باطلاع صاحب السمو الملكي الامير سلطان على نتائج المحادثات الفرنسية مع الاطراف الفاعلة في عملية السلام في الشرق الاوسط، وكذلك نتائج زيارة الرئيس الايراني محمد خاتمي الى فرنسا.
ولاشك ان اهتمام الجانب الفرنسي والرئيس شيراك شخصيا باطلاع سمو الامير سلطان بن عبدالعزيز على هذه الملفات يعبر عن تقدير فرنسي للاهمية الاستراتيجية للمملكة عربيا واسلاميا ودوليا، في هذا السياق اشار غير مسئول فرنسي الى دور المملكة البارز في حفظ الامن والاستقرار في منطقة الخليج، والى انها ستتولى نهاية هذا الشهر رئاسة مجلس التعاون الخليجي.
هكذا تكللت زيارة صاحب السمو الملكي الامير سلطان بالنجاح سواء من حيث التوقيت او نتائج المباحثات على صعيد العلاقات السعودية الفرنسية والتي تبشر بتطور كبير يحقق مصالح الشعبين ويسمح للمملكة بدعم القضايا الخليجية والعربية عبر الحوار والتفاهم المشترك مع احدى القوى الكبرى في النظام الدولي الجديد، والتي ترتبط مع المملكة بعلاقات شراكة استراتيجية، فاذا ما اضفنا هذه الشراكة مع الشراكة الاستراتيجية المقترحة للعلاقات بين الصين والمملكة فاننا نكون ازاء نوع جديد من التوازن الدقيق والايجابي في ادارة المملكة لسياستها الخارجية.
|