تكلم مؤخرا المتحدث الرسمي باسم البيت الابيض ضد ما تقوم به روسيا في الشيشان ووصفه بأنه يتعارض مع حقوق الانسان، ولا يلتزم باتفاقية جنيف التي تحرم ضرب المدنيين في الحروب بكل اشكالها الاقليمية او الدولية.
صح النوم يا امريكا لان قولك جاء متأخرا كثيرا فقوات الكرملين تمارس هذا العدوان على حقوق الانسان ضد جارتها الشيشان منذ اكثر من شهر قضت فيه على (الاخضر واليابس) هدمت المباني وحرقت الارض وقتلت الانسان بدون تفرقة بين عسكريين ومدنيين، وبدون رحمة بالاطفال والنساء والمسنين.
اتفاقية جنيف التي يستند اليها البيت الابيض في تحديد موقف امريكا من الحرب الدائرة في الشيشان لم تكن مجهولة في الدوائر السياسية الامريكية، ولكنها لم تتحدث عنها طوال ايام الضرب الطويلة التي مارستها روسيا ضد الشيشان بل تركتهم يسعون في الارض فسادا يعبثون بالحرمات في بلد عضو بالامم المتحدة دون ان (تكش التراب) في وجه موسكو، ودون ان تثير ضدها رأيا عاما دوليا في داخل المنظمة الدولية، كما تفعل مع غيرها من الدول الاخرى التي تمارس العدوان على شعوبها، او التطاول العسكري على جيرانها.
دول كثيرة في الامم المتحدة اسلامية وعربية وحضارية لفتت نظر الولايات المتحدة الامريكية الى ما يفعله عسكر الروس في ارض الشيشان، ومطالبتها باتخاذ موقف دولي ضد الكرملين ومنعه من مواصلة العدوان على دولة مستقلة، غير ان جواب واشنطون على ما يقولون (انها روسيا) التي تمتلك السلاح الفتاك وتتمتع بالعضوية الدائمة في مجلس الامن الذي يعطيها حق الاعتراض (الفيتو) على اي قرار يتخذ ضدها فيتعذر صدوره، وبالتالي لايمكن تكوين رأي عام دولي ضدها لغياب قرار مجلس الامن الذي يدينها بالعدوان على الغير.
الموقف الامريكي بالصورة التي عبر بها لغيره من الدول يدخل في اطار العبث السياسي لان مجرد مناقشة الموقف العسكري الروسي في داخل مجلس الامن يرفع الضوء الاحمر في وجه الكرملين ويدينه بتجاوز احكام القانون الدولي العام حتى وان لم يصدر قرار من مجلس الامن وليس صحيحا ان تكوين الرأي العام الدولي مرتبط بالقرارات التي تصدر عن مجلس الامن، فهناك حالات كثيرة يكون فيها الرأي العام الدولي معارضا لقرارات مجلس الامن، واقوى مظاهره تهديد الدكتور بطرس غالي عندما كان سكرتيرا للامم المتحدة بالقتل اذا نزل من على البارجة الحربية الامريكية على ارض الصومال التي جاء اليها لينفذ قرارا اتخذ من مجلس الامن يطالب بمنع القتال بين الفرق السياسية في سبيل الوصول الى الحكم.
لم يكن من الممكن منع دخول الدكتور بطرس غالي الى الصومال لولا ان الرأي العام الصومالي المدعوم برأي عام دولي ضد القرار الذي اتخذه مجلس الامن في قضية الصومال الى الدرجة التي جعلت كل الفرق المتقاتلة فيما بينها علىالسلطة تقاتل في نفس الوقت القوات الدولية التي دخلت الى ارضهم ضد ارادتهم.
قدمنا الصومال مثلا لما نريد اثباته ولكنه ليس المثل الوحيد، فقرار مجلس الامن بفصل تيمور الشرقية عن اندونيسيا عارضه رأي عام في داخل اندونيسيا وفي داخل تيمور الشرقية ووقف الى جانب هذه المعارضة رأي عام دولي بعد ان انشطر الى فريقين منهم من يؤيد الانفصال لتيمور الشرقية عن اندونيسيا، ومنهم من يعارض هذا الانفصال ولولا هذا الانشطار في الرأي العام الدولي لتعذر على قوات الامم المتحدة فرض هذا الانفصال استنادا الى قرار مجلس الامن.
قرارات مجلس الامن المتعلقة بالاراضي العربية المحتلة التي تطالب باستبدال السلام مع اسرائيل باعادة تلك الاراضي التي تحتلها، ولولا الادوار الاسرائيلية والنفوذ الصهيوني الذي شكل رأيا عاما دوليا يتعاطف مع توجهات اسرائيل لنفذت تلك القرارات الصادرة والمعبرة من الارادة الدولية، واعطى الرأي العام الدولي القدرة لاسرائيل لفرض معادلات جديدة للسلام تتسم بالانصرافية لانها في كلياتها وجزئياتها تعطي لاسرائيل ما لا تستحق وتحرم العرب من كل حقوقهم.
لا نريد ان نطوف بكم حول العالم لنوضح تأثير الرأي العام الدولي على المسلك السياسي سلبا وايجابا، وانما نريد العودة الى قضيتنا عدوان روسيا على الشيشان فاذا كان الرأي العام الدولي لا يؤثر على الكرملين فلماذا جاء صوت امريكا (بعد خراب مالطا) يطالب الروس بوقف ضرب عسكرهم لجارتهم الشيشان؟ ولماذا لم تبادر واشنطون منذ بداية العدوان الروسي على الشيشان بتصعيد معارضة دولية ضد هذا المسلك العسكري غير الشرعي؟
يرى البعض ان السبب في ذلك هو الخوف من روسيا التي تريد ان تثبت سطوتها في داخل اقليم تواجدها، فان اعترض على هذه السطوة الاقليمية لعملت على نقلها الى العالم بكل الاخطار المترتبة على امريكا وغيرها من الدول الغربية بل على الحضارة الانسانية المعاصرة التي اعطت المنعمين بها ثروات طائلة ونفوذا واسعا في العلاقات الدولية.
ويرى البعض الآخر ان السبب في ذلك هو المؤامرة مع روسيا لكسر شوكة المسلمين، ويستدلون في اتهامهم هذا وصم امريكا للاسلام بالارهاب الذي خلطوه بعمد بالكفاح حتى اصبحت التفرقة بينهما غير واضحة المعالم على الرغم من النصوص في القانون الدولي العام التي تحرم الارهاب وتبيح النضال باعتباره حقا مشروعا ضد العدوان على الاوطان.
نحن نميل الى التفسيرين معا الخوف من روسيا على الحضارة الانسانية المعاصرة والمؤامرة مع روسيا للتخلص من الوجود الاسلامي في اوربا او في المناطق المتاخمة لاوربا، والشاهد على ذلك غفلة العالم المتعمدة عن ما قامت به الصرب في البوسنة والهرسك ضد المسلمين وعدم تكملة دور حلف شمال الاطلنطي (الناتو) في كوسوفا بالابقاء على سلوبودان ميلوسيفيتش بقمة السلطة في بلجراد على الرغم من مطاردته الدولية والمعارضة القائمة ضده من شعبه المطالب بعزله وجاء ذلك لان الكرملين يقدم له مظلة الحماية من الاثنين معا.
القرن الحالي الذي نحن على ابواب توديعه اصابته ثلاث عاهات كبرى النازية في المانيا التي تم اغتيالها بحرب ضروس عرفت بالحرب العالمية الثانية كلفت العالم ضحايا كثيرة واموالا طائلة.
سبقها العاهة الشيوعية التي اصابت هذا القرن في العقد الثاني وهي تعاني اليوم من الاحتضار بالاصلاح واعادة البناء الذي قام به اخر رؤساء الاتحاد السوفيتي ميخائيل جورباتشوف وحولته امريكا وحلفاؤها الدول الغربية الى اصلاح اعرج وبناء آيل للسقوط واصبحت الشيوعية (ترعص) من سكرات الموت وتصيب برعصاتها الدول المجاورة لها وتهدد الاسرة الدولية بقدراتها القتالية الهائلة التي من المحتمل استخدامها عندما تصل الى النزع الاخير.
وجاءت بعد العاهة النازية العاهة الصهيونية ليس فقط باغتصابها لفلسطين واقامة وطن استيطاني لليهود بها بعد طرد اهلها من ديارهم وانما ايضا بتزايد النفوذ الصهيوني الذي اخذ يحكم العالم بتوجيه القرارات السياسية لكثير من الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الامريكية حتى اصبحت اسرائيل امبراطورية على العالم بسلطات ديكتاتورية واسعة تتناقض مع معطيات العصر الذي نعيش فيه المرتكز على الديمقراطية.
العاهة الشيوعية المحتضرة جعلها تواصل ضرب الشيشان الذي وصل مؤخرا الى استخدام الصواريخ البعيدة المدى تمهيدا لدخول عسكري الى جروزني بدون مقاومة شعبية للغزو الروسي.
تزداد مظاهر هذه العاهة الشيوعية بالصدام الكلامي بين جنرالات الجيش الروسي وبين السياسيين في الكرملين بعد ان اعلن قادة الجيش الروسي بضرب الكرملين اذا اصدر قرارا بوقف القتال في الشيشان لان الجيش يريد استعادة المكانة الدولية لروسيا التي فقدتها بعد سقوط الاتحاد السوفيتي علىيد السياسيين في الحكم وانهم لن يسمحوا بتكرار ما حدث لهم بالوعود الكاذبة الغربية في الماضي القريب عن طريق الانصياع للتهديد لهم في الحاضر لوقف القتال في الشيشان لان ذلك سيفرض عليهم خسارة كبرى لا تقل عن الخسارة التي وقعت عليهم من جراء التخلي عن الشيوعية.
هذا الموقف للعسكر يعطي المؤشر بأنهم يتطلعون الى السلطة في موسكو ويخططون في ذات الوقت للعودة الى الشيوعية لرفع المعاناة المادية عن الجيش بسبب العجز عن دفع رواتبهم لشهور طويلة، ويؤازرهم رجل الشارع الذي زادت معاناته اليومية باقتصاديات السوق المعوق عن معاناته تحت مظلة الحكم الشيوعي السابق الذي كان يوفر له الحد الادنى من المأوى والمأكل والملبس الذي يفضل كثيرا عن هيامهم على وجوههم في شوارع المدن الروسية.
ان الجيش بهذا الموقف يريد اخراج روسيا من الوضع الذي وصلت اليه عن طريق اخراج الشيوعية من حالة الاحتضار، وهذا يتطلب منهم اعادة الدول التي استقلت بعد انهيار الاتحاد السوفيتي الى الحظيرة الروسية حتى يتم اعادة بناء الوطن الروسي على دعائم الفكر الشيوعي، وهذا يعني ان العدوان العسكري على الشيشان سيتبعه عدوان اخر متكرر على دول القوقاز خصوصا لو خضع السياسيون في الكرملين لتهديدات العسكر لهم لان ذلك سيفتح بابا لا يغلق يجعل جنرالات الجيش الحكام الفعليين لروسيا بعد تحويل السياسيين في الكرملين الى (طراطير) في السلطة تمهيدا للتخلص منهم خلال مراحل قادمة.
رجال الشيشان لا يرهبون استمرار الحرب مع روسيا ويعدون العدة لمواجهة قتالية طويلة ضدهم ويؤكدون بأنهم سينتصرون على جند الروس الغازين لبلادهم على اساس ان الحرب الطويلة ستسحق روسيا لعدم استطاعتها مواجهة تكاليف القتال الباهظة خصوصا وانهم عاجزون في ظل السلم عن الوفاء بالتزاماتهم المادية تجاه الجيش وموظفي الدولة وكل الشعب.
ويؤكد رجال الشيشان بأنهم سيوظفون ارض بلادهم في محاربة الروس لان طبيعة تضاريسها ستمكنهم من اصطياد الجند الروس فرادى وجماعات بصورة تجعلهم يواجهون خطر الموت على كل شبر في داخل الوطن الشيشاني، وسيتربص بهم كل مواطن ليجعل وجودهم في بلده جحيما لا يطاق فيخرجوا منه صاغرين، وهؤلاء الجند الروس يدركون صحة ما نقول لاننا انزلنا عليهم قبل ثلاث سنوات هزيمة نكراء حققت لنا الاستقلال عنهم واقامة الوطن لانفسنا الذي سنحارب من اجله الى اخر رجل والى اخر نقطة دم تجري في عروق مواطنيه .
المعروف عن رجال الشيشان انهم اشداء لا يخشون الموت ويحاربون بضراوة المعتدى عليهم، وهذا يجعل تهديد العسكر الروس بمواصلة القتال ضدهم لا يزيد عن مرحلة يتبعها العديد من المراحل القتالية التي تفرض عليهم العجز عن الاستمرار في القتال ليس فقط بسبب عجزهم المادي وانما ايضا بسبب عدم قدرتهم على محاربة الانسان والارض في الشيشان.