الاهتمام بالسياحة الداخلية مظهر حضاري تتسابق فيه كل مدينة ومحافظة في جلب السياح وتنشيط الحركة الادبية، وهذا الحفل الفخم التكريمي المقام على ارض اول مصيف في المملكة العربية السعودية ليس بدعا ولكنه هذه المرة ضم كوكبة كبيرة من الادباء والشعراء الذين قدموا من جوانب المملكة، وتوج برعاية صاحب السمو الملكي الامير سعود بن عبدالمحسن امير منطقة مكة المكرمة بالنيابة، ولا ننسى العمل الجبار المتواصل الذي يقوم به ويرعاه رئيس اللجنة العليا للتنشيط السياحي معالي محافظ الطائف الاستاذ فهد بن عبدالعزيز المعمر، ومساعده الاستاذ عبدالله بن ماضي الربيعان، وساعدهما الايمن الشاب النشط الذي يعمل ليلا ونهارا الاستاذ حماد بن حامد السالمي حيث عكف على جمع شتات الاشعار التي قيلت في الطائف وفي دار التوحيد على مر الازمان في السفر المكون من ثلاثة اجزاء، وغيره من الكتب والنشاطات المتعددة علما ان معظم الشعراء من طلاب دار التوحيد دار العلم والمعرفة التي اولاها جلالة الملك عبدالعزيز كل اهتماماته ومتابعاته - طيب الله ثراه - لعلمه انها ستؤتي ثمارها يانعة بحول الله كما هو الحال, وتبقى ذكريات الدار في طوايا نفوس طلابها مدى العمر وكأني بكل فرد منهم يردد معنى هذا البيت:
ومهما أنس من شيء تولى سأذكر (دار التوحيد) معلّى |
اما الحديث عن دار التوحيد - الام - التي اختار الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه - ان يكون مقرها مدينة الطائف لاعتدال جوها وصفائه، وابتعاد طلابها عن مشاغل اهليهم بل وبالقرب من نسائم المسجد الحرام والمشاعر المقدسة، حديث يحلو لنفوس ابنائها ومن ارتوى من حلو رضابها, لا تمله الاسماع ولا تمجه الاذهان مهما تكرر, فلقد كتب عنها نخبة طيبة من طلابها في كثير من الصحف والمجلات ولاسيما قبيل الاحتفال بمناسبة مرور خمسين عاما على تأسيسها اي منذ 1364ه.
خمسون عاما قد تولت كأنها حلوم تقضت او بروق خواطف |
وصدر عنها في تلك المناسبة ثلاثة او اربعة من الكتب وقام مشكورا بتكلفة هذا الاحتفال وطبع الكتب وغيرها من المستلزمات احد ابناء الملك عبدالعزيز البررة صاحب السمو الملكي ولي العهد الامير عبدالله بن عبدالعزيز والبعض من رجال الاعمال الافاضل جزى الله الجميع كل خير وبركة, وافرغ في تلك الكتب عدد من طلابها اعذب العبارات والثناء وأحلى ذكرياتهم ممزوجة بالفرح والغبطة بمديد فسحة العمر لهم ليلتقوا مرة ثانية، ويسعدوا ببعضهم بعد يأس وطول غياب!
وقد يجمع الله الشتيتين بعد ما يظنان كل الظّنّ ان لا تلاقيا |
وآسف على رحيل بعض الزملاء الذي لم يمهلهم هادم اللذات، ولم يسعدوا بالحضور معهم في تلك المناسبة فلقد تقاطر بعضهم على جسر من (بنات الجو) تأتي بهم هويا على مطار الحوية، والبعض على قوافل من السيارات من جوانب واوساط المملكة المترامية الاطراف.
يحدوهم الشوق والفرح بتلك المناسبة السعيدة التي تحتضن طلاب مدرسة دار التوحيد على اختلاف مراحلهم الدراسية والزمنية العزيزة على انفسهم، وكان في استقبالهم نخبة ممتازة ترحب بمقدمهم، وترشدهم الى اماكن الضيافة والاستراحة في ارقى الفنادق، هناك وعند وصولهم الى قاعة الحفل الفخمة الرحبة فرحين مسرورين اخذ كل منهم يحتضن الآخر ودموع الفرح تكاد تنهمر من عيون بعضهم، فلما استقروا جالسين على المقاعد طوح بهم الخيال الى استذكار ايام الشباب وايام الدراسة ولياليها الجميلة المقمرة وجمع الشمل التي لم يبق منها سوى رنين الذكريات تجلجل في نفوسهم وتجول في خواطرهم وكأني بالبعض يتأوه ويتحسر على سرعة مرور ورحيل تلك الايام الاثيرة على نفوس الجميع.
ما أحسن الايام إلا أنها يا صاحبي إذا مضت لا تعود |
كما ان البعض اخذ يدير عينيه ويسرح طرفه يمنة ويسرة متفقدا احبته ورفاق عمره، ولكنها الايام تفرق ولا يدوم لها سرور حيث يفاجأ بفقد البعض ونزوحهم الى دار البقاء كمثال المشايخ والزملاء: عبدالعزيز بن عبدالرحمن الربيعة وعثمان بن ابراهيم الحقيل، وعبدالرحمن الشعلان وحسن بن عبدالله آل الشيخ - ابوعبدالرحمن - ومحمد بن سعود الدغيثر ومحمد العلي المبارك، ومحمد بن عبدالرحمن الدخيل - أبو عزام - وعبدالعزيز الربيع ومحمد الخيال - أبو دلامة - وسليمان الشلاش وعبدالعزيز الهويش، ومن زملاء الفصل ابراهيم الصالح وسعود المسعري وعبدالله بن سليمان القاضي وعبدالعزيز بن عبدالله بن سحمان وغيرهم مما لا يتسع له المقام - رحمهم الله رحمة واسعة.
ولله در الشاعر حيث يقول:
الدهر لاءم بين الفتنا وكذاك فرق بيننا الدهر |
ويقول الآخر:
تعز فلا ألفين بالعيش متعا ولكن لو راد المنون تتابعا |
وكان هذا الاجتماع مؤثرا جدا في النفوس ما بين فرحة بلم الشمل، وحزن بتعذر حضور وغياب من سكنوا تحت اطباق الثرى.
فكيف تلذ طعم العيش نفس غدت اترابها تحت التراب! |
وبعد تكامل الحضور بدأ الحفل بتقديمة ضافية شكر فيها من حضر وتُرحم على من لم يحضر ثم استهل بتلاوة آي من القرآن الكريم بعده القى نخبة من طلابها القدامى كلمات تفوح من كوامن النفوس وقصائد مؤثرة بعضها قد ألقي في سالف الايام بنادي الدار تلذذاً واستذكارا لتلك الايام الجميلة ايام الفتوة والشباب والنشاط، والتنافس على علو ذاك المنبر العالي الذي خرج الخطباء والعلماء والشعراء والادباء والفصحاء.
يتزين النادي بحسن حديثهم كتزين الهالات بالأقمار |
وأتذكر من الخطباء على سبيل المثال لا الحصر المشايخ عبدالرحمن الشعلان احد الأئمة والخطباء بالمسجد الحرام آنذاك - رحمه الله - وسعيد بن جندول، وعبدالعزيز ابا الخيل، وسليمان الراجحي، وعلي السديس وعبدالله البطاح من خطباء مسجد الهادي بالطائف وغيره من المساجد والشيخ محمد بن عبدالعزيز الشدي خطيب المنابر والمناسبات الذي لا يشق له غبار ومن الشعراء امثال الشيخ عبدالله بن خميس والشيخ محمد بن ابراهيم الهويش والاستاذ ناصر بن سعد الرشيد ومحمد بن زنان وسعد ابو معطي رحمهما الله والاستاذ عثمان بن سيار الذي ينسب اليه هذان البيتان:
تحية من ربى نجد الى بلد قضيت فيه من الايام احلاها وما نسيت فلن أنسى مرابعها وسدرة كنت في المثناة أرقاها |
وغيرهم ممن لا استحضر اسمه الآن.
وقد انتظمت تلك الكلمات والقصائد التي القيت في تلك المناسبة، التنويه، والدعاء من القلب لجلالة الملك عبدالعزيز - يرحمه الله - على تفضله واهتمامه بنشر العلم النافع وإعداد القضاة والمرشدين، والمدرسين لسد حاجة البلاد من الرجال الأكفاء بإنشاء اول مؤسسة دينية متخصصة نظامية بالمملكة التي اختير لها هذا الاسم (دار التوحيد) بوابة النور لنا معشر طلابها، كما ان تلك الكلمات تحمل في ثناياها الشكر والدعاء لمن توالى على رئاستها او درس بها من فطاحل العلماء واخص بالذكر اول مدير لها الاستاذ محمد بهجة البيطار وفضيلة مدير المعارف العام الشيخ محمد بن عبدالعزيز بن مانع الذي يوليها جل اهتمامه بتوجيه من الملك عبدالعزيز ويشجع على الالتحاق بها، وابداء النصح والارشاد لطلابها وحثهم على الاستقامة والنهل من العلوم النافعة كي ينفعوا انفسهم ويخدموا وطنهم، وقد فعلوا وميزوا على غيرهم كما هو واضح بنجاحهم وتسنمهم اعلى المراكز (رحمهم الله جميعا) ومن اسباب تفوقهم على اقرانهم اختيار الموقع وتأمين احتياجاتهم المعيشية والسكنية ووسائل النقل لهم ذهابا وايابا الى بلدانهم وغير ذلك ومتانة المناهج، واختيار كوكبة من العلماء الافاضل، ومن اشهر كبار العلماء والمدرسين من الازهر وغيره، ومعلوم ان زيادة المبنى زيادة في المعنى.
والبيت لا يبتنى الا على عمد ولا عماد إذا لم ترس أوتاد!! |
رحمهم الله جميعا.
ومهما ينسى من مواقف او ذكريات فان ذكريات ايام الدراسة بدار التوحيد خالدة، كذاك والمهجع الرحب الذي يحتضن الطلاب آنذاك، ومعلوم انه قد صمم تصميما فنيا وامنيا مجاورا للمدرسة واسعا، وقد وضعت على جوانبه الحجرات والغرف متقابلات مع بعضها بحيث يكون متنفسا للطلاب ومقراً لناديهم الادبي الاسبوعي الذي يحضره لفيف من الوجهاء والادباء ورؤساء الدوائر الحكومية وفي طليعتهم امير الطائف الراحل عبدالعزيز بن فهد بن معمر - رحمه الله - ووكيل وزارة الدفاع آنذاك الشيخ محمد بن صالح السلطان، يتوسط تلك الحجرات غرفتان للحراس والمراقبين ليلا ونهارا كما ان مطبخ الاعاشة الذي يقوم باحضار مستلزماته محمد الشهراني (رحمه الله) يقع في الطرف الجنوبي الغربي من هذا القسم الداخلي الذي يتولى اعداد الطعام فيه حسن بخاري ومساعده محمد سعيد شرف, فهذا القسم بمثابة البيت الكبير الذي يضم في ارجائه معظم الطلاب الذين قدموا من قرى ومدن نجد، ورغم كثرتهم وتعدد بلدانهم الا ان روح المحبة والاخوة وجو الغربة آلفت بينهم.
ثم توج ذلك الحفل شيخنا الراحل سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز بالشكر والدعاء لجلالة الملك عبدالعزيز ولجميع ولاة الامور، ومن حضر مؤيدا الاقتراح بإبقاء دار التوحيد على صيغتها ونهجها السابق - غفر الله له - وعند الانصراف الاخير الأبدي من قاعة الحفل قلت لبعض الزملاء مداعباً ومودعاً (وعقبال مرور الهنيدة سالمين,,!) (أي بعد مرور مائة عام) وعلى اي حال فإن ذكريات دار التوحيد باقية عل تعاقب الجديدين.
ومهما أنس من شيء تولى فإني ذاكر (دار التوحيد) |
عبدالعزيز بن عبدالرحمن الخريف
أحد طلاب الدار حريملاء