(1)
العالم السردي في مجمله عالم يزخر بالعلاقة بالمكان على اعتبار ان هذا المكان هو الكينونة المركزية في الكشف عن علاقة الشخصية السرديةبفضائها او عن حساسيتها تجاه الحيز الذي تعيش فيه او تتخيله ليغدو هذا المكان او الفضاء او الحيز هو المفتتح او المطلع الذي يكتبه القاص او السارد في بداية نصه في احيان كثيرة ومن خلال هذه البداية يوحي لنا القاص التجريبي المتجدد في كتابته بأنه قد شكل بطريقة او بأخرىحساسية التلقي نفسها تجاه نصه المأزوم بطريقة كابوسية، بمعنى انه يشكل ايقاعا نفسيا خاصا للمكان في نفسية القارىء للنص السردي وبالتالي قد تتعدد اشكال المكان بين المكان الرومانسي الحذر والمكان الكابوسي والمكان الاغترابي والمكان المحلوم الغرائبي والمكان المألوف او العادي المتعدد بأشكاله الواقعية غير المريحة في كثير من الاحيان,, الى آخر ذلك من أمكنة تكثف ازمة القاص الجديد في عدم تواؤمه مع حركية المكان المعاصر الملوثة بايقات العصر المادية غير الحميمة في علاقتها مع روح القاص.
تنطلق هذه القراءة من اشكالية المكان باحثة عن حساسية المكان الكابوسية (البيت والشارع والعراء) وجمالياته المتعددة على بعض النماذج السردية القصيرة المحلية حيث يمكن توقع ان يصدر بعض القاصين في تناولهم للمكان من مقارناتهم المتعددة بين عدة امكنة متمازجة بعضها مع بعض على نحو التمازج بين ذاكرة انفتاح الصحراء ورحابة الريف من جهة وبين واقعية اختناقات المدينة والمكان النفسي الكابوسي فيها من جهة ثانية وبين هذين النموذجين تحديدا على اقل تقدير نجد اشعارا يوحي بان القاص ينوع في صور المكان ودلالاته الى حد قد يصبح المكان هو البطل المشارك للشخصية الرئيسية في بناء عالم القصة المأزوم بالعلاقة المتوترة بين الذات وحيزها المكاني,.
وهذه العلاقة هي التي سنحاول تناول بعض قضاياها من خلال تفاعل القاصين مع البيت والشارع والعراء في عالم المدينة المعاصرة حيث للبيت والشارع صفة كابوسية اذ البيت له دلالتا الانعزال والاختناق بين الجدران وكذلك الشارع بوازي البيت في حمل دلالتي الخوف والموت من الالة والزحمة الالية في حين قد يمثل العراء بعض جوانب الاغتراب بين الذاكرة الرومانسية وواقع الحال المقلق نفسيا لكنه يبقى الاكثر حميمية في مجمل القصص لانه منفتح مكانيا وفيه جماليات الانطلاق والتأمل والابتعاد عن الضوضاء.
ان تناول بعض النصوص السردية في هذه القراءة لا يحمل سياقا بحثيا استقصائيا بقدر كونه محاولة للتداخل مع بعض النصوص المختارة بطريقة عفوية والتي توحي من خلال عناوينها او من خلال بعض عباراتها ان لها قيمة تفاعلية مع المكان علما بان المكان موجود في كل نص من النصوص السردية مهما كان نوعه لان المكان واحد من العناصر الاربعة التي تشكل ابعاد اي نص حيث عناصر اللغة، والشخصية، والمكان والزمان هي عناصر الابداع الرئيسية التي يختزنها كل نص مهما كان جنسه الادبي.
ولعل التفاعل مع بعض النصوص السردية القصيرة قادر على ان ينتج بعض الرؤى المبررة لمشروعية هذه القراءة في نهاية المطاف.
(2)
في بعض النصوص القصصية تمثل المدينة الكابوس الاسمنتي من خلال رمزية البيت الكابوسية اذ ان علامة البيت في المدينة في الكثير من القصص علامة كابوسية مرعبة مقلقة غير مريحة اطلاقا.
هذا ما نجده في قصة فهد المصبح (شموخ) حيث قصته القصيرة المكثفة تقص حكاية بطل شامخ الرأس لخمسين عاما رغم خساراته المتتالية لكنه كان دائما يجري ويجري في الفضاء الرحب وتحت اشعة الشمس وذرات الهواء وزخات المطر اطلق لساقيه العنان، ظل يجري حتى سقط على الارض اعياء وما ان يفيق حتى يجد نفسه قد جر الى جحر نمل يزحف مع هذه الحشرات تحت الارض ويتقزم معها واقفا تحيط به الحيوانات الصغيرة التي حفرت له حفرة بقدر جسمه ثم تكون النهاية ان يختنق بقدم حيوان ضخم تهدم جحره.
وعلى هذا النحو قد وصفه القاص: (ظل على هذه الحال دهرا لا يكبر جسمه عن الحفرة ولا يصغر عنها,, المهم ان رأسه كان شامخا طيلة هذه الفترة التي قضاها بينهم,, يحكم فيهم وهو مكتوف الحركة,, حاول حملهم على اعادته الى وضعه السابق لكنهم اندفعوا هاربين وهو يصيح فيهم,, احس بثقل على رأسه,, رفعه بعناد,, فوجد قدم حيوان ضخم تخترق سطح الجحر وتغوص فيه.
والمفارقة في هذا النص القصير تكمن في ثنائية الشموخ في الفضاء الرحب ثم الانحشار المفاجىء في جحر الى حد الموت وكأن السير في الشارع بما يحمله من شموخ لابد ان يفضي بطريقة او بأخرى الى لحظة الانحشار في منزل ما هو الا منزل الموت والتلاشي بطريقة مأساوية.
وبذلك كانت اللعبة الكابوسية المركزية التي لعبها القاص هنا في قصته تكمن في انه خلق جوا مرعبا لهذه الشخصية داخل المنزل الذي وضعها فيه وهو منزل النمل الذي يوحي بطريقة او بأخرى الى التشابه مع المنزل في المدينة، وما يقدمه هذا التشابه من عبثية سوداء تضعنا في النهاية كمتلقين امام دراما تراجيدية الكتابة السردية وهي تصور علاقة الانسان المعاصر بما هو دونه وبما هو اضخم منه وفي كلتا الحالين يضيع الانسان في حالة موت كابوسة سوداوية في مكان كابوسي هو جحر النمل/ الناس.
(3)
وعند القاص نفسه فهد المصبح نجد هاجس الشارع هو هاجس الموت والخوف والآلة المدمرة للحياة حيث يفتتح مجموعته (الانسة اولين) (1418) بقصة هاجس الخوف وهذا الهاجس هو هاجس المدينة الجديدة المحملة بالموت (الشاحنة) الذي قتل وسيلة النقل التقليدية (حمارة عويس).
وهذا هو النص كاملا:
هاجس
مرت سحابة على حينا، اطفأت كل المصابيح,, صارت الطريق موحلة لا تحتمل,, حمارة عويس تجري وحدها,, يقذفها الصبية بالطين بعدما ينزعونه من ثيابهم او من الارض,, كانت تفتش عن صاحبها,, عويس رحل في يوم مطير,, لا شمس فيه,, لم يذهب الى المقبرة الا نفر قليل, دفنوه وعادوا يرددون الحكايات ويتزيدون فيها,, البعض اكتفى بإطعام الحمارة ردا للجميل او درءا لهاجس تجسد في داخلهم,, عربة نقل كبيرة مرقت من الطريق المطين,, دهست حمارة عويس,, لم يعد في الطريق ما يجري,, في الصباح لم يعثروا على الحمارة,, والهاجس اخذ يكبر في نفوسهم.
فإذا كانت حالة الموت في البيت الذي جُر اليه بطل القصة السابقة حالة اختناق في جحر فان بطلة هذه القصة (حمارة عويس) تموت في الشارع بفعل الالة الجديدة صفة المدينة المدمرة للحياة بطريقة رهيبة، اذ تصف هذه القصة او كأنها تصف بداية التحول من الريف الى المدينة بما يحمله هذا التحول من هواجس مؤطرة لخوف الناس ورعبهم وهم ينتقلون من زمنية موت ريفية عويس وحمارته الى زمنية كابوس الالة القاتلة صفة المدينة الحديثة.
(4)
وبالتالي تحمل قصص فهد المصبح علاقة كابوسية غير مريحة سواء داخل الغرفة/ المنزل او في الشارع رمز الرعب والموت فإن كانت الغرفة تحوي قلما للكتابة عن الكابوس، فان الشارع يعني ان يحمل القاص خنجرا، يقول بطل قصة (القلم) وهو كاتب قصة: (الشخوص) امامي ارتفع صياحها تؤكد ما اردت ان انفيه امتزج الصياح باصوات جاءت من الخارج,, الدماء تتكاثر وتزداد حتى غطت ارض الغرفة,, نظرت الى الشارع عبر النافذة الوحيدة في الغرفة,, وبسرعة خاطفة كان نظري يبحث عن يدي ليوقفها عن الكتابة فالفيتها قابضة على خنجر.
ولا يخفى ما في هذا النص من اجواء كابوسية يختزنها كل من الغرفة والشارع في وعي القاص ولا وعيه مما يؤكد على مركزية كابوسية المكان في مجمل قصص فهد المصبح والامر يطول لو تتبعنا بقية قصصه في مجموعته المشار اليها (الانسة اولين).
|