وجدتُ قناعاً، فأعجبني أن
أكون أنا آخري, كنتُ دونَ
الثلاثين، احسب أن حدودَ
الوجود هي الكلماتُ, وكنتُ
مريضاً بليلي كأي فتى شعَّ
في دمه الملحُ, إن لم تكُن هي
موجودة جسداً فلها صورة الروح
في كلَ شيء, تُقرِّبني من
مدار الكواكب, تُبعدني عن حياتي,.
(م, درويش: سرير الغريبة).
,,, هذا وكنا قد قلنا (أردف صاحب الجرجاني من بعد مستطرده المعتاد): إن هذا السائد من القيم في حقبة من الحقب قد لا يكون هو ذلك السائد في سواها,, وهذا منطبق على شتى القيم، كقيمة الكرم، التي (كان ومازال ويبدو انه سيظل) حوارنا مع سعيد بن مصلح حولها وحول كتابه عنها حجاب العادة ,قد يعجب القارئ لاطالة قولنا حول هذا الكتاب، وقد يعجز عن متابعة ما قيل عنه، بطريقة سوريالية التنظيم، عبر مساقات متفاوتة، وقد يظن بالكتاب الظنون,وما كنت بهذا أود أن يحدث العجب ولا العجز ولا الظن، لولا ان قضية الكتاب تثير شجونا ثقافية ومنهجية غاية في الأهمية، غاية في التحدي المستمر، لكاتب حريّ أن يُحدث ما يؤلف كل هذا الحوار المتطاول.
ذلك ان اطروحة الكتاب - بصرف النظر عن مسألة الكرم والبخل - تمثل نموذجا لقيمة اخرى، ألصق ببنية العقل البدائي غير المنهجي، الذي يدفع بصاحبه إلى الانتقاء والاجتزاء، لمآرب لا علاقة لها بموضوعية العلم ونزاهة البحث، ومن هناك نلج إلى حلقة من المزايدات التي لا تفيد ولا تصلح، ولا تسمن ولا تغني من جوع, وحينئذ لا يبقى في جعبة المثقف العربي المعاصر من قيم العلم شيء، كما لم يبق لديه من قبل شيء من قيم الاستقامة الحضارية، التي تأتي الآية الكريمة (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط، ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون) سورة المائدة: الآية8)، لتحث عليها.
طوّع المثقفون معارفهم ومراتبهم في المنهج لترسيخ قيمهم الفردية أو العشائرية، وانفض ناديهم عن مهارشات مباشرة او مبطنة بديباجات منمقة تتملق مصطلحات: كالموضوعية والحوارية والمنهجية والديموقراطية,,, إلخ,,إلخ، وما هي بموضوعية ولا حوارية ولا منهجية ولا ديموقراطية,, إلخ,,إلخ,، فأنت إذا تفحصت ورأيت ثم رأيت لن ترى مما يتفيهقون به - في ساعات القيلولة والسهرة - من شعاراتهم شيئا، فها كل يغني على ليلاه، وليلى لا تقر لهم بذلك، وها ندواتنا ولقاءاتنا العامة والخاصة - على أنها أعز من قطر السماء - لا تزيد الحمية إلا اشتعالا ولا الموضوعية ووقار العلم إلا غثا على إبالة، وضاعت حواريتنا - يا جماعة الخير - في حواريينا من عيال حوارينا قديمة وحديثة, وما بي من حب للجناس ها هنا لكنها مفارقات الحال تفرض لغتها, هل رأيت مثقفا عربيا يقدم طرحا لوجه العلم والاصلاح قط؟! نشدتك الله إن رأيت فأرشدني,, أرشك الله إلى خير!
أما أنا فلا أرى سوى أمم كلما جاءت أمة لعنت اختها، إن رضيت كلت بصائرها عن كل عيب، فأثنت واسرفت في الثناء، وان سخطت لم يردعها وازع من علم او خلق عن ان تمارس ثاراتها في صيغتها العصرية بالقلم مثلما كانت - عبر تاريخها، وما ادراك ما تاريخها!- تمارس ثاراتها في صيغتها العتيقة بالسنان والجنان.
ومفارقة "حجاب العادة"الكتاب كمفارقة "حجاب العادة"المجتمع والسلوك، ان يبشر بما لا يفعل وينهي عما يأتي، من حيث أراد أو لم يرد، فتراه يلوي اعناق الحقائق ويغالط في التحليل والاستنتاج نفسه، كي يصل إلى مبتغاه الذي استقر لديه، وخطط من أجل طرحه في كتاب، مع سبق الاصرار والترصد,, وكأن أحد هؤلاء الرعيل من وجهاء الحبر والورق، لا يعرف أنّى يكون شيئا إلا على انقاض خصم ما، يعيد إليه مجده، مجداً يستشعر مثار نقعه في لا وعيه الجمعي، فلا يكتب إلا ليثبت أو يلغي,, يتوج او ينفي,, يردّ أو يؤكد، لا بالمعنى العلمي المشروع، وإنما بالمعنى الطائفي المغرض, ثم نتحدث عن سماحة منتظرة من الآخر، أين ونحن لا نحسن التسامح مع انفسنا وأبناء جلدتنا؟!,وما بي حبّ الموعظة هنا أيضا,, لكن ذلك جميعه يثيره الكتاب بجدلياته مع التراث او بجدلياته مع نفسه التراثية.
- 2 -
ولقد وقفنا في مخاضنا الأخوي مع صاحب الحجاب، إلى القول: إن التحول في سيادة القيم لا يكون بالمعنى - الذي تعثرت عنده رؤيته - من أن التجربة تفرض ضروراتها الاجتماعية الاقتصادية فحسب، ولكن ايضا لأن القيم قائمة اساسا على قواعد انسانية من المصالح المتداولة والطقوس المرعية، لا على مُثل أخلاقية مطلقة,وبذا كان الكرم قانونا عربيا، احدى وظائفه اقصاء الجفوة بين الضيف والمضيف، لأن كل غريب عند العرب عدو طبيعي - كما يذهب، بحق، (روبرتسن سميث)، في كتابه عن ديانة الساميين ، (ينظر: عرض ايناس حسني للكتاب، مجلة قرطاس : ع39، ابريل 1999 ص9) تكون مطاعمته بمثابة عهد أمان يحمي المضيف كما يحمي الضيف, وما زال التعبير عن ذلك دارجا على ألسنة الناس، حينما يشيرون إلى واجب رعاية العيش والملح بينهم, ولما لم تكن علاقة الكرم مثالية أخلاقية صرفة، لم نكن في حاجة الى مثل ذلك البيت الصريح في بخله او خسته على حد تعبر (الأصعمي):
وإنا لنجفو الضيف من غير عُسرةٍ
مخافة أن يضرى بنا فيعودُ
لنكتشف البنية العميقة لعلاقة الكرم الاجتماعية - الاقتصادية، ذلك البيت الذي توهم الشراح - وما أكثر أوهامهم غيرالمشروحة! - أنه شذوذ يحتاج إلى تقويم، ففعلوا ما عزاه إليهم (الشاعر ابن مقبل) حين قال: إني لأرسل البيوت عوجا فتأتي الرواة بها قد أقامتها, كما لم يكن سعيد بدوره في مظنة ان يتوقع خطابا صريحا بالضرورة لكي يقرأ فيه القلق والتمرد على سائد صريح,ما أعجبه من جفاء الضيف إلا ما أراد ان يثبته من تغييب الخطاب لغير القيمة السائدة, لكن أما رأى غيره من الأبيات الكثيرة والقصص عن طائفة البخلاء، التي سبقت اطراف منها من قبل عن (ابن قتيبة) وحده في كتابه عيون الأخبار ؟!,فماذا لو بحث صاحبنا واستقصى ثم جاءنا يسعى بنتاج يضيف إلى نزوعه الثقافي المخلص إلى النقد القيمي درسا علميا قيما، يثبت لمناقشة تؤسس لبنة صالحة لتشييد معرفي مستقبل.
* آداب جامعة الملك سعود - قسم اللغة العربية,>على ضفاف الواقع