قال المطوع (1) بصوت مرتفع للقراّيه المتحلقين حوله اقرأوا وبصوت عال حتى أسمعكم، وقام من مجلسه حيث يفترش الرمل بين منزله ومزرعته ليدفع السانية بعد توقف لصوت حنين المحالة التي تساعد على نزح الماء من قاع البئر، استغل القراية غياب صوت المطوع ليتحركوا من أمكنتهم بعذر قضاء الحاجة او شرب الماء وتفرقوا حول عشة القراية وقف بجوار جدار قصير وهو يرتجف من البرد اذ لم يأكل شيئاً هذا الصباح، فقد كانت والدته التي تودعه عند ذهابه مع أقرانه او من هم أكبر منه من أبناء عمومته الى القرية(2) المجاورة حيث مقر المدرسة او (المطوع) او (الكُتّاب) كما يسمى بالمدينة، ذلك الصباح قام من نومه مذعوراً على صراخ عمه الذي بدأ يلومه على تأخره في فراشه ويخبره بأنه قد حان موعد الذهاب الى المدرسة ، والتي لم يمض على دخوله بها سوى أشهر قليلة وما زال يحاول فك الحروف من خلال اللوح الخشبي المطلي بالجص الذي يكتب به (المطوع) كل يوم بعض الحروف الهجائية ويطلب منه حفظها ,
كان معتاداً على أن توقظه والدته كل صباح وتغسل له وجهه وتقدم له ما تيسر ولو تمرات بعدد أصابع اليد الواحدة او ما بقي من عشاء البارحة، (غبيب) يأكله على عجل قبل لحاقه بأقرانه الذين قد غادروا القرية(3) قبله، فيحاول اللحاق بهم راكضاً ومتعثراً ووالدته تشجعه وتحثه على الاسراع للوصول اليهم قبل عودتها لشئون المنزل والمزرعة وحظيرة الماشية وغيرها من الأعمال التي لا تنتهي.
هذا الصباح لم ير والدته كالمعتاد، قام من نومه خائفاً من عمه الذي كان يسخر منه ، وتلفت يريد والدته وعند مروره بالحوش في وسط البيت رآها مضطجعة على جنبها ومغطاة وبجوارها شىء ملفوف ، وكان وقتها لم يتجاوز الرابعة من عمره ، ومع ذلك لم تستطع أن تقوم لتوديعه او تقديم ما اعتادت على تقديمه له ، وعرف أنها ملتصقة بهذا الشىء الملفوف وكأنه أغلى منه، فلحق بأبناء عمه بلا رغبة ,
وهو يقف مرتجفاً من البرد بجوار الحائط القصير كانت تقف خلف الحائط زوجة المطوع وتسلم عليه وتسأله عن والدته؟ وهل ولدت؟ هذا الصباح حيث سألته هل أضنت عندها تذكر وضع أمه غير المعتاد وما بجوارها فسأل بدوره زوجة المطوع ومن أين تلد المرأة ؟ فقالت وهي تشير الى كمها من هنا يخرج المولود وكان لها كم واسع فصدقها ، وعند أذان الظهر عاد حافياً الى حيث تنام أمه فوجدها جالسة معصوبة الرأس وبحجرها مولود صغير يبكي وهي تلقمه ثديها ، وتضحك له ، وأول ما بادر اليه أن اتجه ببصره الى كم ثوبها وهل هو واسع بحيث يتسع لهذا الطفل الجديد,
أخذ يتأمل ويقارب بين الأمس واليوم والفرق بين استقباله وتوديعه ، وكيف أن هذا الطفل سيستحوذ على عاطفة والدته ، وبدأ يفكر من ذا الذي سيهتم به غداً ، في هذه الأثناء جاءه صوت عمه من المنخل من خارج المنزل وتحديداً من المزرعة المحيطة بالمنزل منادياً له طالباً منه احضار ( البذر ) من عمته لتسوية الارض وتهيئتها للزراعة من جديد، فعاد الفتى الى امه ، ووقف ينظر الى الطفل شارد اللب ، ونسي ما طلبه عمه ، وما لبث عمه أن نادى مرة اخرى بصوته الجهوري فعاد مسرعاً اليه ، فنهره بقوة عندما لم يجد معه البذر فسألة عما أرسل من اجله فغمغم بأنه نسي فرد عليه عمه , قائلاً: (ياحسافة الحلبة والرشاد التي أكلتها أمك وهي نفساء بك) فأعتبرها شتيمة وعاد الى امة يبكي ويحاول ابعاد الضيف الجديد، انه يتذكر هذه الحادثة جيداً ولا يزال على الرغم من مضي قرابة الخمسين عاماً على هذه الواقعة يذكِّر بها عمه في كل مناسبة,
أصبح المطوع يوزع وقته بين متابعة السانية وحثها على رفع الماء من البئر الى البركة التي يجتمع بها الماء تمهيداً لفجرها ليتوزع مع السواقي حيث النخل والمزروعات الاخرى الشحيحة ، وبين متابعة القراّية وتحفيظهم دروسهم ، منه المبتدىء مثل ذلك الفتى ومنهم من تقدم وحفظ عدداً من أجزاء القرآن الكريم فحاول تكليف أكبرهم سناً بالقيام بدوره ولكنه لم يفلح مما اضطره الى أخذهم معه لمزرعته وتوزيعهم حول السانية المنحاة وحثهم على رفع الصوت عند القراءة ، منهم من بدأ بقراءة سور القرآن القصيرة ومنهم من قرأ أيات من السور الطويلة ومنهم من قرأ الحروف الهجائية (القاعدة البغدادية) والمطوع يرفع صوته حاثاً البقر (السواني) على الاسراع في نزح الماء وهكذا كلما رأي أحد الطلاب متكاسلاً أو لا يقرأ بصوت عال رفع عليه العصا مهدداً وضارباً أحياناً ، وضرباته احداها بالبقرة وأخرى بأحدهم ويذكره في مرات عديدة أنه كاد يهوي عليه بالعصا لشروده وتفكيره بالطفل الجديد وعندما قرب العصا من ظهره صرخ بقوة يامطوع يامطوع فاعتقد ان هناك أمراً مهماً فوقفت العصا بيده قبل أن تصل الى هدفها وسأل ما الامر؟!
فقال له عسى النخل حامل كله، فضحك المطوع وضحك معه الطلاب وعفا عنه وأعرض عن عقابه.
(1) عبدالرحمن بن عبدالله الثنيان رحمه الله في العام الماضي 1419ه
(2) الصبخة
(3) عتيق وتسمى مجتمعة معقرة إحدى عقل الزلفي
|