Friday 5th November, 1999 G No. 9899جريدة الجزيرة الجمعة 27 ,رجب 1420 العدد 9899


نعيش ونموت والمقابل ثلاثة أصفار
سليمان بن محمد النقيدان

بعض الرجال تجد حظه في الزوجة الصالحة المطيعة أكبر من حظه في وفرة المال ,, وبعضهم تجد حظه في وفرة المال أكبر من حظه في صلاح الأبناء وبرهم بوالديهم ,, وبعض الرجال تجد حظه في صلاح الابناء أكبر من حظه في الزوجة الصالحة ووفرة المال ,, وبعضهم لا هذا ولا هذه ولا تلك ، نسأل الله العافية من كل مكروه ,
فلقد كثر النكد في هذه الايام، وتعددت أشكاله ومصادره ، وارتفعت نسبة المنغصات وتوترات الاعصاب ,, وأصبح انسان هذا الجيل شارد الذهن ,, كثير الشكوى ,, تطارده الهموم من كل صوب ، وذلك بسبب ربة البيت ,, أو أحد الابناء ,, او من بعض العملاء او زملاء العمل ,, وقد تأتي المشاكل من هؤلاء جميعاً وكأنهم على اتفاق وموعد مسبق !.
بينما نجد أيام السعادة شحيحة في الغالب ، وقد تمر بنا مرور السحاب فتأخذ منا أضعاف أضعاف ما أعطتنا فلله الامر من قبل ومن بعد ,
ونحن لو نقوم بتحرير احصائية تقديرية ونحذف من أعمارنا أيام الكبد والنكد وضيق البال التي تعترض سبيل حياتنا ونحتسب ايام سعادتنا ولحظاتها لما بقي لنا من أعمارنا الا النزر اليسير !.
ولقد جاء في بعض القصص التراثية ان رجلا من أهل الفكر والادب وقيل : من الوراقين سافر من بلدته الى بلدة اخرى بعيدة عنه لم يسبق له ان زارها لقضاء حاجة من الحاجات ، فلما أقبل على تلك البلدة حط الرحال ، وكان الوقت ليلاً ، وربط حماره لينام حتى يطلع الفجر ، وهذا شأن أسلافنا لا يستحبون طرق الابواب ليلاً خشية ازعاج الجيران وايقاظهم من مضاجعهم ، فلما استيقط من نومه شاهد على مقربة منه مقبرة أهل البلدة فأخذ يستعرض القبور يميناً وشمالاً فاذا بهم قد كتبوا على قبور موتاهم هذه العبارات :
هذا عاش ثلاث سنوات وذاك عاش سنة وهذا عاش كذا شهر وذاك اياماً ! وهكذا !, فاحتار في الامر !, وتملكه العجب وهو لا يصدق ما يرى !, سيما وان بعضها قد تحاوز من الطول والعرض منتهاه!, ياالهي: هل أنا في حلم ؟, ام ان هؤلاء من عالم غير عالمنا ؟, فاذا بعابر سبيل من أهل البلدة يمر بمحاذاة المقبرة فتقدم اليه واستوقفه قائلاً:
تعال ياأخي العزيز : أخبرني كيف عاش هؤلاء هذه المدد القصيرة وقبر الواحد منهم يزيد عن المترين طولاً؟! فرد عليه عابر السبيل وهو منذهل: هه، يبدو أيها الرجل أنك غريب عن هذا البلد ؟!
الاعمار هنا لا تقاس بعدد السنين التي يعيشها الناس طالت ام قصرت ، وانما بأيام وساعات الفرح والسرور التي تمر بنا فكل واحد منا يقوم قبل وفاته بتقدير هذه الايام والسويعات ثم يوصي أهله ان تكتب على نصيبة قبره بعد وفاته وهذا شأننا ، فقال الوراق لعابر السبيل : آه : الآن عرفت انكم اذا لمعمرون ، واني لاحسدكم على طول هذه الاعمار ، وسوف أوصي اذا عدت الى بلدتي ان شاء الله ان يضعوا على نصيبة قبري ثلاثة أصفار فقال عابر السبيل : وماذا تعني هذه الاصفار ؟ فقال : الصفر الاول مقابل حياتي القاسية التي عشتها مع زوجتي !, والصفر الثاني مقابل معاملة اولادي الذين يأخذون بأراء غيري من الناس دون رأيي استهجاناً واستخفافاً منهم بعقلي !, والصفر الثالث لعامة الناس الذين لا يقدرون قيمة أدبائهم ومفكريهم !,
وهذا خليل مطران من شعراء النهضة الحديثة قد شعر بما شعر به هذا الوراق من الغمط والاجحاف بحقه من قبل مجتمعه فقال :
اربأ بنفسك ان تكون نجيبا
وازجر خليلك ان يكون اديبا
فلقد ارى موت الاديب حياته
والعيش موتاً يلتقيه ضروباً
وأرى جوائز فضله وعلومه
اعساره والداء والتعذيبا
ياللذكاء ينيرنا بضيائه,.
ويكون للجسم المضيء مذيباً
ياللعلوم نظنها نعماً لنا
فنصيبها نقما لنا وخطوبا
ماذا افادك ان تكون محررا؟
ومحبرا ومفوها ولبيبا ؟
والادب كما يعلم صنّاعه وروّاده يتعب الجسم ,, ويرهق الاعصاب رغم ما فيه من المتعة والاحساس بالنشوة !.
والادباء هم أكثر من يتعرّضون للجحود ونكران الجميل من قبل افراد الامة !, ولئن كان المبدعون فيه يلاقون ما يلاقون في سبيله من مشقة ,, ويواجهون ضروبا من الفقر والبؤس بسبب إسعاد امتهم ، الا انهم في نظر الكثيرين اناس عاديون لا يستحقون الاحتفاء بهم والتقدير أكثر مما يستحقه الرجل العادي ! وربما تجاوز البعض أبعد من ذلك فوصفهم بأنهم أشقياء يجرون وراء افكار وهمية ولدتها لهم الحياة القاسية ,, وجسمها لهم الخيال !!
ولقد أدرك كاتب المقال سلفا ان الشعر الشعبي ليس عاجزا عن مجاراة شقيقه الشعر الفصيح كهذه الابيات من قصيدة مطران التي اسلفنا فقلت مجاراة لها :
فليت في بحر القوافي شراعي
وجبت الصدف من غبة تحت الاعماق
مثايل ما جت على غير داعي
من ضامر يطرب لها كل مشتاق
الشعر عندي ساكن في نخاعي
من مخة العلبا الى مخة الساق
ما قصرت بي همتي واندفاعي
وما لامتن نفسي ولا خاطري ضاق
لا شك عادات العرب ما تراعي
بذلي ومجهودي وتنشيف الارياق
ما سرني عرفي وكثر اطلاعي
وما فادني نقل المحابر والاوراق
جنب طريق العقل كان انت واعي
واجهل وتفتح لك ملايين الارزاق
كم عاقل ضاقت عليه المساعي
وكم جاهل يسطع شعاعه بالافاق
يا خيبتي يا حسرتي يا ضياعي
يا سلعة دالت وبارت بالاسواق
والله ما ينعيك لومت ناعي
ولا ذرف يوم العزا دمع الاحداق

رجوعأعلى الصفحة
الاولـــــــــــــــى
محليــــــــــــــات
مقـــــــــــــــالات
الثقافية
أفاق اسلامية
عزيزتـي الجزيرة
الريـــــــاضيــــة
شرفات
العالم اليوم
تراث الجزيرة
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة][موقعنا]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved