Friday 5th November, 1999 G No. 9899جريدة الجزيرة الجمعة 27 ,رجب 1420 العدد 9899


من المكتبة
منابع الكتابة لدى المفكر علي حرب

وفيما انا اقف الان على هذا المرفأ الرمزي مرفأ الذاكرة، كما اريد لي يحسن عندي ان اتحدث عن علاقتي بمهنتي في بعض اسراراها ومصادرها ومحطاتها من خلال تجاربي وممارساتي فيما اكتبه او انتجه من الاعمال الفكرية.
واجدني اعترف بداية انه لا معرفة من غير تجربة، ولا حرف مما نحطه والا وهو ثمرة الجهد والمراس او الدربة, والكتابة التي لا تقف وراءها خبرات غنية او تجارب عميقة وواسعة هي اشبه بالعبارات الخاوية، او على الاقل تكون مفتقرة الى الجدة والاصالة.
صرت كاتبا محترفا اذ يندر ان يمر على يوم من غير ان امسك بالقلم والورقة, استيقظ في السادسة صباحا لكي اكتب حتى التاسعة فتكون تلك جولة اولى,
ثم اراجع ما كتبته عند عودتي الى البيت قبيل تناولي الغداء بشيء من التعديل والتنقيح كذلك اكتب ما يتيسر لي عند العصر اي بعد الانتهاء من فترة القيلولة والمطالعة.
ولهذا امست الكتابة شاغلي الاول ونصيبي الذي ارضى به مع ان ما اكتبه لا يغني ولا يسمن.
صحيح انه يعود على بمردود رمزي هو هذه الشهرة التي افوز بها ولكن من حيث المردود المادي فان كل ما احصله من كتبي ومقالاتي لا يكفي لشراء ما اشتهي قراءته او اقتناءه من الكتب الاجنبية مع انني اعمل في اليوم اكثر من عشر ساعات.
ولكنها لعبة الكتابة التي لا اتقن سواها تستهويني وتستبد بي حتى صرت اشعر بالنقص والفقد عندما يحول مانع خارجي بيني وبين ما اريد كتابته اوعندما اتعثر في معالجة مسألة معينة او عندما لا اجد موضوعا اطرقه,,
هذا مع انني اشعر الان بأن لدي دوما فائضا من الافكار تنتظر اخراجها من غياهب الذهن الى عالم النص وبأن ما ينقصني بالدرجة الاولى هو ان الانا الجسمانية عندي لا تلبي حاجة الانا الفكرية اذ الاولى يعتريها الوهن والقصور جراء ما يصيب اليد والرأس والجسم كله من الكلل والتعب والألم بعد يوم كامل من القراءة والكتابة اضافة الى الجدل والمناقشة مع الزملاء والانداد.
لاشك في ان تلك المقالة الاولى التي كتبتها كانت حدثا بالنسبة اليَّ اعني ان اقرأ اسمي يتصدر مقالتي منشورة في احدى كبريات الصحف في بيروت تحت عنوان عريض وجذاب هو: جلالة الفلسفة على ما آثر المحرر يومئذ اختيار العنوان فكان ذلك عندي مصدر حبور لا يوصف غير ان ارادة الكتابة لم تأت من فراغ ولم تكن مجرد صدفة وانما كانت نهاية سيرورة، تفاعلت فيها عناصر كثيرة ومتشابكة منها الحلم والأمل ومنها الحرب والجدل فضلا عن القراءة والتدريس.
ولا مراء ان القراءة هي من اهم العوامل عند من يكتب وينتج انها مصنع الكتّاب اذ لا كاتب يثمر ما لم يكن قارئا من الدرجة الاولى، من هنا يقال ان الكتاب الذي يؤلفه احدنايستبطن كل المؤلفات التي اتيح له الاطلاع عليها تماما كما يجر الشخص وراءه تواريخه، وكما يطوي العصر ما سبقه من العصور,
بهذا المعنى ليست الكتابة سوى استثمار ناجع للنصوص التي يتغذى منها الكاتب، والتي هي رؤوس امواله التي يشتغل بها ويحسن صرفها واستغلالها في مختبره اللغوي او في مصنعه الفكري ولعل هذا ما صنعته في بعض كتبي امثال (نقد النص) او (نقد الحقيقة).
ويحلو لي ان اضرب مثالا آخر هو علاقتي بكتاب (المراقبة والعقاب) للفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو لقد قرأته وانا المشهور بين معارفي بالجبن والخوف على دوي المدافع التي كانت تتبادل القصف بين حيين من احياء بيروت في شتاء عام 1976م انه نص استثنائي جعلني انسى الحرب الدائرة في الخارج من فرط فرادته وجدته وروعته.
وفي ذلك شاهد على ان ارادة المعرفة او الرغبة في الشهرة كانت تتغلب عندي في بعض الاحيان على مشاعر الخوف فتدفعني الى الخروج من البيت وسط المخاطر اما لشراء كتاب جديد او لنشر مقالة في جريدة.
عن مجلة العربي (بتصرف)

رجوعأعلى الصفحة
الاولـــــــــــــــى
محليــــــــــــــات
مقـــــــــــــــالات
الثقافية
أفاق اسلامية
عزيزتـي الجزيرة
الريـــــــاضيــــة
شرفات
العالم اليوم
تراث الجزيرة
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة][موقعنا]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved