Friday 5th November, 1999 G No. 9899جريدة الجزيرة الجمعة 27 ,رجب 1420 العدد 9899


أنسنة الاقتصاد!!
د,زيد بن محمد الرماني *

اليوم، لا يعتبر العصر الذي نعيش فيه عصر انسانية قائمة بذاتها، لكنه عصر مرحلة جديدة من الأنسنة، التي ستلغي انقسام المجتمع إلى مالكي رأسمال وأجراء، بعضهم معني فقط بالرأسمال وحده، وبعضهم الآخر معني بالأجر وحده، والتي في الوقت نفسه ستخضع الاستهلاك النامي عفوياً، وفقا لقوانين السوق وحدها، لأهداف عريضة محددة، وعلى المدى الطويل، اي أنها منشودة في نطاق التخطيط، كما أن هذه التعديلات, تأذن بإشباع افضل للحاجات الجديدة لدى شرائح عريضة من السكان داخل المجتمع، وستسمح في النهاية بنمو جديد، أفعل، للقوى الانتاجية.
ويحقق هذه التغييرات أناس يمارسون نشاطهم في مجالي الانتاج، الذي يلعب فيه الذكاء التقني والاقتصادي الدور الأساسي، لأن الانتاج ليس هو الذي يزداد بأسرع مايمكن على الصعيد الكمي فحسب ، بل لانه يمثل ايضاً على الصعيد النوعي الإنماء الحديث للعلم والتقنية.
من جهة اخرى، فإن مجموعة من الناس العاملين خارج الانتاج من والمربين والطلاب وافراد المهن الطبية والمهن الاعلامية والفنانين,, يزداد اهتمامهم ازدياداً اقوى وأكثر مباشرة بتغيير في مجرى تطور الاستهلاك في المجتمع.
فهم الذين يعون أساسا استحالة الاستهلاك السوقي المفرط، الوحيد الجانب الفردي، الذي يترك وسائل غير كافية باستمرار لإشباع حاجات المجتمع.
يقول، أوتاشيله في كتابه نحو طريق ثالث في الاقتصاد : ان الانتاج الرأسمالي لن يولد عمليا انتفاخاً في الاستهلاك لا طائل تحته، ان طرائق مثل التصعيد الثابت لأطوار الأزياء الموضة ، والعقبات المعترضة صراحة لانتاج السلع الجديدة، تبين طابع الانتاج الرأسمالي، وهنا يصبح الربح أكثر أهمية من سد الحاجات وتحسين القيم الاستعمالية.
فاذا كانت الحاجات في كل البلدان، حتى في البلدان الأوفر ثروة، المشبعة اشباعا ناقصاً في المجتمع، ذات عدد كبير، فإن التوسع المفرط للاستهلاك الفردي قد لايخرّب الاقتصاد بالضرورة، ولكن توحيد السكان عمداً في اتجاه الاستهلاك الوحيد الجانب الفردي، يحرف انتباههم عن حاجات جوهرية أكثر في المجتمع، وعن تفتحهم الثقافي بوصفه عاملاً من عوامل الأنسنة.
إن الأنانية الاقتصادية للبشر هي ثمرة ظروف اقتصادية، ولايمكن ان تبدل أشكالها على المدى البعيد إلا بموازاة التطوير الاقتصادي.
يضاف الى ذلك ان المصلحة الانانية تكون دائما مصحوبة باهتمام فردي غير أناني، مستند الى خير جماعي تبدل هو الآخر تبدلاً ثابتاً لدى افراد جماعات اجتماعية مختلفة.
إن الشكل الملموس لهذه المصالح الأناينة والاجتماعية وكذلك شكل علاقاتها المتبادلة، يختلفان، بلا شك من فرد الى آخر، لكنهما يمثلان بالنسبة الى افراد الجماعات الاجتماعية نفسها سمات متشابهة.
وحتى في المستقبل وحده سيكون صحيحاً تغير اهتمام البشر الذي سيستمد مصدره من تحولات وصلت الى اوجها في الاقتصاد.
ومن شأن تبدلات من هذا النوع تطول النظام الاقتصادي وتطول في نهاية المطاف المجتمع بأسره ان تستوجب مساندة فئات اجتماعية عريضة، الجماعات التي ترتبط مصالحها، بهذه التبدلات الاجتماعية المولدة للمتقدم.
ان الشكل الملموس لانانيتها وغيرتها سيتبدل حقا في الوقت نفسه الذي سيتغير فيه موقعها الاجتماعي، والبناء الاجتماعي بأسره.
بيد ان توقع امحاء عام وزوال كلي للأنانية سيبقى نوعا من الاحلام في المرحلة الراهنة.
كذا، فإن الزعم بصدور الأنانية الاقتصادية للانسان الحالي وعن علاقات السوق يعني سوء فهم اسباب هذه الانانية وخلط الاسباب بالمسببات.
ان جوهر الأنانية الاقتصادية، خلال التطورات التاريخية السابقة حتى ايامنا هذه، وبقطع النظر عن مختلف أشكاله الملموسة، استمد جذوره من الطابع غير الانساني للعمل ومن الندرة النسبية للقيم الاستعمالية المستجيبة لحاجة عامة.
إن الندرة النسبية الملاحظة اليوم على صعيد القيم الاستعمالية، وإن الترابط الضروري بين تطور الدخول وتغطية الحاجات، إن الفرق المترتب عن ذلك على صعيد الوضع الاجتماعي واستهلاك البشر، ينبغي ان تتجلى حتما في انانية اقتصادية.
وان سعي البشر في سبيل استهلاك يكون أكبر ما يمكن مقابل عمل معين، او في سبيل عمل يكون اقل ما يمكن مقابل استهلاك معين، يعكس العلاقات القائمة حاليا بين العمل والاستهلاك.
وقد بات العمل في قسمه الاكبر عبئا على البشر واستطاع التطلب الأناني وحده لقيم استعمالية أكثر عددا ومنذئذ لم يعتبر السوق سبب الانانية الاقتصادية بل هو العلاقة الضرورية بين البشر في مرحلة من مراحل تطور العمل والحاجات وشكل الأنانية الموازي.
فطالما ان طابع العمل لن يتبدل بالنسبة الى اغلبية البشر، وطالما انه في ظروف ندرة نسبية للسلع الاستعمالية ان يكون بالإمكان الغاء العلاقة بين سد الحاجة ونشاط العمالة، وبالتالي طالما انه سيستمر وجود فوارق مهمة في تطور الاستهلاك، فسوف تظل هناك انانية اقتصادية.
إن حماس معظم الناس لمزيد من الاستهلاك ولقليل من العمل، أو لعدم زيادة كمية أو نوعية عملهم إلا وفقا لرفع دخولهم، فلا يمكن دفعه الى الزوال لا بطريقة التربية ولا بطريقة عمل الإقناع المعتوى.
ومن ثم، فثمة اعتقاد في ان تحسينات محتملة للدخل مقابل تعديلات طارئة على الانتاجية والنوعية وعلى بنية انتاج المنشآت بأسرها، لا يجوز تقريرها إلا من جانب أجهزة الدولة الرفيعة المستوى، لقدرتها على التخطيط ورسم السياسات المناسبة.
ان هناك في الغرب اقتصاديين ومعهم فلاسفة وعلماء اجتماع وعلماء سياسة، يعتقدون بأن مسألة السوق لايمكنها الا ان تكون ذات طبيعة تقنية وانه يكفي الالمام الدقيق ببنية الحاجات للتوصل من ثم وبالاعتماد على بعض المناهج المتقنة الى توفير الانسجام بين بنية الانتاج وبنية الحاجات.
كذلك قالوا انه من الصواب في الوضع الراهن للاقتصاد القول انه لايمكن لتجميع وسائل الانتاج ان يؤدي الى تبدل قابل للتثمين، ولا الى طباع الغاء الشخصية في العمل، ولا الى ندرة نسبية في قيم الاستعمال.
وبالتالي، فليس المقصود البحث الفردي عن الربح ولا التعطش للربح.
لكن المقصود هو التطلب الجوهري للانسان المعاصر في المرحلة الراهنة من تطور العمل والاستهلاك، بما يحقق الاطمئنان الى تبادل عادل للعمل بين كل الجماعات في المنشآت من حيث تقسيم العمل.
إن الأمنية الذاتية بالغاء مجهود الفعالية، وكذلك بالغاء مكانة القوة المهيمنة في الاقتصاد، تقود حتى في الأطروحات الاجتماعية/ الاخلاقية الى المقترح التالي:
ينبغي للتربية التي يقدمها المجتمع للافراد ان يجري اصلاحها بغية تحريرهم من عبودية الاستهلاك، والميل الى التملك، والتعطش والعدوانية.
ختاماً اقول ان إعادة تربية كهذه قد تستلزم صراعات لأجل تبديل المؤسسات وتحرير المدارس ومراكز التأهيل، وتستلزم مجهودا لأجل أنسنة الانسان منذ فتوتة، تمهيداً لأنسنة الاقتصاد!!,.
* عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
عضو الجمعية الدولية للاقتصاد الإسلامي
عضو الجمعية العربية للبحوث الاقتصادية

رجوعأعلى الصفحة
الاولـــــــــــــــى
محليــــــــــــــات
مقـــــــــــــــالات
الثقافية
أفاق اسلامية
عزيزتـي الجزيرة
الريـــــــاضيــــة
شرفات
العالم اليوم
تراث الجزيرة
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة][موقعنا]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved