Tuesday 26th October, 1999 G No. 9889جريدة الجزيرة الثلاثاء 17 ,رجب 1420 العدد 9889


العولمة وخلط النعاج
د. عبد الرحمن احمد هيجان

عندما نتحدث عن العولمة فإنما نتحدث في واقع الامر عن مفهوم أو اطار او نموذج وإن شئت فقل نظاما جديداً عالمياً يحمل في طياته الكثير من الغموض والتحدي لأكثرية دول العالم وبالاخص دول العالم الثالث وعلى وجه التحديد ما يسمى منها بالدول الرخوة.
ففي جانب الغموض المتعلق بمفهوم العولمة، فإن المتتبع لما يكتب أو يقال، تلفزيونيا او اذاعيا، وهو كثير جدا سواء في اللغة العربية او الاجنبية، يجد ان هناك ضبابية كبيرة لدى كثير من هؤلاء الاشخاص الذين يحاولون ان يقدموا لنا هذا المفهوم سواء فيما يتعلق بتعريفهم له او تحديد الابعاد التي يتضمنها والنتائج المترتبة عليه, فهم في غالبهم يعترفون بأنهم لا يستطيعون ان يقدموا للقارئ التعريف الدقيق لهذا المفهوم وان كانوا يتفقون في جلهم على ان جوهره يتمثل في محاولة فرض نمط حياة امة متقدمة على غيرها من الامم من منطلق الاستعلاء والاحتواء, هذه الصعوبة في الوصول الى تعريف محدد للعولمة نجدها ماثلة في تعبيرات الكثير من اعمال الكتاب والمتحدثين عن العولمة الذين كرروا ولا زالوا يكررون عبارات من قبيل لم تزل العولمة مصطلحا ومضمونا في طور من الغرابة ولم تعرف بعد الاستقرار ، أو عبارة ثمة اتفاق عام على عدم وضوح مفهوم العولمة وعلى صعوبة الاحاطة به من الناحيتين النظرية والعلمية .
لقد دفعت صعوبة تعريف العولمة الى اعراض بعض الكتاب، بقصد او بغير قصد، عن الدخول في معضلة التعريف ومنزلقاته وأثاروا بدلاً من ذلك الحديث عن بداية ظهور هذا المفهوم والدوافع الى نشوئه ومن ثم ابعاده والآثار المحتملة التي سوف تترتب على تطبيقه بالنسبة لجميع دول العالم.
على ان الغموض لم يقتصر على جانب تقديم التعريف الدقيق لهذا المفهوم، بل نجده يسري حتى بالنسبة لأولئك الذين أرادوا ان يؤرخوا لبدايته, لقد حاول الكثير منهم لي عنق الحقائق واغتصاب سجل التاريخ ليضيفوا اليه في مرحلة من مراحله ابناً غير شرعي بزعمهم انه لا يستطيع احد ان يراجع سجل هذا الابن او تاريخ والديه، او قل والده إن شئت، رغم ان الابن كان شرعيا او غير شرعي لابد ان يأتي من اثنين.
فبعض هؤلاء المؤرخين، يحاولون ان يعيدوا ظهور هذا المفهوم الى القرن السابع عشر الميلادي او الخامس عشر وكأنهم يريدون ان يقنعوا الآخرين بأن هذا المفهوم ليس جديدا وانما هو قديم جدا، بل لقد ذهب بعضهم الى ابعد من ذلك حينما دخل في اعماق التاريخ ليربط هذا المفهوم بما قبل الميلاد وليتحدث عن حضارات الرومان على انها نموذج العولمة الاول في التاريخ وبالتالي فإن ظهور العولمة في الوقت الراهن ليس الا مجرد حلقة في سلسلة من هذا التاريخ المتواصل، هذا الغلو في محاولة تبرير طفرة العولمة ربما اصابت بحماها بعض الكتاب والمتحدثين العرب في القنوات الفضائية الذين حاولوا بدورهم ان يربطوا هذا المفهوم بظهور الدول الاسلامية الاولى, لقد اعتبر هؤلاء الكتاب والمتحدثون ان ازدهار هذه الدول وبسط نفوذها على كثير من دول العالم آنذاك انما يمثل في واقع الامر، بالنسبة لهم، نموذجا للعولمة بنفس طابع واهداف وخصائص نموذج اليوم.
وبغض النظر عن المحاولات التي تم بذلها في أدبيات العولمة حول تعريف هذا المفهوم أو بداياته التاريخية، فإن الامر لا يزال شيئا غامضا في ذهن الكثير من افراد مجتمعات اليوم شرقها وغربها حتى الصفوة منهم، وان كان هذا المفهوم في اعتقادي واضح جدا في اذهان راسميه وقلة من المبشرين له، الذين يتعاملون معه الآن ويقدمونه على اساس منطق الواقع والحتمية من وجهة نظرهم.
هذا في جانب الغموض، اما في جانب التحدي وهو الاكثر وضوحا في أدبيات العولمة المكتوب منها والمنشور عبر القنوات الفضائية أو الانترنت، فقد اجاد المهتمون بهذا الموضوع سواء المؤيدون لفرضه او المعارضون لذلك بطرح هذه التحديات وبخاصة فيما يتعلق بالدول النامية, لقد كانت جوانب هذا التحدي السياسية منها والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ماثلة في الكثير من اعمال هؤلاء الكتاب التي نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: فخ العولمة، العولمة والنتائج الانسانية، العولمة وتسويق خدمات الحكومة، أعمال مؤتمر المعهد الدولي للعلوم الادارية، اعمال ندوة عولمة الاقتصاد والادارة العربية،أعمال ندوة عولمة الاقتصاد والادارة العربية التي نظمتها المنظمة العربية للتنمية الادارية، اعمال ندوة العرب والعولمة التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية، أعمال ندوة العولمة والتحولات المجتمعية في الوطن العربي، كتاب العولمة الصادر عن دار المعارف المصرية، تحديات العولمة والتخطيط الاستراتيجي، وكتاب العولمة الصادر عن المعرفة، والعدد الخاص من مجلة كلية الملك خالد العسكرية عن العولمة، الى جانب الكثير من المحاضرات والندوات التلفزيونية مثل تلك التي عرضتها قناة اقرأ أو القناة العمانية تحدثت عن العولمة وتحدياتها.
لقد اوضحت لنا هذه الادبيات في مجملها ان الكثير من دول العالم، ومن بينها بالتأكيد دول العالم الثالث، سوف تواجه عدة تحديات من جراء تطبيق العولمة, من بين هذه التحديات نذكر على سبيل المثال لا الحصر: اعادة تحديد وتحجيم دور الدولة ومنظماتها، هيمنة الشركات المتعددة الجنسيات على اقتصاديات دول العالم والتأثير في أطرها الثقافية، التهديد لأمن وسيادة الكثير من دول العالم الثالث وذلك بسبب عدم قدرتها على مواجهة التحدي الاقتصادي والثقافي الذي تفرضه عليها الدول المتقدمة، شيوع الفساد الادراي بسبب ارتباط مصالح الشركات المتعددة الجنسيات مع مصالح الكثير من رجال اعمال دول العالم الثالث الناجم من تطبيق الخصخصة ، ازدياد حجم البطالة بسبب تبني منهج اعادة هندسة الادارة وما ترتب عليه من تسريح العديد من العاملين كما حدث اخيرا مع شركات نيسان حيث يتوقع ان تُسرح اكثر من واحد وعشرين ألفا من عمالها.
على ان تحديات العولمة بالنسبة لدول العالم الثالث لم تقف عند مجرد قبول او رفض هذا النهج كما تسوق له الدول القوية المستفيدة، بل انها ومن اجل فرض هذا النهج على هذه الدول تستخدم في ذلك وسائلها الخاصة في الضغط على هذه الدول، فهي على سبيل المثال تستغل ما تسميه بشرعية المجتمع الدولي من خلال قرارات هيئة الامم المتحدة، وقوة البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي وشروط الأيسو ISO والشروط الهلامية المرتبطة بالبيئة وحقوق الانسان ثم شروط منظمة التجارة العالمية.
إن هذه الدول المتقدمة وهي تسوق، في أقل الحالات، وتهدد في أكثرها بوجوب تطبيق نهج العولمة بالنسبة لدول العالم الثالث تعدها بالرخاء والنماء والازدهار وذلك على اساس خلط مصالحها، من خلال الشركات المتعددة الجنسيات، مع مصالح الدول الضعيفة، وهو خلط غير متكافئ وغير منصف, هذا الخلط يذكرنا بقصة نبينا داود عليه السلام، كما وردت في سورة (ص) مع الملكين اللذين جاءا يعرضان عليه قضية خلط النعاج التسع والتسعين مع النعجة الواحدة,, لقد فصل داود في القضية عندما قال للمدعي صاحب النعجة الواحدة لقد ظلمك بسؤال نعجتك الى نعاجه وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض,, الخ, غير ان داود عليه السلام لم يكتف بمجرد الفصل في القضية فقد ادرك انه المعني بالمحاكمة في قضية خلط النعاج وان رسالة الملكين هنا واضحة محددة بأن هذا الخلط قد تسبب في بغي القوي على الضعيف الأمر الذي جعله يستغفر ربه ويخر راكعاً وينيب اليه,, هذا الاستغفار لا اظنه سوف يحصل اطلاقا من جراء النتائج التي سوف يحدثها خلط مصالح الدول القوية مع الدول الضعيفة من خلال فرض منهج العولمة التي سوف تكون وبالا بالفعل على أكثر الدول الضعيفة وليست كوارث دول نمور شرق آسيا الاقتصادية هنا ببعيد,, لقد عبر احد الكتاب العرب تعبيرا جميلا عن تحديات العولمة بالنسبة لدول العالم الثالث ووعود الدول المتقدمة لها بالرفاء والرخاء حينما قال انها تعد بالرفاء من دون البنين، وما اجمله واصدقه من تعبير حتى لو توفر لهذه الدول نصف الرفاء.
وقبل ان نختتم هذه المقالة ينبغي ان نطرح رؤيتنا حول العولمة, فنحن ندرك اولاً وقبل كل شيء ان الامور لا تبقى على حال وان التغيير سنة من سنن الله الكونية سواء اكان هذا التغيير في حياة الافراد أو الأمم، وان كان ليس بالضرورة ان تكون نتائجه حتمية التطبيق في كل الحالات والظروف,, كذلك فإننا ندرك تمام الإدراك أن التغيير قد يكون مخططا له او عشوائيا وان نتائجه في كلتا الحالتين ليست مضمونة، وان كانت في الحالة الأولى التغيير المخطط أفضل نتيجة وقبولا بالنسبة للقائمين بالتخطيط.
من هذا المنطلق الخاص بالتغيير والتخطيط له نؤمن تمام الإيمان بأنه يجب ان يكون لدى كل أمة، بحكم منطقية السيادة، حريتها وفعاليتها في احداث اي تغيير يمس كيانها وجوانب حياتها، كذلك فإن منطق السيادة لا يعني بالنسبة لهذه الأمم ان ترفض كل ما هو جديد لمجرد انه قادم من الخارج بل إن هذه السيادة يجب ان تخول لها حرية الاختيار من بين ما يطرح من افكار ومناهج يتناسب مع خصائصها الثقافية والاجتماعية متحملة بذلك نتائج استغلال الفرص والمخاطرة الناجمة عن التطبيق, لقد عبر أحد الكتاب العرب عن هذه الحقيقة بقوله ان لحظة العولمة مليئة بالفرص والمخاطر الكثيرة, العولمة تأتي بفرص استثمارية ومعرفية هائلة، وتأتي ايضا بمخاطر سياسية وثقافية كبرى, اختزال العولمة في الفرص دون المخاطر خطأ، واختزالها في المخاطر دون الفرص ايضا خطأ وفيه سوء فهم، بل وعدم فهم ,, ويعبر كاتب آخر عن رأيه حول قبول او رفض العولمة كمتغير في حياة الأمم وبخاصة في حياة الأمة العربية بقوله ان الكل مجمع ايضا على ان الانكار والاستنكار موقفان غير مقبولين إزاء ما نواجه, ويستوي معهما موقف الاندفاع والهرولة للحاق بالركب دون فهم حقيقة ما يجري، وما يمكن ان يؤدي اليه في نهاية المطاف.
هذه المواقف الواعية من العولمة عبر عنها أدق تعبير وأجمله سمو ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء ورئيس الحرس الوطني في كلمة المملكة في قمة الخليج التاسعة عشرة عندما عبر عن موقف المملكة من العولمة حيث قال اننا نرحب بعولمة التجارة وبعولمة الاستثمار ولكننا نرفض عولمة الفكر الفاسد، ونرفض عولمة الانحراف الذي يختفي تحت اسماء براقة، وهذا لا يعني الجمود في الحركة، فصدورنا وبيوتنا مفتوحة لكل جديد مفيد، ولكنها موصدة في وجه الرياح التي تحاول زعزعة معتقداتنا وخلخلة مجتمعاتنا .
هذا التوجه الذي عبر عنه سمو ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء ورئيس الحرس الوطني يؤكد مرة اخرى اننا امة نتفهم التغيير ونتجاوب معه، ومنها العولمة، وذلك في إطار وحدود قيمنا وثقافتنا الإسلامية العربية السعودية، وأن ما نرفض هو ذلك الخلط الذي يؤدي فيه بغي امة على اخرى والذي هو في واقع الأمر لا يعدو ان يكون نوعا من خلط النعاج .
* مدير عام الاستشارات - معهد الإدارة العامة - الرياض .

رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
مشكلة تحيرني
محاضرة
منوعــات
لقاء
القوى العاملة
تقارير
عزيزتي
ساحة الرأي
الرياضية
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved