تتواصل رحلة البناء والتنمية ويتواصل معها التلاحم الفريد بين القيادة والشعب ولعل الصور الرائعة التي تخللت حفل الاستقبال الذي أقامه اهالي المدينة المنورة احتفالا بزيارة صاحب السمو الملكي الأمير عبدالله بن عبدالعزيز يحفظه الله خير مثال على تعانق المشاعر بين فئات المجتمع السعودي المختلفة, ولقد كان للكلمة الصادقة التي ألقاها سمو ولي العهد صدىً واسعاً في أوساط المهتمين على اختلاف تخصصاتهم ومواطن اهتماماتهم حيث أكد يحفظه الله على الكثير من الثوابت والمتغيرات التي ستكون بلا شك رافدا من روافد الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي لهذا البلد الكريم.
ولعلنا في هذه الأسطر نستعرض بعض القضايا الاقتصادية التي تضمنها الخطاب الكريم وذلك على النحو التالي:
أولاً: التأكيد على أهمية خصخصة الأنشطة الاقتصادية كوسيلة لتنويع مصادر الدخل وتخفيف الاعتماد على النفط كمصدر وحيد للدخل, وفي هذا الخصوص نشير إلى أننا نحتاج وفي هذه الفترة بالذات إلى التسريع بعملية التحول نحو القطاع الخاص خاصة في ظل انحسار الوفرة الاقتصادية وزيادة أعداد السكان مما قد يجعل من الصعوبة المحافظة على تدفق السلع والخدمات بمستوى كمي ونوعي مناسب وخاصة بعد اكتساب القطاع الخاص للخبرة الكافية والمقدرة المالية اللازمة لقيامه بدوره تجاه اقتصادنا الوطني، كما أن التحول نحو القطاع الخاص سيساهم في زيادة الفاعلية الانتاجية ورفع الكفاءة الاقتصادية مما سيكفل تحقيق الاستغلال الأمثل لمواردنا الاقتصادية خاصة ونحن على أعتاب مرحلة زمنية جديدة تتسم بحدة المنافسة في ظل تنظيمات منظمة التجارة العالمية.
ثانيا: التأكيد على أهمية الاستثمار الأجنبي في تدعيم النشاط الاستثماري المحلي وهنا نشير إلى أن مصادر التمويل المحلية قد لا تكون كافية لدعم النشاطات الاستثمارية اللازمة مما يعني ضرورة خلق التسهيلات المطلوبة لتشجيع المستثمرين الأجانب على الاستثمار في الفرص المتاحة محلياً, وإذا كان سمو ولي العهد يحفظه الله قد أشار إلى هذه الأهمية مؤكدا قرب صدور نظام الاستثمار الأجنبي، فإنني أضيف إلى أن أكبر معوق للاستثمار الاجنبي قد يكون بالإضافة إلى عدم وجود النظام الجيد الذي يتسم بالوضوح والشمولية عدم وجود جهة مركزية مسؤولة مهمتها إمداد المستثمر الأجنبي بكافة المعلومات والأنظمة التي تنظم النشاط الاستثماري حيث نجد في الوقت الحاضر العديد من الجهات الحكومية التي يجب على المستثمر الأجنبي مراجعتها أو الاتصال بها مما قد يخلق الكثير من التناقض في الآراء والأنظمة ويجعل البيئة الاستثمارية تبدو للمستثمر الأجنبي غير آمنة الخاتمة, وبالتالي فإن المطلوب لتشجيع الاستثمار الأجنبي يتمثل في الشفافية المعلوماتية والتنظيمية التي ستساعد المستثمرين الأجانب على اتخاذ قرارهم الاستثماري وفق معطيات اقتصادية وتنظيمية دقيقة, وأعتقد أننا نستطيع تحقيق قفزات كبيرة في هذا المجال خاصة أننا ولله الحمد نتمتع بالاستقرار السياسي الذي يمثل الشرط الضروري لجذب رؤوس الأموال الأجنبية, ولكن يجب علينا عند صياغة نظام الاستثمار الأجنبي أن نأخذ في الاعتبار أهمية مشاركة عنصر العمل السعودي الفنية والمهنية في المجالات الاستثمارية المتاحة للمستثمرين الأجانب حتى نحقق النقل التكنولوجي اللازم لإكمال المسيرة التنموية خاصة ونحن نعلم بأن التكنولوجيا لا تنتقل إلا من خلال العقول البشرية لا من خلال تأجير الأرض أو استهلاك السلعة أو الخدمة, ويمكن الإشارة إلى تجربتنا السابقة عندما أقمنا المصانع والمشاريع الاستثمارية على الأرض السعودية واستوردنا جميع عناصر الانتاج الأخرى بما فيها عنصر العمل من الخارج مما أفقدنا فرصة التعلم والاستفادة من الفرص المتكررة ومما جعلنا محطة تدريب وتعليم للعمالة الأجنبية, بقي أن نشير إلى أنه من الممكن الاستفادة من تجارب الدول التي سبقتنا في هذا المجال وبشكل خاص كوريا الجنوبية التي بدأت تنميتها الاقتصادية الفعلية بعد حرب الكوريتين في الخمسينيات عندما أعطت للاستثمار الأجنبي أولوية متقدمة في استراتيجيتها الاقتصادية واستطاعت ان تكون بلد جذب لمعظم الاستثمارات الاجنبية وبشكل خاص الاستثمارات اليابانية, ولقد استغلت كوريا الجنوبية هذه الفرصة استغلالا متميزا حيث صاغت نظامها الاستثماري بشكل يضمن تحقيق النقل اللازم للتكنولوجيا المستخدمة عندما ألزمت الشركات المستثمرة على الأرض الكورية بنسب معينة من العمالة الكورية في المجالات الفنية والمهنية مما اقتضى إقامة مراكز تدريب لتأمين النسب المطلوبة من العمالة المحلية, وبالتالي يجب علينا التضحية بقليل من الكسب السريع من أجل تأمين أيد عاملة سعودية مدربة تستطيع المحافظة على المكاسب التنموية وتستطيع تخليص اقتصادنا المحلي من عقدة الاعتماد على العامل الأجنبي.
ثالثا: إعادة النظر في نظام الكفيل ليكون مواكبا للمستجدات الاقتصادية المحلية والعالمية.
وهنا نشير إلى أنه على الرغم من أن نظام الكفيل الحالي قد أتاح الفرصة أمام البعض للإساءة إلى العمالة الأجنبية وبالتالي إلى المجتمع السعودي بشكل عام، إلا ان واقعنا الحالي يتطلب الحيطة والحذر عند الرغبة في إعادة النظر في نظام الكفيل, نعلم جميعاً بأن الملايين من المسلمين يتدفقون سنويا إلى المملكة العربية السعودية لزيارة الأماكن المقدسة في مكة المكرمة والمدينة المنورة مما قد يجعل من الصعوبة ضبط التأشيرات الممنوحة ويقضي على مشكلة عدم مغادرة القادمين إلى بلادهم, كما نعلم جميعاً بأننا نعيش مرحلة زمنية تتسم بالعشوائية في سوق العمل السعودي حيث يتواجد الملايين من العمالة الأجنبية النظامية وغير النظامية مما قد يشجع القادمين للحج أو العمرة على البقاء والتعايش مع أقاربهم المتواجدين على الأرض السعودية, يجب علينا أن نأخذ في الاعتبار أيضا قدرة العمالة الأجنبية في الوقت الحاضر على السيطرة على معظم إن لم يكن كل الفرص الانتاجية في السوق السعودي مما أبقى عنصر العمل السعودي بعيدا عن مواطن الانتاج قريبا جدا من مواطن الاستهلاك وبالتالي فإن تعديل أو تطوير نظام الكفيل الحالي يجب أن يستهدف الحد من العمالة الأجنبية وتضييق فرص تواجدها.
رابعاً: صياغة نظام جديد ينظم تملك الأجانب للعقار وهنا أتمنى ألا يصبح الأجنبي بموجب هذا النظام تاجرا يبيع ويشتري وينافس السعودي في مجال الاستثمارات العقارية لان حدوث مثل هذا الشيء وإن كان سيسعد بعض الاقطاعيين العقاريين سيؤدي إلى:
1- ارتفاع الأسعار نتيجة لزيادة الطلب مما قد يجعل من المستحيل على الشباب السعودي محدود الدخل الحصول على أرض سكنية مناسبة.
2- زيادة حدة المنافسة في سوق العقار نتيجة لدخول الأجانب كمستثمرين مما قد يقضي على طموح وآمال صغار المستثمرين السعوديين.
3- المساهمة في زيادة العمالة الأجنبية نتيجة لفتح مجال جديد للاستثمار وتحقيق أرباح إضافية قد تساهم في تشجيعهم على عدم الرحيل.
4- إمكانية خلق تجمعات عمالية أجنبية جديدة تحاول السيطرة والتحكم في سوق العقار كما هو حاصل في سوق الخضار وغيرها من الأسواق التي تخضع لسيطرة أجنبية تأخذ في بعض صورها شكل العصابات المنظمة.
وعليه وحتى نستطيع تلافي مثل هذه السلبيات يجب أن نكون حذرين في اختيار مفردات النظام مراعين للمصالح المتناقضة لجميع فئات المجتمع غير مستجيبين لنداءات أصحاب المصالح الخاصة التي قد تبدو لنا حريصة على تحقيق المصلحة الوطنية بينما هي تسعى إلى تحقيق مصالحها الخاصة والخاصة فقط.
وأخيراً يجب أن ننوه إلى أن تأكيدات سمو ولي العهد يحفظه الله في مواضع أخرى من كلمته الضافية على ضرورة العمل على تحقيق مصلحة الوطن والمواطن من خلال إعادة النظر في الأنظمة الاقتصادية والإدارية تجعلنا نطمئن إلى أن المخاوف أو الملاحظات التي أشرنا إليها بعاليه لا تعدو أن تكون مجرد إشارات نظرية لن تجد لها بإذن الله مجالا تطبيقيا على أرض الواقع.
الدكتور/ مفرج بن سعد الحقباني
أستاذ الاقتصاد المشارك بكلية الملك فهد الأمنية