لا أزال في الحديث عن طليطلة عاصمة القوطيين التي كانت قاعدة الاستقرار العربي الإسلامي في الجزيرة الخضراء منذ فتحها طارق بن زياد رحمه الله,, طليطلة بيت الحكمة، ،القنطرة الشهيرة، والمساجد، والمنائر التي شاهدتهم أثارة ضئيلة منها,, طليطلة العلماء الأجلاء من أمثال أبي الحسن علي بن محمد بن دري، وأبي عبدالله المغامي، وأبي مسلم الضرير المقرئ، والقاضي أبي الوليد الوقشي، وابي عبدالله محمد بن إبراهيم الأنصاري ابن شق الليل، وقاضيها إمام المالكية يحيى بن يحيى الليثي,, ومن طليطلة اسرة أبي الوليد محمد بن الحسن بن زيد الغافقي، وأسرة يوسف بن يحيى المغامي من ذرية أبي هريرة رضي الله عنه، ومنها محمد بن حزم بن بكر التنوخي ابن المديني الذي سكن قرطبة,, ومن طليطلة أسلاف ابن الخطيب السلماني يعرفون ببني زير رحلوا إليها من قرطبة بعد هيج الربض، وأسرة عبدالله بن محمد بن علي بن عبدالله بن ذي النون الحجري,, لا أدري أهو من الأسرة الحاكمة، أم انتقل الاسم بمصاهرة، أم أن ذلك اسم على اسم؟.
قال أبو عبدالرحمن: يضنيني العد، وقد أصبحت اليوم بلد الشذوذ الجنسي المحمي بالقانون، وبلد كل الفواحش، وليس فيها من يقول: ألله ألله إلا من كان مسلماً زائراً لا حول له في البلاد ولا طول.
وكما كانت طليطلة قاعدة الاستقرار في الفتح كانت أول عنوان في سفر الخروج، وأفدح كرب على يد برابرة من جملة ملوك الطوائف الأقزام.
قال أبو عبدالرحمن: وإن قلمي لأحير من ضب في التعبير عن طليطلة بهذه المشاعر المضطربة المتناقضة,, وبعض عشاق التسلية يمجدون الأدب والعلم والفن في كنف دول الطوائف,, والحق في ذلك أن منه ما هو فخر وعز لعلماء أجلاء فضلاء ليس بيدهم حول ولا طول في المجال السياسي، ومنه أدب مجون، وأدب مستحقرين من ملوك الطوائف ليس لهم من الحركة إلا ضرطة مسلوخ!!.
فمن أدباء الحقيرِ المأمون بن ذي النون الوشاحُ ابن أرفع رأسه الذي يقول في موشحته:
تخطر ولم تسلم عساك المأمون مروع الكتائب يحيى بن ذي النون!! |
قال أبو عبدالرحمن: واخجلتاه!!,, بل رأيت شكيب أرسلان في كتابه الإنشائي يقول عن بني ذي النون: وجاهدوا الثغور جهاداً كان الصبر مقامه .
قال أبو عبدالرحمن: العبارة الأخيرة غامضة، ولا نعرف لهم جهاداً في الثغور، وإنما حالفوا النصارى في محاربة المسلمين.
قال أبو عبدالرحمن: وسامح الله الوزير أبا الفضل محمد بن عبدالواحد بن الحارث الدارمي سفير الخليفة العباسي القائم بأمر الله إلى صاحب إفريقية المعز بن باديس، فلم يستح من التخييم عند هذا المأمون البربري بالأندلس، ثم لم يخجل ثانية من المدائح فيه كقوله:
يا ليلُ ألا انجلَيتَ عن فَلَقِ طُلتَ ولا صبرَ لي على الأرَقِ جفا لحاظي التغميض فيك فما تُطبق أجفانَها على الحدقِ كأنَني صورةٌ ممثَّلةٌ ناظرُها الدَّهرَ غيرُ منطبقِ |
وقوله :
يرزعُ ورداً ناضراً ناظري في وَجنَةٍ كالقَمَرِ الطالعِ أُمنعُ أن أقطفَ أزهارَهُ في سُنّةِ المتبوع والتَابعِ فلم منعَم شَفَتي قَطفَها والحكمُ أن الزرع للزارعِ |
قال المقري: وهكذا نسبها له غير واحد كابن سعيد وابن كتيلة، وبعضهم ينسبها للقاضي عبدالوهّاب,, قلت: وقد أجاب عنها بعض المغاربة بقوله:
سَلَّمتُ أنَّ الحكمَ ما قلتمُ وهو الذي نُصَّ عن الشارعِ فكيف تبغي شَفَةٌ قَطفَهُ وغيرُها المدعوُّ بالزارعِ؟! |
ورده شيخ شُيُوح شيوخنا الإمام الحافظ أبو عبدالله التَّنَسي ثم التلمساني بقوله:
في ذا الذي قد قلتُمُ مبحثٌ إذ فيه إيهامٌ على السامعِ سلَّمتُمُ الحكمَ له مطلقاً وغَيرُ ذا نُصَّ عن الشارعِ |
ويعني أنّه يلزم على قول المجيب أن يباح له النظر مطلقاً، والشرع خلافه.
وأجاب بعض الحنفية بقوله:
لأنَّ أهلَ الحبّ في حكمنا عبيدنا في شرعنا الواسعِ والعبدُ لا مِلكَ له عندنا فحقُّه للسَّيِّدِ المانعِ |
وهو جواب حسن لا بأس به,, ورأيت جواباً لبعض المغاربة على غير رَوِيِّهِ، وهو:
قل لأبي الفضل الوزيرِ الذي باهى به مَغرِبَنا الشرقُ غرستَ ظلماً وأردت الجنى وما لعِرق ظالم حقُّ |
قلت : وهذا ممّا يُعَيِّن أن الأبيات لأبي الفضل الدارمي المذكور في الذخيرة لا للقاضي عبدالوهاب، والله تعالى أعلم.
ومن شعر الوزير المذكور قوله:
بينَ كريمين منزلٌ واسع والوُدُّ حالٌ تُقَرِّبُ الشاسع والبيتُ إن ضاق عن ثمانية متسعٌ بالودادِ للتاسع |
قال أبو عبدالرحمن: تقصيت أمثال هذا في كتابي كيف يموت العشاق ,, ولكنني أقول: أي صدر يتَّسع لهذا والفونسو يخزر هؤلاء الهلكى خزر الصقور.
وتوفّي الدارمي بطليطلة سنة أربع وخمسين في كَنَفِ المأمون يحيى بن ذي النون، وذكر أنّه كان يُتَّهم بالكذب.
وقال ابن ظافر في كتابه بدائع البدائه: حضر أبو الفضل الدارمي البغدادي مجلس المعزِّ بن باديس,
وبالمجلس ساقٍ وسيم قد مَسَّكَ عذارُه وردَ خديه, وعجزت الراح أن تفعل في الندامى فعلَ عينيه، فأمره المعز بوصفه، فقال بديهاً:
ومُعَذَّرٍ نقش الجمالُ بِمِسكِهِ خَدّاً لهُ بدم القلوبِ مضرَّجا لمّا تيقَّنَ أن سيفَ جفونهِ من نَرجِسٍ جعل العذار بنفسجا |
وقوله في جدارية تبخرت بالند:
ومَحطوطة المتنين مَهضُومَة الحشا مُنغَّمة الأردافِ تدمى من اللمس إذا ما دُخان الند من جَيبها عَلا على وجهها أبصرت غيماً على شمسِ |
وقوله :
لأغرِّرَنَّ بمهجتي في حبّه غَرَراً يطيلُ معَ الخطوبِ خطابي ولئن تَعزز إنَّ عِندي ذلّةً تستعطفُ الأعداء للأحبابِ |
قال أبو عبدالرحمن: مثل هذا اللهو المستقبح في موطن الجد كثير في بلاطات الأقزام، فقد ذكروا أن بعض علماء الأندلس خرج من قُرطُبَة إلى طُلَيطُلَة، فاجتاز بحريز بن عكاشة بقلعة رباح، فنزل بخارجها في بعض جنباتها، وكتب إليه:
يا فريدا دون ثاني وهلالاً في العيانِ عدم الراح فصارت مثلَ دُهنِ البلسانِ |
فبعث إليه بها، وكتب معها:
جاء من شعرك روضٌ جاده صَوبُ اللسانِ فبعثناها سُلافاً كسجاياك الحسانِ |
قال أبو عبدالرحمن: أكرم بها هداياً تقر بها عيون الفونسو.
قال أبو عبدالرحمن: حريز بن عُكاشة من ذرية عكاشة بن محسن صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أمير شجاع شَرِق بضياع حصن من حصون المسلمين كان في يد ابن ذي النون,, وأروَّح عن القلوب هذا اليوم بخطاب صاغه كاتبه المغفل عن ضعة ابن ذي النون وتفريطه مع تنمر ابن ذي النون كتابة وتشدقه باستسهال ضياع الحصون,, وكاتب حريز هو عبدالحميد بن لاطون؛ فأمره أن يكتب إلى المأمون بن ذي النون في شأن حصنِ دخله النصارى، فكتب: وقد بلغني أن الحصن الفلاني دخله النصارى إن شاء الله تعالى؛ فهذه الواقعة التي ذكرها الله تعالى في القرآن، بل هي الحادثة الشاهدة بأشراط الزّمان، فإنّا لله على هذه المصيبة التي هَدَّت قواعد المسلمين، وأبقت في قلوبهم حسرة إلى يوم الدين.
فلما وصل الكتاب للمأمون ضحك حتى وقع للأرض، وكتب لابن عكاشة جوابه، وفيه: وقد عهدناك منتقياً لأمورك، نقّاداً لصغيرك وكبيرك؛ فكيف جاز عليك أمر هذا الكاتب الأبله الجِلفِ، وأسندت إليه الكتاب عنك دون أن تَطّلع عليه، وقد علمت أن عنوان الرجل كتابه، ورائد عقله خطابه؟,, وما أدري من أيِّ شيئ يتعجّب منه: هل من تعليقة إن شاء الله تعالى بالماضي، أم من حسن تفسيره للقرآن ووضعه مواضعه، أم من تورُّعه عن تأويله إلاّ بتوقيف من سماع عن إمام، أم من تهويله لما طرأ على مَن يخاطبه، أم من علمه بشأن هذا الحصن الذي لو أنّه القسطنطينية العظمى ما زاد عن عظمه وهَوله شيئاً؟؟!!,, ولو أن حقيراً يخفى عن علم الله تعالى لخفي عنه هذا الحصن,, ناهيك من صخرة حيث لا ماء ولا مرعى، منقطع عن بلاد الإسلام، خارج عن سلك النظام، لا يعبره إلا لص فاجر، أو قاطع طريق غير متظاهر، حُرَّاسُهُ لا يتجاوزون الخمسين، ولا يرون خبز البر عندهم إلاّ في بعض السنين، باعه أحدهم بعشرين ديناراً، ولعمري إنّه لم يغبن في بيعه، ولا ربح أرباب ابتياعه، وأراح من الشين بنسبته والنظر في خداعه، فليت شعري ما الذي عظمه في عين هذا الجاهل، حتى خطب في أمره بما لم يخطب به في حرب وائل؟!.
فلمّا وقف حريز على الكتاب كتب لابن ذي النون جواباً منه: وإن المذكور ممّن له حُرمة قديمة تغنيه عن أن يمتَّ بسواها، وخدمة محمود أولاها وأخراها,, ولسنا ممّن اتسعت مملكته، وعظمت حضرته، فنحتاج إلى انتقاء الكُتاب، والتحفظ في الخطاب، وإنّما نحن أحلاسُ ثغور، وكتّاب كتائب لا سطور,, وإن كان الكاتب المذكور لا يحسن فيما يلقيه على القلم، فإنّه يحسن كيف يصنع في مواطن الكرم، وله الوفاء الذي تحدث به فلان وفلان، بل سارت بشأنه في أقصى البلاد الركبان، وليس ذلك يَقدح عندنا فيه، بل زاده (لكونه دالاً على صحة الباطن والسذاجة) في الإكرام والتنويه، انتهى.
قال أبو عبدالرحمن: تشدُّقُ هذا البربري انتهى به إلى سقوط مملكة طليطلة، ثم توالت الكوارث.
ومن قصص الكاتب المغفل مع الأمير حريز أنه في موكبه وهم في سَفَر، وكان في فصل المطر والطين، فجعل فرسه في ذنب فرس ابن عُكاشة، فلمّا أثارت يدا فرسه طيناً جاء في عنق أميره؛ ففطن لذلك الأمير؛ فقال له: يا أبا محمد: تقدّم,, فقال: معاذ الله أن أُسيئ الأدب بالتقدم على أميري,, فقالك فإن كان كذلك فتأخر مع الخيل,, فقال: مثلي لا يُزال عن ركابك في مثل هذا المواضع,, فقال له: فقد والله أهلكتني بما ترمي يدا فرسك عليَّ من الطين,, فقال: أعزّ الله الأمير: يعذرني؛ فوالله ما علمت أن يد فرسي تصل إلى عنقك,, فضحك ابن عكاشة حتى كاد يسقط عن مركوبه.
قال أبو عبدالرحمن: ويدلك على الترف في طيلطلة هذا الشعر الذي أرسله أبو محمد عبدالله بن عذرة إلى بعض أصحابه من الأسر في طلَيطلة:
لو كنتَ حيثُ تجيبني لأذاب قَلبك ما أقول يكفيك منّي أنني لا أستقلُّ من الكُبُول وإذا أردت رسالة لكُمُ فما ألفي رسول هذا وكم بِتنا وفي أيمانِنا كأس الشَّمول والعُودُ يخفق والدخان (م) العَنُبريُّ به يجول حال الزمانُ ولم يَزَل مذ كنت أعهده يحول |
قال أبو عبدالرحمن: لقد اصبحت طليطلة نصرانية، ولكنها آخذة بالجد في امتصاص معارف المسلمين كما امتصلت دماءهم,, قال ابن الخطيب عن عبدالله بن سهل الغرناطي: من كتاب ابن حمامة قال: عُني بعلم القرآن والنحو والحديث عناية تامة (وبهذا كنت أسمع الثَّناءَ عليه من الأشياخ في حال طفولتي بغرناطة)، ثم شُهر بعد ذلك بعِلم المنطق، والعلوم الرياية، وسائر العلوم القديمة,,
وعَظُم بسببها، وامتدَّ صيتُه من أجلها، وأجمع المسلمون واليهود والنصاري أن ليس في زمانه مثله، ولا في كثير ممن تقدمَّه (وبين هذه المِلل الثلاث من التَّحاسد ما عُرف),, وكانت النصارى تقصِده من طُليطلة تتعلَّم منه أيام كان ببيَّاسة، وله مع قَسِّيسهم مجالسُ في التَّناظر حاز فيها قَصَب السَّبق .