الشمس كانت تتوارى ويخفت رويدا رويدا قرصها الأحمر الكبير الذي يعرفه كل سكان البادية، حتى أكل الظلام الجزء الصغير المتبقي منه، ليعلن عن بداية ليل جديد, ما أطوله كل يوم على قلب الفتى النجيب ابن الخامسة عشرة، الذي يبدو أكبر من عمره كثيرا، جسورا، متفكرا ممتلئا بالأحلام والمعاني معانقا لإرادته الصلبة.
دخل القوم الى بيوتهم ليناموا، وذهب اقرانه ليمتلىء نومهم بالأحلام والأماني، وظل الفتى الجاد يقف صامدا رابط الجأش، كأنه لم يفارق وطنه ووطن آبائه إلا الأمس فقط.
لاحت له صورة عدوه كما يتخيله، فتهيأ لمقابلته هذا الخصم غير الشريف واستعد لمنازلته, ثمة اصوات لذئاب تعوي وفحيح أفاع تنذر بالخطر تختلط بزقزقة ورياح عزيزة تهب من هناك، حيث الجنوب تحمل شوق الوطن الحبيب صهيل الخيول يناديه، انطلق الى مرابطها، فك رباط حصانه الأثير امتطاه، ملأه الشجن، وهو يشاهد حلمه حقيقة أثناء اليقظة بانه لا بد من يوم سيعود فيه ورفع سيفه في الهواء، وثق يده جيدا بمقبضه، بينما تزداد خطوات الحصان سرعة.
تتناثر الرمال الذهبية تحت ضوء القمر الفضي، تخلف أرجل الحصان في غدوها ورواحها علامات وآثار تتجه حيث الجنوب، تناجي الريح الآتية من الوطن تبثها أشواقها تقبل السيف واليد التي تحمله.
وبينما يمر الليل طويلا على النائمين، إلا انه أطول على الفتى القابض على جمر الرغبة والألم، كلما تذكر ارضه التي تناديه، ورغم انه يشعر ايضا بقصر الليل كلما تحمس لممارسة تدريباته وأعمال فروسته.
تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، وصوت المؤذن الوقور يعلن عن الصلاة، ينطلق الفتى بحصانه سريعا الى حظيرته ويذهب الى المسجد القريب، كعادته كل يوم لكي يؤدي الصلاة.
اجتمع القوم على المائدة المعدة لتناول الفطور، كبارهم وصغارهم، سأل الإمام عبدالرحمن عن ابنه عبدالعزيز ذهب أحد أقرانه لكي ينادي عليه ليتناول إفطاره معهم قبل ان يتوجهوا للشيخ المعلم لتلقي دروسهم، نزل الصغير الدرج يتبعه الأمير عبدالعزيز خاطبه الإمام الفيصل قائلا: ياولدي أراك مهموما ومتعبا فيرد عليه الأمير عبدالعزيز قائلا: ياأبت لا يستطاب المقام هنا لدي ياولدي نحن هنا في ضيافة مؤقتة عند إخوة كرام.
أعلم يا أبي ان الشيخ مبارك الصباح هو أخ لك ولكن صورة الوطن لا تفارقني.
كل ريح آتية اشم من خلالها شوق الوطن وأريجه، أرى ذراعه مفتوحة كحبيب لتلتقي بذراعي وتحتضنني, الوطن عندي هو الأخ والصديق والملجأ والملاذ.
لا ياولدي لا تحمل نفسك ما لا تطيق، إنك لا تزال غضا صغيرا.
لقد جعلتني الخطوب والمحن رجلا كبيرا.
اين كنت طوال الليل؟ ألا تزال تمتطي جيادك وترهق نفسك.
انني اتدرب يا أبي فكما تلقيت مبادىء الفروسية في صباي المبكر، امارسها الآن بشغف ودأب استعدادا ليوم النزال.
بارك الله فيك ياولدي، ولكنني لا اريد ان ترهق نفسك تناول إفطارك مع إخوتك وأهلك, ثم اذهبوا حتى تتلقوا دروس القرآن والعلوم والفقه.
يمضي الإمام عبدالرحمن الفيصل خارجا، يمتلىء قلبه فخرا بابنه يشعر بانه رجل حقيقي يعتمد عليه رغم حداثة سنه، وتنزاح من عقله تلك الهواجس التي تراوده، ويطمئن تماما لما يعد له من إعداد وعمل، يستعيد به ملك الآباء والأجداد طالما يمتلك هذا الابن تلك الطاقة الجبارة والرغبة الجامحة في قتال الظالمين.
كان المعلم قد انتهى من شروحه وتفسيراته، ومضى الفتى الذي استوعب الدرس جيدا، يلتهم بوجدانه الدروس والعظات والعبر، وقلبه وعقله وكل مشاعره مشبعة بالسيرة العطرة لسيدنا الكريم الرسول محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام.
تحدث المعلم في هذا اليوم عن غزوة بدر، تيقن الفتى بأن يدالله مع الحق، كيف تكون الأمور غير ذلك؟ أليس الحق من اسمائه، حاور الفتى المعلم إعجاب ونجابة وذكاء، عن انتصار المسلمين رغم قلة عددهم، ذكر له الشيخ قول الحق تعالى الآن خفف الله عنكم وعلم ان فيكم ضعفا فإن يكن منكم فئة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله اعجب الفتى بالقلة الشجاعة المؤمنة التي تقهر كثرة مرتاعة واهنة، فقوة قلب رجل واحد مؤمن بحقه وقضيته ليهزم الألوف والجيوش المجيشة.
انتهت دروس اليوم والفتيان عائدون من دروسهم في الطريق كان الفتى منشغلا عن أقرانه، ففي ذهنه تلك الدروس والعبر القيمة، من قبل درس ووعى هجرة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وجهاده، غزواته ومقاتلته الكفار والجاهلين، وكيفية إقامته لامبراطورية إسلامية عظيمة، كان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم مثله الأعلى وقدوته ومحتذاه.
كان يناديه الصغار وقلما انتبه لهم، فذهنه متوقد ومشتعل بنور وسيرة الرسول الخاتم سيدنا محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم.
لصقت بذاكرته هذه الدروس والعبر، تشبعت روحه بها، في كل تصرف يفعله، في كل خطوة يخطوها في كل منهج يضعه.
***
مضت سنوات وسنوات، قاربت الأربعة عشر عاما، على فراقه لوطنه، اصقلت الفتى الناضج وانضجته نضوجا جعلته رجلا جسورا، مقاتلا مرهوب الجانب، مسموع الكلمة، وافر المعرفة تام الإيمان والعزم، ممتلئا بالصبر والإرادة، والخاطر الذي يلح عليه منذ بداية تلك السنوات يحثه على ان يعد عدته ويمضي الى حيث يحقق مراده وغايته ويسترد وطن الآباء والأجداد.
عن نفسه فهو مهيأ تماما لأخذ هذه التجربة وتخطى تلك المرحلة ولكنه في حاجة الى رجال ربما يكونون قليلين، هذا لا يعني له عدم استعداد كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله , إنه مستوعب درس الإيمان والثقة بالله منذ ان كان طفلا فهلم أيتها الأيام وأقبلي, لقد اعددت نفسي للنزال فهل اعددتم عدتكم يا آل سعود؟ ياسادة نجد.
***
الفتى الذي كان ولا يزال يهوى الخيول ويروضها أصبح فارسا والذي تعلم مبادىء السياسة من مجالس العلماء وسادة القبائل، الذي تفهم دروس الدين والتاريخ والحديث والتفسير والفقه والأدب، تمرس بفنون السياسة ودهاليزها وأبوابها, ها هو عقله يخطط ويدرس ويحسب لكل أمر حسابه لا تغلبه سطوة العاطفة، يسيطر عقله على حواسه، فلا انفعال او غضب، بل ترو ودقة وحكمة وأناة, لقد مضت السنون درس كافة الأمور والاحتمالات وحان الوقت للتقدم.
***
كان شقيقه محمد يقف في انتظاره بعد ان أدى مرانه اليومي في الرماية والفروسية ففاجأه قائلا: هل مازلت عند رايك أيها الأخ الكريم عبدالعزيز فأجابه الأمير عبدالعزيز قائلا: نعم الأمر لا يحتمل التردد.
أفي الموعد الذي حددته من قبل؟
نعم لقد بدأت خطتنا بالفعل وسنمضي قدما بإذن الله تعالى الى إتمامها، علينا بضرب تلك العشائر الملتفة حول عدونا بين الحين والحين.
ولماذا العشائر؟ وابن الرشيد هدفنا يامحمد إن هؤلاء يجب ان يكونوا في صفوفنا، وانت تعرف ان لنا كثيرا من الأنصار والخلصاء يحفظون لآل سعود كثيرا من الود والاحترام، ويعلمون بحقهم في الحكم والولاية.
نعم أعلم ولكن لم لا نتجه الى رأس الحية مباشرة؟
لقد اشترى البعض بماله وسطوته, ألا تذكر محاولتنا الأولى وما حدث؟
نعم وهذا ما ثبط همم الكثيرين منا.
لا يامحمد كانت هذه سببا في شدة تصميمي وعزمي, ودرسا استفدت منه الكثير، كان علينا هؤلاء.
إذن سنبدأ بعد ذلك في دخول الرياض.
نعم, لأنها تبتعد عن نفوذ الرشيد وقوته وبها رجالنا، عليك باعداد الرجال وتهيئتهم، حيث السلاح والمؤن والذخيرة، اعدوا عدتكم، احسبوا لكل شيء حسابه، اعتمدوا على الله وتوكلوا.
***
بدأ الرجال يحملون صناديق الذخيرة ويضعونها فوق جمالهم، ورجال في الجانب الآخر يضعون الصناديق الممتلئة بأجولة الخبز والطعام الجاف لقد مرت شهور طوال وهم يعدون أنفسهم لتلك الأيام، اما عن قائدهم ومؤجج مسيرتهم، فله سنوات وسنوات منذ ان كان غضا بريئا وقلبه يعد عدته لهذا اليوم، وها هو قد جاء كان القمر بدرا في تلك الليلة، والصحراء الشاسعة مشتعلة باللون الفضي، والرجال الأربعون أبناء آل سعود والموالين لهم يقودهم البطل الشاب عبدالعزيز.
مرت أيام ولياليها عليهم وهم يجوبون الصحراء, يلتقون برؤساء الوفود، يتفاهمون معهم ويتقبلون ضيافتهم لهم، ويعقدون معهم عقود الثقة والأمان.
أما رؤساء القبائل الذين لا يعون الأمر ولا يدركونه، ويتواطئون مع المغتصب، فيتعاملون معهم بأسلحتهم, هذا ما حدث في أيامهم الطويلة الفائتة، لقد التفت حولهم قلوب وأيدتهم أياد وناصرتهم قبائل.
ربما يتبعهم الآن ما يفوق الألف، اما عدد الفرسان فيبلغ نحو اربعمائة رجل.
إذا هاهي المناورات ضد المتآمرين مع عدوهم ومناوشتهم وقتالهم لهم قد اثمرت، ها هي اتفاقاتهم مع رؤساء البدو وكبار القبائل قد أتت أكلها وتمركز بحرض يعد عدته.
ها هو عدوهم ابن الرشيد يشكو للرجل المريض (الدولة العثمانية) ويرسل ايضا للشيخ مبارك ولوالد البطل الشاب الجريء فيكتبون اليه ينصحونه بالرجوع والعودة.
فهل سيستطيع ان يواجه امبراطورية؟ انهم يشكون ويخافون عليه ولكن البطل المضحي بروحه العاقد العازم على المضي قدما لا يلقي بالا لكل هذه الأمور.
فيكتب الرشيد لمن يريد ولينصحه الناصحين, لقد اخذ عهدا على نفسه إما ان يعود له ملكه أو أن يموت, النصر او الشهادة في سبيل إعادة ملك الآباء، بقي جمع من رجاله الخلصاء الأوفياء، جلس معهم نصبوا خيامهم في واحة يبرين وظل ساهرا أياما وأياما يخطط لضربته الحاسمة كانت الخيول تصهل، كأنما تعلن تحديا ما لعدو تعرفه هي ايضا والرجال المجتمعون منذ الليل يسمعون عشرات من القصائد الحماسية الرنانة منها قصائد للشاعر القائد الأمير عبدالعزيز ملأت تلك القصائد صدورهم عزة وشجاعة وفجرت في عقولهم معاني الانتماء والذود.
***
كان فيروز مملوك القائد عبدالعزيزيضع للجياد غذاءها، يعاونه المملوك سلطان بينما يعد الرجال طعامهم على النار المشتعلة قريبا من الخيام، حتى لاح لهم من بعيد وقع اقدام حصان يجري دخل احدهم يخبر القائد فاشار البطل عبدالعزيز بيده لاحد رجاله ان يستطلع الأمر، فذهب مسرعا ليرى جلية الأمر، وهل هناك احد يتبعه؟ ولكن كان فقط الرجل وحيدا بحصانه, عندما اقترب منهم رفع يده بالتحية, معلنا بصوت قوي وواضح انه قادم من عند الإمام عبدالرحمن الفيصل ومعه رسالة منه, فسلم عليه من لاقاه, واتجه به ناحية القائد، استقبل البطل عبدالعزيز بالترحاب والاحضان بعد ان عرفه, امر رجاله باطعامه وتهيئة مقام له حتى يرتاح من وعثاء السفر, امسك القائد الشاب بالرسالة وأخذ يقرأ ما بها, كان والده يحثه على الرجوع وإرجاء الأمر، وكذلك كتب له الشيخ مبارك الصباح أبديا تخوفهما على البطل الشاب وبينا له تحالف الرشيد مع الدولة العثمانية وائتلاف التخلف مع الجهل والخرافة, لم يفكر البطل عبدالعزيز لحظة في التراجع، لقد ملأت اخباره الأسماع، تعلن عن جسارته وعدم هيابه، فاضطربت الآراء أكثرهم متعاطف وبعضهم خائف عليه، أمر فيروز بإحضار الريشة والمحبرة، كتب لوالده بانه سوف يقاتل ليحقق هدفه، او فالموت عنده أهون، وطمأن والده بانه لا بد للحق ان ينتصر, وكان قد مضى يوم كامل، حين أخذ الرجل العاقل الرسالة الرد ومضى به، حين ودعه القائد ورجاله.
وبدأ البطل اكثر عزما وتصميما من أي وقت مضى على تنفيذ خطته فأمر الرجال بالاستعداد.
أخيرا تأتي اللحظة الحاسمة والعام الأول من القرن العشرين يبدأ في الرحيل, سيدخل المدينة الرائعة، حاضرة الأرض الطاهرة المقدسة، وكانت الخطة التي أعدها البطل الشاب مع رجاله تتلخص في مفاجأة العدو وحصاره ليلا ودكه في عقر داره وقلب حصنه نوقشت الخطة كثيرا وحظيت بالتأييد من الخلصاء والموالين المتحالفين معه على الحياة او الموت, أقرها أيضا رؤساء القبائل وأقرتها وفودهم المتضامنة, وها هي الرياض تزهو وتفتخر بمقدم محررها وعريسها، ها هي الرياض كعروس في ثوب زفافها، باسمة رغم القيود والظلام تستقبل الفاتحين وتلاقيهم فرحة، كأم رؤوم، ليلة الخامس من شوال عام 1319 من الهجرة 20 من يناير 1902 الظلام أسود حالك، مع أنهم أول الليل، ورجال البطل عبدالعزيز يحملون اسرجتهم مطفأة، لا يوقدونها إلا حين الحاجة وعند الضرورة الملحة, حصن المصمك يلوح أمامهم حيث يأوي عميل عدوهم ويربض عجلان عامل ابن الرشيد، الأربعون الخلصاء كالأسود معه، تعاهد معهم عشرون رجلا آخرين, الأمر كان مرتبا، فقد أمر من قبل البطل عبدالعزيز عشرون رجلا بالبقاء على مسافة ساعتين من الرياض، تقدم بالأربعين الآخرين حتى وصلوا الى بساتين الشمسة فأمر ايضا ببقاء ثلاثين من رجاله الباقين وتخطى البطل عبدالعزيز سور الحصن الذي يحيط بالمدينة وبسرعة توجه الى باب البيت المجاور لقصر عامل ابن الرشيد, المدعو عجلان طرق باب البيت وهو منزل فلاح اسمه جويسر يتجر بالبقر فأجابه صوت تبين انه لاحدى النساء: من الطارق؟ فأجابها القائد بذكاء مخفيا غرضه الحقيقي وشخصيته: انا ابن مطرف من معاوني الأمير عجلان وأريد زوجك لغرض ما, فلقد ارسلني الأمير لأطلب من جويسر ان يشتري له بقرتين, فقالت المرأة من خلف الباب: اذهب وهل هذا وقت تأتي فيه؟ فأجابها البطل عبدالعزيز: انني اخشى على زوجك اذا لم يلب النداء كان الرجل القابع في المنزل بالداخل قد سمع التهديد, فخرج يستطلع الأمر والبطل عبدالعزيز كان يعرفه فكل تلك الحنايا وكان الوجوه معبأة بذاكرته الذكية، منذ ان رحل، ألم يحلم بهذا اليوم والأرض، كيف تغيرت الوجوه وبدلتها الأيام؟ كيف نمت كل زهرة؟ كيف يصهل كل حصان تقدم البطل عبدالعزيز من الرجل حين خرج وأمسكه وارتعد الرجل محاولا الفكاك، تذكر الوجه وعرف عبدالعزيز.
عليك بالصمت ولا قتلتك في الحال, ثم دخل البطل عبدالعزيز البيت, فوجد بعض النسوة، فلما رآه النساء صحن وعرفن بالأمر أيضا وسمعن الأخبار وكانت بعضهن في خدمة بيوت آل سعود من قبل, فطمأن القائد النسوة وجمعهن في غرفة واحدة واغلق عليهن الباب، ثم قفز الجدار مع رجاله الى البيت المجاور للحصن، فوجد اثنين نائمين، فلفهما في فراشهما وادخلهما في احدى الغرف واغلق عليهما الباب, ثم أرسل ناحية اخيه محمد كي يأتي ومن معه من رجال، بعد ان هيأ الأمر واطمأن الى نجاح خطته، فجاء أخوه ورجاله دون ان يشعر بهم أحد، كانوا بجوار احد بيوت عجلان عامل ابن الرشيد، وبقوا كالأسود في انتظاره، علموا ان عجلان يتردد على هذا المنزل في النهار وأحيانا في الليل، فمضى القائد عبدالعزيز ومعه عشرة من رجاله ودخلوا البيت، وقاموا بتفتيش المنزل غرفة غرفة، غير وجلين، اقتحموا عدوهم حتى الفراش، كالصقور حين تنزل على فرائسها، ووجدوا اثنين نائمين على فراش واحد فكان الظن عندئذ انه عجلان وزوجته، فدنا منهم القائد عبدالعزيز ليتعرف على شخصيتهما, بعد ان أضاء احد الخدم الحجرة بسراج كان يحمله فوجدها زوجة عجلان بالفعل وأختها نائمة معها، وعرفت المرأة ان الذي امامها هو القائد عبدالعزيز بن سعود، فسألته عن شخصيته, قائلة: أأنت عبدالعزيز؟
كان يدرك ان أخباره كانت تصل اولا بأول لهم، كل المناصرين استعدوا وأعلنوا الولاء والآخرون ادركتهم المفاجأة وصعقتهم, فأجابها القائد عبدالعزيز: نعم ان هو, فسألته قائلة: من تبغي وما بك هنا؟ فأجابها القائد عبدالعزيز باقتضاب ووضوح: اريد عجلان لا سواه, فقالت المرأة: بابني لا تغرر بنفسك، انج بنفسك وارحل في هذا الليل وإلا قتلوك, فأجابها عبدالعزيز بعزم وتصميم أشد: ما جئنا هنا نسمع نصيحة ولكن نريد ان نعرف, متى يخرج عجلان من القصر الداخلي؟ فاجابته زوجة عجلان قائلة: بعد شروق الشمس بساعة, فقال القائد عبدالعزيز: هذا كل ما نريد، وعليكن بالتزام الصمت؟ والسكوت حتى تسلمن, ثم أمر رجاله بجمع النساء جميعا في غرفة واحدة وأغلق الباب عليهن انتصف الليل وبدأ الظلام الحالك يفرض سطوته على الموجودين, غير ان هناك نورا في قلب البطل الشاب عبدالعزيز ورجاله,
خيم السكون حقا، وجلس الرجال يفكرون مع قائدهم في كيفية تدبير الهجوم على قصر عجلان وأكلوا شيئا من التمر وجدوه لم يناموا كأنهم في بيوتهم، فلا خوف ولا وجل انبثق نور الفجر وضياؤه وأخذ قرص الشمس البرتقالي في البزوغ والسطوع, وبدأ القائد ورجاله بكل ما يمتلكون من جرأة وجسارة وعزم في الاقتحام، فتح باب القصر واخرج العبيد الخيل، ودخل الامير عبدالعزيز ورفاقه القصر وتبعه من رجاله خمسة عشر رجلا فقط وكمنوا في داخله استعدادا للتعامل مع عجلان ومن معه من رجال وحراس, وخرج عجلان بعد دقائق معدودة ليرى الخيل كعادته، فخرج عليه عبدالعزيز ورجاله في الطريق, فصعق وأجفل وارتعد وراعه منظرهم, فهو يريد الفرار والرجوع فلاحقوه وطاردوه وأوقفوه وتصارع البطل عبدالعزيز مع عجلان, كان القائد البطل يريد القضاء على عجلان، الذي يحاول الفرار وادخال البطل الذي يقاتله الى الباب الداخلي, في هذه اللحظات برز رجال عجلان وبدأوا يطلقون بنيرانهم من نوافذ حصن المصمك المشرفة على السوق، وحدث كثير من الصدام والمواجهة ولكن البطل ورجاله واجهوا النيران والطلقات وصدورهم مفتوحة, وذهب اثنان من رجال البطل الشاب شهيدين حين تلقوا النيران بجرأة وجرح اربعة من الرجال، وحدث الاضطراب واختلط الحابل بالنابل وسرعان ما أمر القائد رجاله بالانتظام والثبات وفي تلك اللحظات دخل عبدالله بن جلوي آل سعود ابن عم القائد وعدا وراء عجلان ورماه بطلقة اودت بحياته ولكن حرس القصر تبادلوا معهم النيران وصمد البطل ورجاله لطلقاتهم الآتية من الحصن وارهقوهم بقتالهم وبادلوهم النيران، فسلم حراس القصر بعد ان رأوا هذا العناد والاصرار والعزم طلبوا أن يتركوا أحياء ظنا منهم ان مقاتليهم يفوقونهم عددا بكثير، فأعطاهم البطل القائد وعدا بالأمان وبرز في داخله تلك اللحظة، ذلك المعنى الذي وعاه وحفظه منذ الطفولة، (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله) اتجه المؤذن لمسجده عند انتصاف النهار أذن وكبر لله وقال ان الحكم لله الواحد القهار، ثم لعبده عبدالعزيز بن عبدالرحمن على هذه المنطقة من الأرض، وان عجلان عامل ابن الرشيد قد قتل, سمع الناس الخبر السار فتبادلوا التهاني وخرجوا ليلاقوا البطل الذي صمم وخطط ونفذ، يباركون عهده، وبادلهم القائد التحية والشكر, هل انتهت المهمة؟ كان هذا سؤالا اطلقه أحد الرجال كرصاصة وقد سبق وان اطلقه البعض من قبل، ولكن القائد يدرك ان مهمته قد ابتدأت، فهناك طريق طويل عليه ان يتمه ويسير فيه.
اجتمع برجاله، قال لهم ان الرشيد لا بد وانه يترصدنا الآن عليكم ان تكونوا ذوي عيون يقظة، لا تأخذكم نشوة الفرح بالنصر، الانتباه واجب مطلوب، فالاتراك يتعاونون مع عدوهم الذي يتمسك بالبدع ويرفض الأخذ بأسباب التقدم، الاتراك الذين اخروا أمة العرب بأسرها وخنقوا حضارتها, حين جثموا على صدورها في كل أقطارها تلك القرون الطويلة, مضى الرجال وقد وعوا الدرس جيدا.
***
بقي القائد وحده ساهرا، محملا بالمسؤولية الملقاة على عاتقه دخل عليه مملوكه فيروز، فوجده ساهما ومتفكرا فقال له:
سيدي عبدالعزيز هل اعد لك فراشك؟ والامير الذي تسلم مقاليد الحكم لا يرد, فكرر فيروز قوله: سيدي لقد مضت تلك الأيام الثقيلة التي كنت تبقى فيها على صهوة جوادك أياما طويلة دون ان تذوق طعم النوم, ابتسم الامير ابتسامة رضا، مشيرا له بانجاز مهمته، مقرنا إشاراته بقول: ان يستيقظ الحراس وينتبهوا.
***
في الكويت وصلت تلك الأنباء لوالد البطل الفاتح، الامام عبدالرحمن الفيصل آل سعود بعد ان ارسل ابنه الأخبار ويدعوه الى تولي الأمر تلقى نجاحات ابنه بفرح وسعادة وبشر، نسي كل مخاوفه عليه وأرسل يهنئه وأخبره بانه قادم اليه لكي يقلده الإمارة, وقبل عبدالعزيز الإمارة شرط ان يتصرف والده على عماله, وأخذ الأب رجاله وقام أمام العلماء وكبار رجال الإمارة بعد صلاة الجمعة ورفاق البطل بالتنازل عن الإمارة، حتى يهيىء البطل لمزيد من الانتصارات وقلده سيف سعود الكبير ذا النصل الدمشقي والقبضة المحلاة بالذهب والقرابة المطعمة بالفضة.
تمت السيطرة على الرياض، رحب الناس بالبطل العائد لملك أجداده ولكن الشاب منشغل الذهن بما سوف يأتي القدر، فعدوه لا يزال موجودا لقد قتل احد عماله وبعض رجاله، اما رأس الحية فمازالت باقية، تتحالف مع الدولة العثمانية ويدرك جيدا ان العالم الذي حوله يغلي وعليه الانتباه دائما.
كان يشعر بأن أيامه القادمة، ستكون حروبا وفتوحات دائمة، وأعد نفسه لذلك، يغالب الخصوم والطامعين والمخاتلين, ويسايس الآخرين ولكنه على كل حال، سعد بضربته الأولى، التي ستفتح له الآفاق، سر حقا بتلك الخطوة والبداية فتح الرياض حاضرة الارض المقدسة، ومطمح الرحالة، البلدة الآمنة سيدة المدائن وعروس الصحراء.
|