Tuesday 21st September, 1999 G No. 9854جريدة الجزيرة الثلاثاء 11 ,جمادى الثانية 1420 العدد 9854


الخيار الإسلامي في مذاهب التقدم 1-2
د, محمد عمارة

ليس كل تغير تقدما ,.
فالتقدم -لغة- هو السير الى الامام,, لكن الامام - الجديد- إذا لم يكن خيرا وافضل من السابق - القديم- لايستحق المعنى الاصطلاحي للتقدم، حتى وان انطبق عليه معناه اللغوي؟!,.
وإلا، فهل يعد تقدما السبق الى الجديد في وسائل الدمار؟! وفي وسائل الترف التي تزيد من رخاوة الإنسان وتخنثه؟! او الجديد والسبق في سبل اللذة والشهوة غير المضبوطة بالاخلاقيات؟!,.
ان الاتفاق على ضرورة التقدم,, والرغبة في الترقي، ليست موضوع خلاف,, لكن من الاهمية بمكان ان نحدد مضمون هذا التقدم الذي نريد,, لنتأكد هل يحقق لنا ارتقاء حقيقيا؟ أم هو مجرد سبق وتغيير؟!,, ولنتبين معنى هذا الارتقاء وهل تضبطه اخلاقيات الدين، فيحقق - بالتوازن- سعادة في الدنيا، تؤهل لسعادة الآخرة، التي هي خير وابقى؟, أم انه من نوع ذلك الارتقاء الى اسفل ؟! الذي ننخدع به عن الارتقاء الحقيقي في كثير من الاحيان؟!,.
إن قرآننا الكريم يعلمنا ان التقدم هو المقابل للتأخر (لمن شاء منكم ان يتقدم او يتأخر) (1) ,, (ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين) (2) ,, لكن التأخر ، في مواقع النساء عند الصلاة بالمساجد افضل لهن وللرجال من التقدم !,, ولقد كان تقدم و سبق بعض الصحابة - في غزوة احد- الى جمع الغنائم، هو الكارثة التي جلبت الهزيمة الى المسلمين؟!,, فليس كل تقدم خيرا,, وليس كل سبق ارتقاء، بالمعنى الحقيقي للتقدم والارتقاء.
كذلك يعلمنا القرآن الكريم ان للتقدم قوانينه وسننه,, وان التخلف والتأخر ليس إلا ثمرة لغيبة هذه السنن والقوانين,, فليس التقدم اماني واحلاما للكسالى والقاعدين، حتى ولو حسنت منهم النوايا وصحت لديهم المعتقدات النظرية, فحتى الإيمان الديني، لايكتمل إلا إذا جاء العمل ليجسد التصديق !.
وشواهد القرآن الكريم على هذه الحقيقة تتعدى اقتران الإيمان بالعمل في آياته الكريمة الكثيرة - وهو ملحظ له دلالته الكبرى- ,, وإنما نرى هذه الشواهد ايضاً، في مثل قول الله، سبحانه وتعالى :(ليس بأمانيكم ولا أماني اهل الكتاب، من يعمل سوءا يجزبه ولايجد له من دون الله وليا ولانصيرا) (3) فتحقيق الغايات في السعادة والتقدم والارتقاء، وتغيير سلبيات الواقع ونواقصه لايتأتى بمجرد الاماني، حتى ولوكانت اماني المؤمنين,, فبصرف النظر عن عقائد اصحاب الاماني -مؤمنين كانوا او غير مؤمنين- فلابد لتحقيق الاماني من الاخذ بالسنن واعمال القوانين، والتعلق بالاسباب,, فهذا الكون الذي نعيش فيه قد ابدعه الله لغايات وحكم، واقام نظامه على القوانين والعلل والعلاقات والاسباب، التي لاتبديل لها ولاتحويل,, كان ذلك منذ بدء الخلق، وحتى يبدل، سبحانه وتعالى، هذه السنن والقوانين والاسباب، فيرث الارض ومن عليها (سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا) (4) ,, (فهل ينظرون إلا سنة الأولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا) (5) ,, (سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا) (6) ,, (سنة من قد ارسلنا قبلك من رسلنا ولاتجد لسنتنا تحويلا) (7) ,.
بل انه حتى المعجزات، التي هي خوارق للسنن والقوانين المعتادة - اي خوارق للعادة- إنما هي صنع الهي، يتفرد مسبب الاسباب، وخالق السنن، ومقنن القوانين، بإظهارها على ايدي رسله وانبيائه، لتأييدهم وإقامة الادلة والاعلام على صدق دعوتهم,,وذلك وفق قوانين وسنن لهذه المعجزات، لايعلمها ولايستطيع السيطرة عليها ولا التحكم فيها البشر العاديون؟!,, فهناك ، خلف الاسباب العادية، والقوانين الطبيعية القدرة المطلقة لخالق الاسباب والمسببات,, بهذه القدرة خلقها، واودعها تأثيرها الذاتي- الذي هو مخلوق في ذات الوقت ,, وبهذه القدرة يستطيع -عندما يشاء- ان يوقف فعل السبب المركب في الطبيعة، ليحل محله سببا آخر يصنع مسببأً جديدا ومغايرا؟!,.
فلاشيء يتم بدون اسباب وقوانين وسنن تضبط علاقات الاسباب بالمسببات,, وما الحديث الشائع عن خلاف حقيقي بين حجة الإسلام الغزالي (450 -505ه 1058-111م) وفيلسوف الاسلام ابن رشد (520-595ه 1126-1198م) حول هذه القضية - قضية السببية- إلا وهم من الاوهام الفكرية الشائعة!,, فالخلاف بينهما شكلي، في مصطلحات التعبير، ومناطق التركيز,, فابن رشد- الذي اكد على علاقة السببية، لم يقف بالمسبَّبات عند اسبابها الذاتية والمباشرة، وإنما اكد على تاثير ودور الفاعل من خارج الاسباب المادية,, والذي هو الخالق لهذه الاسباب المادية ذاتها,, فقال:ولا ينبغي ان يشك في ان هذه الموجودات قد يفعل بعضها بعضا ومن بعض، وانها ليست مكتفية بانفسها في هذا الفاعل، بل بفاعل من خارج، فعله شرط في فعلها، بل في وجودها، فضلا عن فعلها,, (8)
وهو ذات المعنى الذي عبر عنه الغزالي بمصطلح (الاقتران) بين السبب والمسبب,, فخالقهما قادر على ايقاف عمل السبب في المسبب، بخلق سبب جديد، او بتغيير طبيعة المسبب كي لايفعل فيه السبب القديم,, إننا نسلم ان النار خلقت خلقة اذا لاقاها قطنتان متماثلتان احرقتهما، ولم تفرق بينهما اذا تماثلتا من كل وجه, ولكنا، مع هذا، نجوز ان يلقى شخص في النار فلايحترق، إما بتغير صفة النار او بتغير صفة الشخص ,, (9)
فليس بين مفكري الاسلام من انكر السببية بإطلاق، ولا السنن والقوانين,, وليس بينهم من انكر القدرة المطلقة لخالق الاسباب والمسببات على التغيير والتبديل,, وليس هناك منهم من انكر ارتباط التقدم والتغيير والارتقاء باسبابه وسننه وقوانينه,, مع اللجوء الى الله، سبحانه وتعالى، بعد استفراغ الجهد في الاخذ بالاسباب، ليعيننا على ماوراء هذه الاسباب!,.
***
لكن الخلاف قد وقع - بين المذاهب والفلسفات- في معنى التقدم,, وفي المناهج والسبل المحققة للارتقاء,, فاصحاب النزعة الباطنية- الغنوصية : يرون التقدم,, والارتقاء - الذي يسمونه خلاصا - يرونه في المجاهدة الفردية,, الجوانية,, التي تعتمد على العرفان الذاتي، وتقوم على ادارة الظهر للمادة وعالمها، والجسد وحاجاته، والدنيا ومافيها,, وذلك وصولا الى قمة التقدم والارتقاء - الخلاص- بالفناء في المطلق والكلي والحق,, وهم في سبيل ذلك يحطون من شأن الاسباب - ومنها العقل و النقل والحرية و الإرادة والاستطاعة والقدرة - رافضين الاعتراف باية علاقة تلازم او فعل او تأثير بينها وبين النتائج والمسببات والثمرات,, وذلك اعتمادا على ان هذه النتائج والمسببات والثمرات إنما هي هبات وفيض و إلهام لا اثر فيها للاسباب!,.
وهذه النزعة (الباطنية - الغنوصية) هي ثمرة من ثمرات الفلسفة الاشراقية القديمة، التي ازدهرت في مدارس فارس الفلسفية، ثم طبعت التشيع الفارسي بطابعها,, وتجلت، كذلك ، في التصوف الفلسفي- وبالتحديد لدى القائلين بوحدة الوجود، او قصر الوجود الحقيقي على الله وحده-.
واصحاب هذه النزعة- التي هي على النقيض الكامل من النزعة المادية - تبعا لإنكارهم اي وجود حقيقي لما سوى الله، سبحانه وتعالى، ينكرون وجود سببية او اسباب في العالم او الانسان او المجتمعات,, كما ينكرون اية علاقة للتقدم والارتقاء بعالم الماديات,, فالخلاص - التقدم - هو الارتقاء على درب الفناء الروحاني، وعلىحساب الدنيا وما فيها!,.
ونحن اذا تتبعنا سمات نظرتهم الى العالم والإنسان، في ضوء علاقتها بالله، سبحانه وتعالى، فسنجد الموقف المفضي الى نفي الوجود - مطلقا- او الوجود الحقيقي- ومن ثم المسببية والاسباب وفعلها- عما سوى الله.
أ- فهم لايعتدون بالعمل- كسبب فاعل ومثمر- بل يعرضون عنه,, وإذا مارسوه، فإنهم لايرون علاقة الضرورة بينه وبين ما يثمر من اثار وثمرات ومسببات.
ب- وهم جبريون، ينفون وجود الارادة الإنسانية,,وعلىحد قول النِّفَّري (354ه 965م) -وهو من كبار فلاسفتهم-: فإن المماليك- (اي فاقدي الحرية والإرادة) في الجنة, والاحرار- (اي ذوي الارادة) - في النار (10)؟!
فالجبر هوطريق التقدم - الخلاص-,, والحرية هي طريق السقوط في النار (10) ؟!,.
ج-وهم ينكرون الوجود الحقيقي لما سوى الله، سبحانه وتعالى، فيرى فريق منهم ان وجود ما سوى الله لايعدو وجود الظل و الوهم ,, بينما يراه آخرون عدما خالصا!,, ففناء الخلق في الحق -عندهم- هو حقيقة التقدم والخلاص!,.
د-ولذلك، فهم لايعتمدون على الاغيار ومنها المادة والاسباب المودعة فيها والمخلوقة بها - ولايثقون فيها، فهي وهم او عدم محض!,.
ه- وينكرون ان تكون معرفة المصنوع سبيلا لمعرفة الصانع,, والتدبر في الخلق طريقا للإيمان بالخالق ,, فلا وجود، في الحقيقة -عندهم- للمصنوع ولاللخلق، حتى يكون النظر فيها والمعرفة لها سبيلا لمعرفة الخالق الصانع!,.
و- وهم يعتبرون السلامة هبة لاعلاقة لها بالعمل والتكسب والاسباب,, وحتى العبادات - إذا مارسوها- على النحو الذي جاءت به الشريعة - فإنهم ينكرون ان يكون لها- في السلامة والنجاة والخلاص والتقدم- فعل الاسباب للمسببات.
ز-وكذلك المعارف، يرونها هبة لاعلاقة لها بالاكتساب والاسباب.
ح-ويصرحون في مذهبهم، بنفي السببية - اي العُدَّة- ويقولون بانعدام تأثيرها في الارتقاء والتقدم الى الغاية - التي يسمونها مقام الوقفة ,, وبعبارة النفري : وقال لي- (اي الله ، سبحانه وتعالى) -: كل احد له عدة، إلا الواقف، وكل ذي عدة مهزوم ؟! (11)
ط-ذلك ان غاية اصحاب هذه النزعة الباطنية- الغنوصية- العرفانية ، ليست تحقيق خلافة الإنسان لله سبحانه وتعالى في عمارة العالم، بالكسب والاسباب، وإنما غايتهم - وتقدمهم- هو فناء الإنسان في الله وذلك عن طريق محو الأنا ، لا إثباتها، وهي غاية تتحقق بالهبة والفضل، وليس بالكسب والاسباب؟!,, وبعبارة النفري - ايضا- عن هذه الغاية - بلوغ مقام الوقفة ، التي يفني فيها الإنسان عن شهود السوى اي يفنى عن شهود ما سوى الله -:وقال لي- (اي الله، سحانه وتعالى)-: الوقفة لاتتعلق بسبب ، ولايتعلق بها سبب ! (12)
فهذا مذهب في التقدم والارتقاء والخلاص,, لكن، بمفاهيم خاصة لهذه المصطلحات، تجعله مغايرا للتقدم الذي يعنيه الإسلام!,.
***
(1)المدثر:37.
(2)الحجر:34.
(3)النساء:123.
(4)الاحزاب:62.
(5)فاطر:43.
(6)الفتح:23.
(7)الإسراء:77.
(8)تهافت التهافت ص124, طبعة القاهرة سنة1903م.
(9)تهافت الفلاسفة ص 67،68, طبعة القاهرة سنة 1903م.
(10)المواقف والمخاطبات - موقف الحجاب- تحقيق: آرثر برى, تقديم: د,عبدالقادر محمود.
(11)المصدر السابق- موقف الوقفة-.
(12)المصدر السابق- موقف الوقفة-.

رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
مشكلة تحيرني
منوعــات
القوى العاملة
تقارير
عزيزتي
الرياضية
تحقيقات
مدارات شعبية
وطن ومواطن
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved