يتوالى الجدل، مكتوباً ومسموعاً، حول فكرة (التخطيط للثقافة),, بين راغب فيها وراغب عنها، فهناك من يرى ملاءمة اخضاع قطاع الثقافة، مدخلات ومخرجات، لمقاييس وادوات وآليات التخطيط الرسمي للدولة رغبة في اكسابه انطلاقة تنميه وتثريه: وسائل ومضموناً، وتنأى به عن عوج العشوائية وضبابية الزيغ: هدفاً ومردوداً، وهناك من يرى خلاف ذلك، بحجة انه يحجم العمل الثقافي ويخضعه لقوالب ونواميس تصادر منه في المدى البعيد حرية المبادرة، وتعددية الاثراء، وموهبة الابداع!
***
وأود أن اتداخل مع هذا الجدل المفيد برؤية ذاتية حول الموضوع بشقيه، هي ثمرة اجتهاد خاص,, له من الخطأ أو الصواب نصيب، في كل او بعض اجزائه، اذ يتعذر على المرء الحصيف ان يتناول موضوعاً كهذا بأحادية في الرؤية او الرأي، وكأنه يملك وحده زمام الحكمة وناصية الصواب، فأقول:
اولاً: يبدو لأول وهلة ان هناك تناقضاً موضوعياً يهمس به مصطلح (التخطيط الثقافي)، إذ كيف ننشد تغيير حال الثقافة بحال، طمعاً فيما هو أفضل، ثم نسعى الى تحقيق ذلك عبر قوالب زمنية واجرائية منظمة يسيرها القياس والتخطيط والتوجيه والمتابعة.
***
والتناقض المعني هنا، هو ثمرة الصدام الأزلي بين مفهوم الثقافة,, ووسائل تنميتها تنويعاً واثراء واستمرارية عطاء، ولست في هذا المقام معنياً بالدخول في متاهة التعريف بالثقافة، فقد سبقني الى ذلك من هم اثرى مني باعاً، علماً ودراية، لكنني معني بمفهوم اساسي للثقافة من وجهة نظر شخصية، يعرفها بأنها حصاد تراكمي لمبادرات انسانية يتقاسم صيغتها العقل والوجدان معاً، يجمعها الأبداع، ويفرقها المضمون.
***
ومن ثم، فلو سلمنا جدلاً بأن الثقافة تبدأ بمبادرة، وتنتهي بناتج ابداعي ذي هوية وسياق معين، فانه يمسي من الصعب التسليم بان هذه المبادرة يمكن ان تخضع لقالب (التقنين) أو التسيير البيروقراطي، مما يسميه البيروقراطيون (تخطيطاً) ويسميه غيرهم توجيهاً يشبه القيد، او قيداً يشبه التوجيه، وقد يؤدي في السياق الأخير الى تحجيم الثقافة، إن لم نقل، تعطيل موهبة الابدع فيها.
***
ثانياً: إن من الجائز بدءاً القول بأن التخطيط للثقافة، او (التثقيف المخطط) وجهان لعملتين متفقتين غاية ومضموناً بمعنى اخضاع ادوات الثقافة ومضامينها ل(مسطرة التخطيط) الرسمي تقنيناً واشرافاً وتوجيهاً، واذا كان لابد ل(التخطيط) من دور معين في القطاع الثقافي، لأسباب تمليها خصوصية زمانية او مكانية او ثقافية معينة، فيجب ان يلتزم هذا التخطيط ب(حد أدنى) من التدخل والتداخل، تجنباً للإشكالية التي ألمحت اليها سلفاً، ورغبة في منح الثقافة حداً اقصى معقولاً من حرية الحركة والاحساس والتعبير كي يكون اداؤها مواكبا، ان لم يكن رديفاً، لهاجس الابداع؟
***
ثالثاً: هذا يقود الى قضية أخرى، وهي مسألة تعدد (مرجعية) الأداء الثقافي، وهنا ينقسم الرأي بين فريق يرجح فكرة تخصيص جهة تعنى بمدخلات ومخرجات الثقافة، وفريق آخر يعارض ذلك بحجة ان هذا الاجراء من شأنه ان (يقولب) النشاط الثقافي ويحدد مساره وايقاعه، ويخضعه لوصاية ومفاهيم وخيارات مسبقة الصنع، وهو امر يرى هذا الفريق انه يعطل الثقافة، ويصادر منها مرونة الحركة والابداع.
***
والحق، انني اواجه صعوبة في الوصول الى موقف يوازن بين الاتجاهين او يرجح احدهما ضدّ الآخر، ففي الوقت الذي اتعاطف فيه بقدر كبير جداً مع التوجه الثاني، طمعاً في تحرير العمل الثقافي من قيود تعوق اداءه، فأنني ارى ان لبلادنا خصوصية ثقافية واجتماعية وسياسية معينة تجعل من الملائم وجود (جهة ما) تعنى بالهم الثقافي، لكن باسلوب لايعطل اداءه، ولاينكر عليه مرونة الحركة، وحرية المبادرة، وموهبة الابداع، وبالتالي، يكون دور الجهة المعنية بالثقافة مقرراً في عناصر ثلاثة هي:
التسهيل والاشراف والتنسيق، بمعنى ان تتوفر للثقافة جهة واحدة تسهل لها سبل التعبير عن محتواها، وتنسق بين مفردات الجهد الواحد، فلا يتعرض لهدر ولاضياع ولاتكرار يخل بجدوى ادائه وعطائه، وتمارس قدراً مدروساً من الإشراف ضماناً لسلامة التطبيق.
وللحديث نهاية.
عبدالرحمن بن محمد السدحان