حينما تحدثنا عن الريادة النقدية فيما سبق - كنا نعني بدايات الاهتمام بمقاربة النصوص الابداعية دون النظر الى المناهج المتبعة او كيفية الاداء، باعتبار ان تلك المرحلة كانت تمهد الطريق امام مشروع ثقافي احيائي ينهض بدور تنويري يرهص بالوثبة الثقافية الآتية التي من شأنها ان تنقل الحركة الابداعية الى عتبات المعاصرة ليست بمفهومها الزمني، ولكن بدلالاتها الحضارية، وكان علينا ان ننتظر وقتا آخر حتى نجد انفسنا بصدد البحث عن (ريادة) من نوع آخر هي ريادة تأخذ بأسباب المناهج الحديثة، فكان عقد الثمانينيات الميلادية مرشحا لأن يكون عقد هذه الريادة، حيث بدأ المثقفون الاكاديميون من الجيل الثاني يشقون طريقهم الى الساحة النقدية متسلحين بأدوات معرفية جديدة متمثلة في اتقان لغات اجنبية حية، وكان قد سبقهم الجيل الاول ممثلا في الدكتور منصور الحازمي والدكتور عزت خطاب وغيرهما ممن حدثوا الادوات النقدية,, وفي اطار المناهج النقدية التي سادت في تلك الحقبة,, ولم تكن البنائية وغيرها من المناهج اللسانية والشكلية قد عرفت على نطاق واسع الى ان برز الغذامي في منتصف الثمانينيات وكذلك البازعي والسريحي وغيرهم، وكان الدكتور معجب الزهراني الذي انهى اطروحته للدكتوراة فيما بعد قد درس في السوربون واتقن الفرنسية التي مكنته من الاطلاع المباشر على المناهج الحديثة في مظانها الرئيسة، واذا كان منهج الغذامي يقوم على العرض المتميز لتلك المناهج والبحث عن جذورها في التراث واصطفاء النماذج القادرة على التمثيل لها من خلال التطبيق، ومنهج البازعي التنويري يجمع بين العرض والترجمة والمقاربة التطبيقية والتاريخية فان معجب الزهراني، قد عمد الى البسط والتنظير من الداخل بمعنى الاهتمام بالاطار المنهجي النظري من خلال دراسة النماذج الابداعية المحلية فضلا عن الترجمة، ولكنه لم يكن مجرد ناقل بل يصطفي وينظر ويطبق من خلال اطاره النظري في آن.
ويعلن الدكتور معجب الزهراني في دراسة نشرها في مجلة فصول 1997م عن جهود الدكتور الغذامي النقدية في كتابه (الخطيئة والتكفير) تعاطفه مع المنهج الذي اصطنعه الناقد، بل ويأمل ان تكون مشاركته تلك امتدادا لجهد الغذامي وبعض النقاد الجدد الذين ينطلقون في كتاباتهم من المرجعية الالسنية - الشعرية ذاتها (1) .
فهو يصنف نفسه ضمن هذا الاتجاه النقدي، ولكننا نستطيع ان نحدد ملامح هذا التوجه من خلال شهادته المنشورة في النص الجديد (العددان السادس والسابع) (2) إذ يقول انني كنت سعيدا بالتعرف على حوارية باختين منذ ان قرأت عنه وله ثم يقول بعد ذلك (هكذا بدت لي حوارية باختين نظرية نقدية حديثة ذات إغوائية كبيرة),, فهو يعلن انحيازه الى اتجاه نقدي معروف هو النقد الحواري,, وهو نقد يقوم على ما مفاده ان العمل الادبي والروائي بوجه خاص إطار تتفاعل فيه مجموعة من الاصوات او الخطابات المتعددة اذ تتحاور متأثرة بمختلف القوى الاجتماعية من طبقات ومصالح فئوية وغيرها، كما ان كل تغيّر نحوي او دلالي فيما يعبر عنه، سواء في الحياة اليومية او في الادب يعود الى العلاقة بين المتحدث ومستمعيه، الى ما يتوقعه المتحدث من ردود فعل، وما تأثر به من مقولات سابقة، ويقرر الدكتور الزهراني ان باختين في حواريته يحاول ان يتجاوز اطروحات الشكلانيين الروس الذين اختزلوا الادب في تقنياته والنقاد الماركسيين الذين اختزلوه في مضامينه الايديولوجية ويشير الى ان كتاباته تنطوي على فكر فلسفي معمق يمتد من حواريات افلاطون الى كتابات هيدجر الذي لم ينشغل احد اكثر منه بالانصات للكائن في الزمن او (للموجود في الوجود)، ويكرر ان حوارية باختين وحوارية تودوروف وحوارية فكر الاختلاف الحديث كله كانت الاكثر جاذبية لأن خطاب ادوارد سعيد يتموضع في سياق فكر الاختلاف الذي يمثله نيتشة وهيدجر وفوكو ودريد اوبارت، والحوارية جزء من فكر الاختلاف، ويعلن ان فكر الاختلاف النقدي هو الذي يحاول تمثله مع غيره من نقاد الساحة.
ويعمد بعد ذلك الى استعراض مساره النقدي في هذا الاتجاه، فيشير الى اول مشاركة له في الجنادرية الثانية عام 1988م وكان ما يزال طالبا في السوربون الثالثة حيث قدم ورقة عن لغة المعيش اليومي في لغة الرواية حيث اعتبرها مقاربة حوارية لرواية الوسمية لعبدالعزيز مشري، ويصف ردود الفعل المختلفة على هذه الورقة، وقد كانت تلك الردود صدمة بالنسبة له، ويقول ان تلك الردود زادته تشبثا بالحوارية وغيرها من المفاهيم التي انتجها الفكر النقدي الحديث (فكر الاختلاف), ولكنه يستدرك فيقول (لا باعتبارها نظرية ناجزة وجاهزة للتوظيف، وانما كتوجه يستحق الحوار معه، ومحاولة اختبار جديد وجدوى طروحاته, وقد تأكد ذلك بشكل اكثر دلالة كما يقول في ثلاث مقاربات اخرى مهمة بالنسبة له: (الرواية المحلية واشكالية الخطاب الحواري) وقد استثمر فيها مفهوم الحوارية كأداة تفسيرية مزدوجة الوظيفة، المقاربة الثانية آثار الحوارية في الكتابة الروائية المحلية وقد حاول استثمار الحوارية بمفهوم تحليلي يعين على التمييز بين انماط ودرجات الحوارية في اربعة نماذج سردية محلية، والمقاربة الثالثة، كانت بعنوان (غربة الظاهرة المسرحية في ثقافتنا) محاولا فيها تفسير غياب خطابات وتقاليد المسرح من ثقافتنا القديمة وهامشية حضوره في ثقافتنا العربية الراهنة.
ويقرر الناقد مرة ثانية ان الحوارية ليست نظرية مكتملة او ناجزة وجاهزة للاستعمال، لا عند باختين ولا عند تودوروف ولن تكون كذلك عنده كما يقول، وانه يؤمن بجدوى نسيان النظريات الجاهزة او المكتملة لحظة الممارسة النقدية.
والنقد الحواري كما يشير الناقد لا يتكلم عن المؤلفات وانما اليها او معها.
ولعل مقاربته عن الرواية المحلية وإشكالية الخطاب الحواري (3) تشير بشكل واضح ومنذ البداية الى فكر الاختلاف الذي ينتمي اليه الناقد بوصفه فكرا حواريا، إذ يقول في مستهل هذه المقاربة تحت عنوان (إشارة)، الاختلاف آية,, الأختلاف حقيقة,, الاختلاف رحمة، ويصف مقاربته انها اجتهادات ووجهات نظر تحاول ان تكون (حوارية) ومثيرة للمزيد من الجدل المعرفي الحواري، انه يعتبرها منطلقا إذ يعرب عن تمنياته ان تتحول بعض اطروحاتها الى نواة لأكثر من بحث او دراسة ينجزها او ينجزها غيره.
** ويومئ الناقد الى مرجعيته النقدية منذ البداية ممثلة في ميخائيل باختين الذي يلخص اطروحته بانها تقرر ان الخطاب الروائي يتميز عن الخطابات الادبية الشعرية بمبدأ الحوارية، ثم يتساءل ماذا يمكننا ان نضيفه اليه او نتممه به لاستثماره كأداة نظرية ومنهجية تساعدنا على قراءة اشكاليتنا في خصوصيتها,؟
وهو منذ البداية يحاور الفكرة السائدة منذ غوتة وهيجل الى لوكاتش وغولدمان عن تطور الشكل او النوع الروائي وتطور المجتمع والتاريخ بما يشمله من منظومات وسلاسل ادبية ومعرفية وفلسفية واقتصادية، وفكرة ان الرواية الحديثة تشكلت وتطورت مع تشكل البرجوازية الدينية وتطورها، وهو يسلم بوجاهة هذه الاطروحة من منظور فلسفة التاريخ او الاجتماع، ولكنه يراها محدودة القيمة معرفيا من زاوية منجزات الدرس الالسني، فينحاز الى المنهج الجمالي ممثلا في ذلك الدرس ضاربا صفحا عن الدلالة الفكرية الاجتماعية، وذلك مؤكدا على منطلق التحليل الداخلي للسمات والمقومات الجمالية المائزة للخطاب الروائي، اذ يرى مع باختين ان الخطاب الروائي قادر على نمذجة وتمثيل المتعدد والمختلف من الاصوات والخطابات المتواجدة في الفضاء الاجتماعي الثقافي بكل فئاته.
وان القدرة على التأليف والتشكيل والاسلبة هي مناط الجمالية.
وهو بهذا لا ينقض التوجه الواقعي في الدراسة، ولكنه يحاوره من وجهة نظر جمالية، وينفي عنه سيطرة وجهة النظر الواحدة مستحضرا تعريفه للرواية في مقدمة دراسته عن الحرية في شقة الحرية المنشورة في العددين 3-4 من النص الجديد مشيرا الى ان الرواية ترفض اي حلية او حيلة بلاغية فتأتي لغتها نثرية تقريرية جافة وشفافة تخبر وتسمي وتصف العلاقات والمواقف والظواهر في عريها الموضوعي الصارم والصادم حينا وحينا آخر تغريه وتستهويه شعرية للغة الشعرية فيأتي النص كثيفا معتما مترفا بالتمثيلات الاستعارية -الكنائية حتى لكأنه قصائد نثرية مطولة، فالرواية تقادم التنموذج والتنميط والانغلاق.
** ونجد الكاتب ينتقل بعد ذلك ليحل المثاقفة محل الحوارية، فالمثاقفة سمة حضارية وليست جمالية، وذلك لأنه رأى ان دراسته للمحاولات الروائية الاولى لا تجد ما يسعفها على المستوى الفني فلجأ الى تحويل مجراها ولو الى حين، وعاد ليتبنى المقولة التي رأى انها - وان استقامت على المستوى التاريخي,, لا تستقيم على المستوى الجمالي فأكد ان الرواية العربية كلها إنما تشكلت في سياق علاقات الاتصال والتفاعل الايجابي مع الثقافة والحضارة الحديثتين، وان عاد ليتحدث عن الحوارية على المستوى االذهني، ثم عكف على تحليل الثقافة الوطنية المحلية، كيف تشكل النخبة الثقافية في المملكة، وما هي ابرز العوامل التي دخلت في تكوين وتشكيل وعي هذه النخبة واشار الى مسألة التحقيب الثقافي التاريخي، ثم يمضي بعد ذلك الى الحديث عن التكوينات والبنى الاجتماعية وفق أسس انثروبولوجية ثم تحدث عن سيرورة المثاقفة الداخلية الخارجية والداخلية الداخلية وامدنا بفيض زاخر من المعلومات التاريخية والثقافية وقد ربط بين ذلك التحليل الاجتماعي التاريخي الثقافي والابداع، ويمضي الى مقاربة مجموعة من الظواهر الادبية - الثقافية التي تبدو محيرة على نحو ما رصدها من منظور سوسيو انثربولوجي ويقرر ان كل من يتابع تحولات الافكار والقيم والعادات في حياتنا لابد وان يربط بين ما يعاش وما يقال.
وقد انتهى الناقد من دراسته الى الدعوة الى تدشين خطاب اصلاحي جديد يتجه الى عقل وذوق الانسان بعد ان حقق الخطاب التنموي منجزات وبنى عمرانية مادية تثير الاعجاب، والىتكريس الوعي بأهمية الدور الحضاري للنخب الوطنية في المجتمع وكله وبمختلف مؤسساته الادارية والتربوية التعليمية والاقتصادية والاعلامية والاجتماعية.
** وفي دراسته للرواية (شقة الحرية) (4) يشير منذ البداية الى ان منهجه في المقاربة لا يخضع لأي احكام او تصورات مسبقة، فهي قراءة محايثة وملائمة للنص، وهي تحاور النص، فهي حوارية الطابع قائمة على التوصيف والتحليل والتفسير لا قبل لحظة القراءة ولا بعدها، فهي قراءة موجهة الى جماليات النص (الشعرية السردية، ويحدد محاور القراءة بالاستمتاعية الاستكشافية في المستوى الأول ثم القراءة النقدية الجادة المتأنية التي تطمح الى الفحص والاختبار والتوفيق من حيث بناه وتقنياته ولغاته وابعاده الدلالية ثم نلحظ العناوين التالية: (حرية الكتابة، حرية القراءة حيث يبدأ بالعناوين، ثم قراءة توصيفية للنص:
حكاية النص حيث يلخص الناقد الرواية ويصنفها في اطار رواية الرحلة التعليمية وما يتميز به هذا النوع حيث التغير والتحول والتطور وقوة حضور عناصر السيرة الذاتية طبقا لباختين في جماليات الابداع اللغوي) ثم: في حواشي النص (النصوص الموازية طبقا لجيراجينت ثم: في المتن الروائي الفصول والاجزاء والمنظور الروائي والمقاطع الحوارية ثم المستويات اللغوية اي مجموعة الاساليب التي يرد بها الخطاب في النص الروائي باعتباره من انجاز كاتب يعي ضرورة استثمار العديد من طرائق التعبير، وهنا يشير إلى اربعة مستويات: اللغة السردية ذات الطابع الاخباري الاعلامي ثم اللغة الادبية الرفيعة، ثم اللغة اللهجية واللغة المعرفية ثم الابعاد الدلالية للنص حيث يحاول في الخاتمة تحت عنوان اشكالية الكتابة الروائية المحلية مرضعة النص في سياقه الادبي الاجتماعي وينتهي الى ان وعيا متزايدا بأن التراكم في المنجز الابداعي وحده يفضي الى التطور والتحول كما هو الحال في المجالات الفكرية والاجتماعية, وأن الوعي الحدي المؤدلج قد بدأ يتراجع.
** وهكذا تبدو هذه القراءة أنموذجا للمنحى النقدي الذي سلكه الدكتور الزهراني في مقارباته النقدية ونستطيع من خلال استعراضنا لمجمل مقارباته ان نستنتج ما يلي:
أولا : اهتمام الناقد بالحوارية وطموحه الى تجذيرها في التربة المحلية ابداعا ونقداً, ثانيا: استحضاره لثقافته الاجنبية ممثلة في باختين وتدوروف واضرابهما فهو يكثر من الاستشهاد بمقولاتهما ويصطنع منهجهما في المقاربة.
ثالثا : يحاول ان يختط له منحى خاصا يؤصله مستثمرا رصيده الثقافي الضخم ومحاورا به اضرابه، وهو يحاول ان يكرس خطا نقديا جماليا.
رابعا : للناقد رؤية اجتماعية تاريخية تنأى به عن الادلجة والانحيازات الفكريةو يتكئ فيها على منحى في التحليل يربط بين المنجز الابداعي والبنى الفنية والفكرية.
خامسا : يهتم الناقد اهتماما شديدا باستكشاف جماليات النص مستثمرا معرفته التقنية وطرائق التحليل في النقد الغربي.
والاهتمام باللغة وجمالياتها في السرد على وجه الخصوص يشكل محورا مهما من محاور المنهج النقدي عند معجب الزهراني بل هو بؤرة استقطاب لكافة جماليات النص، وذلك ما تميز به الالسنيون، وهي مناط الحوارية التي تمتد لتصل ما بين الخطاب النقدي والخطاب الابداعي على اختلاف منحى كل منهما وطبيعتها، حيث النقد يرد الخصوصيات إلى العموميات والجزئيات إلى الكليات في حين يركز الخطاب الابداعي على خصوصية التجربة التشكيلية في مستواها اللغوي بخاصة والبنائي بعامة، لكن هذا التمايز بين الخطابين - كما يقول الناقد - لا يعني ان ليس بينهما علاقات اتصال حواري باعتبارهما جزءاً من المنظومة الثقافية العامة في المجتمع.
** ويركز الدكتور معجب على خصوصية اللغة في دراساته عن السرد، ففي مقاربته لمجموعة عبدالله باخشوين الحفلة (5) يتحدث عن اللغة الهذيانية الحلمية بوصفها تمثل حالة انزياح، بل خروجا وشذوذا بمعيار اللغة العادية، فاللغة - من منظور لعبة الكتابة التي يمارسها الكاتب بوعي ومقصدية كما يقول - تعبر عن رؤية وموقف من اللغة وعن العالم، ووفقا لمنحاه في التأكيد على الحوارية يؤكد ان الوظيفة التعبيرية المباشرة لهذه اللغة الهذيانية في هذا المقام هي البوح والتنفيس، إذ ان اللغة الحلمية - الهذيانية مونولوجية بطبيعتها حيث تتجه من الذات الى الذات، لكن البعد الحواري ليس غائبا عن هذه اللغة لانها تحولت - هنا - بالضرورة ويعرض لمسألة التناص عند حديثه عن الاغتراب والاستلاب ويحاول ان يصحح بعض المفاهيم حول هذه الظاهرة.
يتبع