Sunday 29th August, 1999 G No. 9831جريدة الجزيرة الأحد 18 ,جمادى الاولى 1420 العدد 9831


فضاء القصيدة
احتفالية الجسد,, أم ذاكرة للوطن !! 1-2
أحمد الدويحي

يزخر العالم الادبي العربي الروائي برصيد هائل من الروائع والانتاج الزاخر بنبض متصاعد بدءاً من زينب الرواية الاولى التي قيل انها حملت شرف اول نقطة حبر سال وتراكم معطى روائي كبير من بدايات هذا القرن حتى يومنا هذا ونحن نتشبث بيومياته الاخيرة التي ستدخلنا في عالم قرن جديد والفية ثالثة جديدة,.
هذا النتاج الادبي الروائي الغزير يدرك المطلع عليه ولاشك ان هذا اللون الادبي تناول كافة اوجه الحياة وتقاطعاتها ورصد الحقيقة الزمنية في شئون الوطن العربي بدءاً من نضاله وتحرره من المستعمر وصراعه فيما بعد لمقاومة الانكسارات والاحباطات الطويلة ضد طموحاته واحلامه المشروعة ليبقى الصراع في ذاته, في ذاكرته وقيمه وثوابته وتاريخه في زمن العولمة مستفيداً من فنون السرد الهائل واساليبه في كتب التراث العربي المليء بأشكال من فنونه ومستفيداً من تقنيات النص الروائي الحديث في الفنون الانسانية اليوم,.
هذا المنجز الروائي العربي وجد النقاد والباحثين الذين تناولوه بالتفسير والقراءة والتمحيص لعل من اهمهم د, علي الراعي في دراسته لنماذج مختارة الرواية في الوطن العربي في عمومه بمعنى انه قرأ نماذج مختارة من هذه النتاجات لانه ليس من الطبيعي ان يكون رصد كل هذا النتاج الممتد على حقبة زمنية طويلة نسبياً.
ويصف الدكتور علي هذا الابداع الروائي بانه انجاز مهم في حقل الرواية وكنز زاخر وكلها مشوقة مثرية تفتح الآفاق امام الابداع العربي وتضيء الارواح والعقول العربية في كل مكان كتبها المبدعون العرب,, ويلفت الانتباه ان هموم الروائي العربي تتسع وتتكاثر وتندلق على طول الساحة العربية وعرضها من المحيط الى الخليج .
وبهذه الخصوصية ندخل معاً الى عمق رواية الروائية اللامعة احلام مستغانمي واقول اللامعة قبل قراءتها او قرب النهاية من الصفحات الاخيرة من ذاكرة الجسد .
والحقيقة ان كثيرا من اصدقائي حرضوني على قراءتها والاخرى فوضى الحواس وأصبغوا عليها كثيراً من الصفات الايجابية تمنيت ان يعيرني احدهم نسخته لكن ذلك لم يحدث,.
وجاءت الطامة فسمعت وشاهدت الكاتبة في برنامج تلفزيوني تتحدث عن اعمالها بالطبع,وتجيب على اسئلة قرائها واصدقائها بجرأة خارقة حول افكارها وطقوسها ورؤيتها الفنية الروائية,, ومشوار حياتها بشيء من التفصيل.
ولابد من الاشارة في البدء,, بحرية خيار المبدع ونعترف بحقه في تجربة التطهر,, وإيجاد وتشكيل عالم ابداعي له خصوصيته.
وهذا بالضبط السؤال المهم,, بهذه الحساسية تجاه شيء غريب مبهر لاستكشاف نكهته,, طلبت حينما كنت ابحث عن شيء يغري ذائقتي البائع قلت اريد روايات احلام مستغانمي كلها,, قبل غيرها فقال هما اثنتان ولست اعرف كيف قد بينت في ذهني انها ستكون على خطى كثير من الروايات العربية ستتناول المحرمات في الادب مثل الجنس وقد سبقها بعضهن لعل من هم الاسماء حنان الشيخ,, وحنونه بنونه,, وربما رضوى عاشور وبعض الكتابات في المغرب العربي النسائية,, وروايات اخرى مثل عرس بغل للطاهر وطار و وليمة لاعشاب البحر لحيدر حيدر وعشرات.
استقر السؤال في عمق الداخل اكثر,, وبروح استفهامية اكبر,, عن اي عالم تكتب,, وفي اطرافي حضورها الطاغي,, وهالة المقدمة لواحد من اهم الشعراء العرب لم يفعل هذا نزار قباني طيلة حياته ثم تمنح ذاكرة الجسد جائزة شيخ الرواية العربية نجيب محفوظ,, او سيد تشخيص المكان في الرواية العربية.
الاكيد انها كأي كاتب عربي يبدأ التعلق بالشعر في البداية يمارسه كتابة وقولاً وذاكرة,, حتى تكتشف له موهبته وحضوره الفني في جنس ادبي اثير يعبر عن طاقته الفنية.
وبعد فترة من كتابة الشعر فانها تجربة تعتبرها احلام مستغانمي خيانة ماضية نسيتها,, لكنها بالتأكيد استفادت من التجربة لغة التكثيف والاخلاص والصدق الفني لتكتب به,, متمردة على حرف الدال وهي خريجة السربون,, لتتحرر من هذه الشهادة فوق كتبها,, ولا يتردد في تذكيرنا بشهادتهم الاكاديمية في مواضيع تافهة بمناسبة وبدون مناسبة لو كانت حفلة زفاف بعضهم عن انفسهم,.
كتبت الرواية الاولى ذاكرة الجسد بهذه الشروط وبذات الاجواء الفنية بفن امتلك حق الاختيار والانحياز الواعي، بل ان هذه الجدلية تتحدث ذاتها في صلب الرواية بشفافيتها ولغتها وثقافتها وتجاربها فتقول على لسان بطلها: لماذا اخترت الرواية بالذات واذا جوابك يدهشني:
كان لابد ان اضع شيئاً من الترتيب داخلي,, واتخلص من بعض الاثاث القديم, ان اعماقنا ايضاً في حاجة الى نفض كأي بيت نسكنه ولا يمكن ان ابقي نوافذي مغلقة هكذا على اكثر من جثة,, اننا نكتب الروايات لنقتل الابطال لا غير وننتهي من الاشخاص الذين اصبح وجودهم عبثا على حياتنا فكلما كتبنا عنهم فرغنا منهم وامتلأنا بهواء نظيف .
وفي شطر كبير من الرواية نكتشف ان البطل,, مناضل بترت ذراعه اليسرى تحت قيادة والدها سي الطاهر ,, وقد خرجت الى الدنيا قبل شهور,, ودعيت باسم حياة اسم طارىء يمثل الوضع الطارىء للاستعمار الذي يأتي من بين مناضليه اصغرهم وقد بترت ذراعه ليمنح الطفلة اسمها الجديد احلام والابوة المفقودة .
اطربني وفرحت بالاختيار فالزمن بعيد نصف قرن ربما,, فالكتابة الروائية كالسيل الجارف تقتلع كل شيء في طريقها,, وتصب في مكان واحد.
والزمن كفيل لتنبت اشياء جديدة ليست على بال فبدأت بتقديم البطل شاب هجر في البدء البيت,, ماتت امه وتزوج ابوه ببنت صغيرة,, وامامه ساحة شرف يقاتل في الجبال مع المجاهدين والمناضلين ويسجن وتبتر يده في عز الشباب,.
وتبقى هذه الحادثة بالذات حادثة بتر يده جرحاً اشد عمقا في النفس وهو الذي كان يطلب الموت والشهادة,, هذه الحادثة ارتبطت في ذاكرته بشيئين اثيرين في نفسه,, رسم لوحة تشكيلية حنين , بشكل بدائي لجسور مدينة قسطنيه الصخرية بعد ان دفعه طبيب عالج بتر يده بالرسم,, ومهمة منح ابنة صديقه وقائده المناضل الشهيد,, سي الطاهر ابوته واسمها الجديد احلام , الاسم الذي ستصبح به بعد خمسة وعشرين عاماً هي الزلزال الذي يجتاحه,, والحقيقة ان الادب الجزائري بمجمله ادب مليء بقصص النضال كأدب الطاهر وطار وكاتب ياسين واسيني الاعرج بما فيه من لباس اجتماعي وسياسي وحياتي بالتفاصيل التي تهتم بها الرواية,, اي رواية انسانية, لكن الادب الجزائري له خصوصية وهم، جعلت كاتباً عربياً مشرقياً حيدر حيدر ينغمس في هذا الهم ويكتب رواية آخذة ومدهشة هي رائعته التي قيل انها فاقت ادب جزائري يشخص هذا الواقع وكانت وليمة لاعشاب البحر وفي طليعته بما فيها من قصص العشق والنضال,, لينبت سؤال حول اضافه احلام مستغانمي الكاتبة الروائية من قصص العشق والنضال اذا عزفت على ذات الوتر,, وتر من سبقوها بأنوثتها وثقافتها للقراء والمثقفين العرب ,,بالبوح ودفقة الصدق والسرد المكثف لتقرب من قارئها العادي بالذات,, !!
ولعل التكثيف اللغوي والحكائي لتفاصيل دقيقة والاسترجاع للاتكاء على حدث,, وتحريك غرائز العقل وذاكرته,, لتمضي سيرة وطن في سيرة رجل معاق مناضل فنان متمرد اعزب منفي, على عمر كامل لانثى كان لها في مكانة الاب المناضل في الجبال,.
الاب الذي منحها الاسم الجديد احلام منحها قبلة الحياة الاولى والحنان كرجل,.
وتمضي الرواية في تناغم مثير وتداعي ذاكرة مفعمة بالاحداث الصغيرة والتفاصيل الدقيقة والمكثفة في استرجاع الطفولة فيما يشبه التدوين لتضعنا الرواية فيما اظن انها خصوصيتها واعني به الانقلاب واعني ان ما تقدمه الرواية من تفاصيل دقيقة واحداث صغيرة متكررة تحذف بها في ذاكرة المتلقي في تباعد الازمنة مما يوحي بقدرة الكاتبة ولغتها الآسرة في اخفاء شيء يتجاوز قصص العشق والنضال,, العشق الذي فصلت بينه بربع قرن من الزمان انقلاب في حياة انسان.
كتغير اسم انسان من حياة الى احلام .
هذا الانسان فنان ومعاق ومناضل متمرد واعزب يسترسل بنا بطل ذاكرة الجسد ,
وقد صار كهلاً في الخمسين,, وقد صارت باريس مكان نضاله بدلاً من قسطنيه .
فاللوحة ميدان نضاله ومعاركه وعشقه.
صار رساماً من اهم رسامي الجزائر في الغربة,.
وينبت السؤال هل يشيخ المناضلون وتبتر تواريخهم كما تبتر اعضاء الشهداء والشرفاء ام ان المدن تتغير!!
المدن لا تتغير كما تتغير النواميس والحاجات والغرائز هي لا تتغير.
لم يكن بطل قصتنا له اسم على جزء كبير من مساحة الرواية وقد تعمدت الكاتبة احلام مستغانمي من ضمن لعبة النص ان يكون كذلك,, انه ينتمي الى عالم المثقفين فقد شغل مسؤولية النشر والطباعة,, قبل ان يرفضها بسبب التدجين والفراغ الثقافي والاعلامي,, وهو يستدل في الغربة بأفكار المثقفين الغربيين,, وبالذات وعلى وجه الخصوص الفرنسيين .
في لقاء البطلين بعد ربع قرن من الزمان في باريس مع فارق التوقيت وهو لقاء الزمن الضائع لكليهما.
مناضل بترت يده لم يجد غير الرسم ليفرغ الشحنات القاسية وتفاصيل عمره الضائع في لوحات,.
وطالبة وكاتبة روائية,, وابنة مناضل شهيد اخ سي الشريف عمها الذي يتصارع مع رفاق النضال والجهاد والكفاح على الاقتسام للغنائم,, وامتلاك الاموال والمناصب ومنها منصبه في باريس وقد بعث ابنته وابنة شقيقه احلام نيابة عنه لحضور دعوة حفل افتتاح معرض الفنان الجزائري.
وتأتي فجأة !! ويحدث الانقلاب لم تأت تلك الطفلة التي لعبت على ركبتيه قبل ربع قرن,, ربع قرن من الصفحات البيضاء,, صفحات لم تمتلىء بشيء ذا اهمية,.
ثم يلتقي جبلان كبيران فنان تشكيلي وكاتبة روائية,, في لقاء ذاكرة ماض يكاد يكون اوراق مصفرة وحاضر لا ذاكرة له غير ذاكرة وخيال الفنان بلغة فنية روائية شاعرة مشتهاة وسرد هائل لهذا الماضي,, وعندما يلتقي الجبلان تحدث الهزة وتنفجر البراكين ويتحول الجبلان الى تراب واحد,,
رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
المتابعة
منوعــات
عزيزتي
الرياضية
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved