Sunday 29th August, 1999 G No. 9831جريدة الجزيرة الأحد 18 ,جمادى الاولى 1420 العدد 9831


(بئر أحزان)، إلى من أبث الأسى ؟!!
للكاتب الروسي الكبير: انطوان تشيكوف
ترجمتها: حصة إبراهيم العمار

شفق المساء وندف كبيرة جمة من ثلج رطب تطوف بكسل حول قناديل الشارع المضاءة لتوها لتتراكم مشكلة طبقة خفيفة على اسقف المنازل وظهور الخيل وأكتاف الناس كان (ايونا بوتاكوف) الحوذي ابيض كشبح وكان احدب الظهر,, طفق يتربع على مركبته دون حراك غير آبه بالثلج المتساقط ماكان لبحرك ساكناً حتى ولو دفنته أكوام منه,, وكذا كانت فرسه الهرمة التي بدت تقوسات اعضائها وانحناءات عظامها كما لو كانت كعكة زنجبيل رخيصة لابد وأنها الآن تسبح في لجج عميقة من التفكير وليس على المسكينة ادنى لوم إذ ان من يقتلع من الحقل والمحراث وبيئة الريف ليلقى به في ادغال المدينة وسط اضواء عارمة وهدير لاينتهي من ضوضاء وجلبة واقدام متسارعة سيغرق لاشك في تفكير عميق, ولم يكن (أيونا) وفرسه قد تحركا من مكانهما,, خرجا قبيل العشاء سعيار وراء راكب ولاحياة لمن تنادي الا ان شفق المساء كان قد غطى الآن سفوح المدينه فيما ازداد بريق المصابيح وجلبة المشاة.
-مركبة جليد إلى مقاطعة فيبورج -مركبة جليد! تنامى النداء إلى سمع أيونا .
ويطل ايونا خلف رموش اثقلتها ندف الثلج وهو متجه بمركبته إلى الراكب فيلمح فيه ضابطاً ببزة عسكرية وقلنسوة.
-إلى مقاطعة فيبورج - أعاد الضابط القول.
ويحرك أيونا لجام فرسه في إشارة توحي بالقبول فتتناثر في الجو رقائق من الثلج, ويصعد الضابط إلى مركبة الجليد فيلكز (أيونا) فرسه في جنبيها ثم يلوي عنقها فكأنما هي وزة بعيدة مهوى القرط,, ويلوح بسوطه - جريا على العادة- أما الفرس فتمد عنقها وتعقف سيقانها العجفاء ثم,, تسير على مضض.
-ماهذا الاندفاع تباً لك - هيه تمهّل! إلزم اليمين!.
جاءته صيحات كثيرة من الجموع حوله عقب عليها راكبه بغضب:
-ألاتجيد القياده؟ إلزم اليمين!
ويزداد نفح الألم,, يمر به سائق مركبة فيسمعه سيلاً من السباب ويحملق به أحد المشاة في غضب بعد ان احتك بأنف فرسه ثم طفق ينفض الثلج عن كمه، ومن على صندوقه يتململ (أيونا) فكأنما هو يفترش قاعدة من مسامير ودبابيس,, ودفع مرفقيه بعنف فيما شرعت عيناه تدوران في محجريهما ماسحاً المكان ببصره في عصبية كما لوكان يجهل ماهية وسبب وجوده في ذلك الموضع بالذات!
-يالهم من أوغاد - علق الضابط ضاحكاً_ إنهم يبذلون غاية جهدهم للاصطدام بك أو الوقوع تحت العربة! مؤامرة مادية لاريب!
ويفتح (أيونا) فمه ليقول شيئاً فلا يقدر,, صوت أشبه بالصفير هو ما خرج منه!
-ما الأمر؟ سأله الضابط.
ويمط (أيونا) شفتيه فيما يشبه الابتسام ليقول بصوت أجش:
-ابني سيدي,, آ,, مات منذ اسبوع.
-هم م م,, (تمتم الضابط) وممّ مات؟
ويدير (أيونا) ظهره ليقابل الراكب وجهاً لوجه:
-من يدري؟ ربما كانت حمى أصابته,, ما مكث في المستشفى لأكثر من ثلاثة ايام فارق الحياة بعدها,, إنها مشيئة الباري ولا راد لقضائه.
-افتح الطريق أيها الصعلوك,, ماذا حل بك- ألا ترى ماحولك!
جاءته صرخة من جوف الظلمة المحدقة به على ان صوت الضابط تنامى الى سمعه بعيد ذلك:
-هياتحرك,, لن نصل بهذه السرعة قبل صبيحة الغد - اين السوط؟
ويعتدل (أيونا) في جلسته ثانية ثم ينهض فيعمل في الفرس سوطه,, ويرجع بصره الى الضابط فإذا هو مغلق العينين لم تكن به رغبة للاستماع لاشك -قال (أيونا) لنفسه-
في مقاطعة (فيبورج) ينزل الراكب فيتجه أيونا إلى أحد المقاهي ثم يعود ليجلس على صندوقه ثانية وقد بدا ظهره اكثر تقوساً من ذي قبل,, ويعود الثلج ثانية إلى طلائه وفرسه باللون الأبيض وتمر ساعة,, واثنتان,, ثم يفد اليه ثلاثة رجال: طويلان وقصير أحدب,, كانوا يتبادلون الشتائم وأحذيتهم تقرع الرصيف بعنف:
-إلى جسر الشرطة أيها الحوذي - صاح الأحدب بصوت أجش- مقابل عشرين (كوبكاً) لثلاثتنا!
ويشد (أيونا) لجامه, لم يكن المبلغ كافياً على أنه لم يملك أي خيار آخر ويتجه الثلاثة إليه في لغط ثم يقفزون إلى العربة في آن واحد للاستئثار بالمقاعد إلا أن الحيز ماكان يتسع لأكثر من اثنين فيتفقون أخيراً على أن الوقوف هو من نصيب الأحدب,, كونه أقصرهم!
-حسناً,, انطلق,, قال له الأحدب بصوت أجش وانفاسه تمارس الانزلاق على رقبته -هيا- تابع الأحدب- يا إلهي, ماهذه العربة لا اعتقد ان هناك ماهو أقبح منها في (بيترزبيرج).
-هاه هاه- يقهقه (أيونا) مسايراً- الأمر كما وصفته.
-حسنا فحث الخطى إذاً- جاءه صوت الأحدب ثانية- أتنوي ممارسة الحبو طوال الطريق؟ أم انك تحنّ إلى صفعة على قفاك؟
-يكاد رأسي ينفجر- قال أحد الجالسين- جراء ما اقترفناه ليلة البارحة!
ويشتد الجدل بينهم ثانية فيضحك (أيونا) قبل ان يقول:
-انتم منشرحون- فليدم المولى سعدكم.
على ان القصير يصيح به:
-تباً لك,, ألن تتحرك,, ايتها الحشرة العجوز- إلسع ظهرها بالسوط هيا,, انهض,, ألا تعساً لكما!
ويحس (أيونا) بجسد الأحدب يتململ وراءه وأنفاسه المضطربة تلسع رقبته,, وتحاصره الشتائم وعشرات المشاة فيحس وكأن يداً قد أخرجته من قوقعة الوحدة والوحشة والأحزان,, وتقطر شتائم الأحدب من فيه سراعاً على أن نوبة سعال توقف ذلك كله,, أما الجالسان فينهمكان في حديث جانبي,, حتى إذا ما آنس (أيونا) منهما لحظة هدوء قال:
-هذا الأسبوع,, آ,, مات ولدي!
-سنموت جميعاً,, قال الأحدب مطلقاً تنهيدة حرى,, ماسحاً شفتيه بيده - ومتابعاً- هياهيا,, اسرع,, لا استطيع احتمال هذا البطء ياسادة,, متى سنصل الى غايتنا!
والتفت أحد الجالسين إليه:
-السع رقبته فربما أسرع.
ورد الأحدب مخاطباً الحوذي:
-اسمعت- سوف اصفعك إن لم تغذ السير,, ألا تسمع مايوجه إليك من حديث,, يا ايتها الحية العجوز؟!
ويسمع (أيونا) صوت ضربة على قفاه دون ان يشعر بها:
-هاه,,هاه- انهمك في ضحك قصد به ترطيب الأجواء- انتم منشرحو الصدور إذاً - زادكم الله صحة وسعادة.
-أمتزوج انت أيها الحوذي-؟ سأله أحد الجالسين
-أنا- وعاد إلى الضحك- ليس لي من زوجة الآن سوىالتربة الرطبة -هاه,,هاه- القبر أقصد- ياللمفارقة مات ابني وابوه على قيد الحياة- ليت المنية أنشبت أظفارها فيّ بدلاً منه.
ويستدير المسكين إليهم ليروي قصة موت ابنه على أن الأحدب يطلق في اللحظة ذاتها تنهيدة ارتياح لوصولهم غايتهم مزجياً جم الشكر للمولى على ان حقق لهم ذلك! ويترجل ثلاثتهم فيغيبهم مدخل مظلم والحوذي يشيع بنظراته شلة المعربدين تلك.
ويعود إلى قوقعة الوحدة والعزلة,, وقسوة الوحشة وذاك الحزن الطاغي الذي امهله قليلاً قد عاد لينشب في فؤاده أظفاراً مسمومة وكانت عيناه تموجان بالقلق واللوعة والألم وهو يرقب جموع الغادين والرائحين على ضفتي الطريق,, أليس بين تلك الجموع المائجة من يستمع له؟,, على ان طوفانهم كان يمر به دون توقف غير عابىء بعاصفة الأحزان في ذاته كان ألمه جما,, رهيبا لايطاق لو انفجر لأغرق الدنيا ورغم ذلك فلم يكن ليلحظه أحد,, تخير لنفسه قوقعة آمنة في وجدانه لايصل إليها سمع أو بصر في وضح النهار.
ويلمح (أيونا) حارساً يحمل حقيبة فيهرع إليه عله يبثه شيئا من حزنه:
-كم الساعة الآن يارفيقي؟ يسأله (أيونا).
- قد جاوزت التاسعة- لماذا توقفت هنا؟ امض في حال سبيلك! نهره المسئول!
ويتقدم بفرسه بضع خطوات ثم يتوقف ليسلم عنقه لحبل الأحزان لافائدة من التحدث إليهم - قال في نفسه- فيما ازداد تقوس ظهره على انه استقام - بعد دقائق خمس- ثم هب كالملسوع وهز لجام فرسه إذ لم يعد يحتمل أكثر من ذلك!
-إلى البيت- قال في نفسه- الى البيت!
وكأنما فهمت فرسه ماجال في باله فهي تتخذ إلى المنزل طريقها.
بعد ساعة ونصف كان (أيونا) يجلس بمحاذاة موقد متسخ كبير,, وعلى الأرض والمقاعد كان هناك نفر غير قليل يمارسون رياضة الشخير اما الهواء فثقيل فاسد,, ويلقي عليهم (أيونا) نظرة طويلة ثم يحك جسده مستشعراً الندم على عودته باكراً,, ما من أحد يسمع شكواه!
- لم أجمع اليوم ما يغطي كلفة الشوفان! تلك هي مشكلتي إن من يقدر على إعالة نفسه وحصانه,, هو انسان حازم مدبر,, لايندم أبداً! وينهض من أحد الأركان عامل شاب,, يتمتم شيئاً قبل ان يمد يده لتناول إناء الماء:
- أعطشان أنت ؟ يسأله (أيونا) في لهفة:
- أظن ذلك.
-هنيئاً مريئاً,, لكن ابني قد توفي ياصديقي ! أسمعت؟ مات في المستشفى هذا الاسبوع و,.
وينظر إليه (أيونا) كيما يستجلي تأثير ذلك عليه فلايلمح شيئاً! كان الشاب قد غطى وجهه وأطلق لتيار المنام والأحلام العنان,, ويتنهد العجوز ثانية ثم يحك جلده مجدداً,, عطشه للعثور على من يستمع إلى أشجانه كان كعطش الشاب إلى الماء,, سيمر اسبوع على وفاة ابنه دون ان يجد من يصغي باهتمام إليه,, ويجب ان يجد مجالاً لذلك,, ان يقول لهم كيف سقط فلذة كبده طريح الفراش,, وكيف قاسى ويلات الألم,, ماذا قال قبل ان يموت وكيف احتضر,, ينبغي ان يصف لهم مراسم الجنازة,, وكيف ذهب الى المستشفى كيما يجلب ملابس حبيبه الراحل,, وهو يود كذلك ان يتحدث عن ابنته (أنيسة) انها لاتزال في الريف,, أجل,, لديه الآن الكثير مما يود التحدث عنه وعلى من يستمع إليه ان يتفاعل مع مايقول فيشهق,, ويتنهد ألماً,, أن يندب ويعول! ثم,, لربما لربما كان من الأفضل أن يتحدث إلى نساء إذ انه رغم حمقهن فلسوف ينتحبن في لوعة إبان سماع الجملة الأولى!
-ينبغي أن أخرج فألقي على الفرس نظرة- فكّر (أيونا) سيكون هناك متسع من الوقت للنوم - قال لنفسه- ويرتدي ثيابه ثم يخرج الى فرسه ويفكر في الشوفان والشعير وحالة الطقس,.
عندما يكون وحيداً فإنه لايجرؤ على التفكير بحبيبه الراحل دون عوده,, الجاثم دون حراك بين طيات الثرى,, باستطاعته ان يتحدث معه في حضرة مستمع ما,, أما ان تضطهده الذكرى وحيداً فالألم لايطاق!
-أتجترين ؟- قال مخاطباً فرسه محدقاً في عينيها اللامعتين- هيا استمري في المضغ! إن لم نجمع مايكفي لشراء الشوفان فلسوف نأكل شعيراً أجل لقد هرمت وما عاد الزمان يسعفني لامتطائك,, كان من المفروض ان يتولى ابني ذلك فيريحني لقد كان حوذيا بارعاً - ألا ليت سهم المنية أخطأه فأصابني! ويتدارك نفسه فيتمتم: اللهم لا اعتراض!.
ويصمت قليلاً ثم يستأنف حديثه: أجل,, فتاتي العجوز,, لقد مات (كوزما) فارق هذه الدنيا,, وتركني للدموع والضنى,, لنفترض انك انجبت مهراً صغيراً جريئاً جميلاً ماكان له في هذا الدنيا سواك,, وفجأة غيبته أكف المنون أفلا تجزعين عليه؟!!.
وفي صمت توالي الفرس القضم وانفاسها الهادئة تداعب يدي سيدها الذي تجرفه العاطفة فيفضي إليها بكل شيء!
رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
المتابعة
منوعــات
عزيزتي
الرياضية
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved