Sunday 22nd August, 1999 G No. 9824جريدة الجزيرة الأحد 11 ,جمادى الاولى 1420 العدد 9824


دونكيشوت سرفانتس
نظرة جديدة إلى الشخصية الروائية

في الصفحة الأخيرة من رواية (دونكيشوت) التي كتبها الاسباني سرفانتس (1547 1616) يعلن المؤلف ان لديه هدفا واحدا: الكشف عن مغامرات الفارس التي بدأت بالترنح والتداعي، وستسقط بلا شك لتنهض ثانية.
واذا أخذنا هذه الكلمات بمعناها الحرفي (مع أن على المرء ألا يفهم الأشياء بصورة حرفية في هذا الكتاب الصعب الفهم)، تبدو الرواية ذروة تهكمية بالنسبة للأدب الذي سبقها: الخرافي، الاسطوري، الخيالي، والبطولي, غير انه من المحتمل أن ينظر الروائي المعاصر في أفق ومنظور أربعة قرون، الى هذا الكتاب ليس باعتباره ذروة وإنما على العكس بداية أو نقطة انطلاق في فن جديد هو فن الرواية.
ما من أحد يتحكم بعواقب أفعاله، ولم يكن سرفانتس يدعي لنفسه مجد المؤسس، فقد كان ينتمي الى عصره، وفي قدرة مخيلته، وفي دوافعه، وموضوعاته، وأماكنه، وشخصياته، كان منغمرا في التقاليد الأدبية التي كانت سائدة حتى ذلك الحين, غير انه نفخ في هذا الكتاب معنى جديداً، ويعود السبب ببساطة الى انه لم يأخذ تلك التقاليد على محمل الجد, فالشخصية الرئيسية في روايته رجل مجنون يعتقد انه بطل تقليدي تماما,, ألفونسو كويجادا ريفي فقير قرر ان يكون فارسا مغامرا اسمه دونكيشوت دي لامانشا, ونرى الحقيقة الأساسية لوجود بطل الرواية مجسدة في إرادته في أن يكون ما ليس عليه، وهو الأمر الذي يتسم بعواقب جمالية بالنسبة لهذه الرواية التي لا شيء فيها يقصد به أن يؤخذ بجدية, ومن أجل ايضاح هذا الأمر للقارىء يشير سرفانتس الى ان مغامرات دونكيشوت كتبت أساسا بالعربية على يد مغربي، وان روايته هي مجرد ترجمة تقريبية لنص لا يستطيع ان يشهد على صحته، فالمغاربة حسب سرفانتس دجالون وحالمون ولهذا يتعين علينا ان لا نفاجأ بأية تناقضات في عرض الأحداث والشخصيات, انه لا يهتم كثيرا بجعل قصته مقبولة أو جديرة بالتصديق، بل يريد أن يسلينا ويدهشنا.
وعندما ظهر الجزء الأول من الكتاب عام 1605 خلق انطباعا عظيما، وفي الجزء الثاني تولدت لدى سرفانتس فكرة استثنائية: الشخصيات التي يلتقيها دونكيشوت تميزه كبطل للكتاب الذي قرأته, وبوسعها أن تناقش مغامراته الأولى معه، مثلما بوسعه أن يعلق على صورته الأدبية ويعيد النظر فيها, انها لعبة انعكاس في المرآة لم يرها أحد من قبل، لعبة كان يدفعها حدث آخر غير متوقع: فقبل أن يكمل سرفانتس الجزء الثاني ألحق كاتب آخر غير معروف حتى اليوم هزيمة به بنشر تكملته الخاصة لمغامرات دونكيشوت! وعندما نشر سرفانتس نفسه الجزء الثاني من روايته عام 1615 أدخل عددا من التلميحات الانتقامية المتسمة بالازدراء للكاتب المنتحل، واضعا بذلك مرآة أخرى في روايته, فبعد مغامراتهما التعيسة يلتقي دونكيشوت وتابعة سانشو، في طريق عودتهما، بشخصية دون ألفارو، الذي يندهش عند سماعه باسميهما، فهناك بالنسبة له، دونكيشوت آخر، وسانشو آخر يعرفهما عن قرب, وهذا دليل آخر على قلق الأشياء، والارتباك الذي يحدث، وجها لوجه بين الشخصيات وأشباحها وبدائلها.
وفي الواقع ما من شيء مؤكد في هذا العالم,, لا هوية الأشخاص، ولا هوية الأشياء, ففي أحد المشاهد نجد دونكيشوت وهو يأخذ طست حلاق اعتقادا منه بأنه خوذة, وفي وقت لاحق يأتي الحلاق، مصادفة، الى حانة حيث دونكيشوت ومجموعة من الناس، فيرى طسته ويتجه لاستعادته, لكن دونكيشوت الساخط يرفض أن يعتبر خوذته مجرد طست حلاق, وعلى نحو مفاجىء يتحول جوهر هذا الشيء البسيط ذاته الى سؤال: كيف يمكن للمرء البرهنة على ان طست حلاق يوضع على الرأس ليس خوذة؟ المجموعة العابثة الموجودة في الحانة تلمح الى المعيار الموضوعي الوحيد لتقرير الحقيقة: التصويت السري, يشارك كل الحاضرين، والنتيجة جلية: الاعلان عن الطست باعتباره خوذة! فهل كان ذلك الاقتراع السري الكلاسيكي، الذي جرى منذ زمن بعيد جدا في حانة سرفاتش، نموذجا لاستطلاعات الرأي في عصرنا؟!
من المعروف ان الضحك ظل جزءا من الحياة الإنسانية منذ فجر التاريخ, و في هذا الكتاب نسمع الضحك آتيا إلينا من الأعمال الساخرة في العصور الوسطى, فعلاوة على هذا النوع من الكوميديا فارس يرتدي طست حلاق باعتباره خوذة نجد نوعا مختلفا واكثر براعة في هذه الرواية، حيث يقوم رجل ريفي كريم يعيش مع ابنه الشاعر بدعوة دونكيشوت الى بيته, فيكتشف الابن الأكثر براعة من أبيه ان الضيف رجل مجنون, ولكن دونكيشوت يدعو الشاب الى انشاد الشعر، فيسرع الشاب في قبول دعوته، ويثني دونكيشوت ثناء بليغا على موهبته, فيشعر الابن بالسعادة بسبب ذلك الثناء، وسرعان ما ينسى جنون الضيف, فمن هو أكثر جنوناً إذن؟ الرجل المجنون الذي يثني على الرجل العاقل، ام الرجل العاقل الذي يثق بثناء الرجل المجنون؟ هذا هو النوع الآخر من الكوميديا، الأكثر براعة وقيمة, فنحن نضحك ليس لأن أحدا جرت السخرية منه، وإنما لأن العالم يظهر نفسه فجأة في غموضه، وتفقد الأشياء معناها الواضح، ويجري الكشف عن اختلاف الناس عن الطريقة التي فكروا بها بأنفسهم, ويبدو ان هذه الكوميديا الجديدة، المزاج الفكه، ابتكار عظيم على حد تعبير اوكتافيو باث، ابتكار مرتبط بميلاد الرواية، وبسرفانتس على وجه الخصوص,ان حب دونكيشوت لدولسينة نوع من الكوميديا، فهو واقع في حب امرأة لم يرها الا بشكل عابر، فقط لأن الفارس الجوال يجب ان يكون هكذا كما يقول هو نفسه, وفي مشهد مؤثر يقوم دونكيشوت بإرسال سانشو الى بيت دولسينة ليصف لها عمق مشاعر دونكيشوت تجاهها, فكيف يمكن للمرء ان يقيم الدليل على عمق مشاعره؟ وماذا يعني حب امراة لا يعرفها المرء؟ هل هو مجرد تصميم على الحب، أو حتى مجرد تقليد؟ ان ستار حب دونكيشوت لدولسينة يتمزق، لينفتح فضاء هائل حيث كل المواقف والحالات والمشاعر الإنسانية تصبح ألغازا وجودية,لقد أراد البائس الفونسو كويجادا ان يكون فارسا جوالا، فيرفع نفسه الى منزلة شخصية أسطورية, وقد حقق سرفانتس التأثير المعاكس، فقد نقل الشخصية الاسطورية الى عالم النثر، الذي لا يعني اللغة غير المنظومة شعرا فقط، وإنما أيضا طبيعة الحياة اليومية الحسية, غير ان النثر ليس الجانب المؤلم، او المتبذل، انه أيضا جمال ظل مغفلاً حتى ذلك الحين: جمال المشاعر المتواضعة كالصداقة الحميمة التي يشعر بها سانشو تجاه سيده، وهي احدى اكتشافات سرفانتس للجمال النثري الجديد.
ولمرات عدة في روايته يدون سرفانتس قوائم طويلة من الكتب حول الفروسية, انه يذكر عناوينها لكنه يغفل أسماء مؤلفيها, فالاحترام للمؤلف وحقوقه الأخلاقية لم يكن قد نشأ بعد, ولكن عندما يعرف ان كاتبا آخر انتحل شخصياته ينشأ لديه رد فعل مثلما يفعل كاتب في عصرنا: غضب المبدع الفخور بمخلوقاته: من أجلي فقط ولد دونكيشوت، ومن أجله ولدت, إنه يعرف كيف يتصرف، وأنا أعرف كيف أكتب, لقد ارتبط مصيرنا معا , وتلك هي الميزة الأساسية للشخصية الروائية: كائن فريد لا يضاهى، لا ينفصل عن مخيلة أصيلة لمؤلف فريد لا يضاهى, وقبل ان يكتب سرفانتس لم يكن لأحد أن يتخيل دونكيشوت, انه المفاجأة ذاتها وبدون سحر المفاجأة لم يكن ممكنا تصور شخصية روائية عظيمة (ولا رواية عظيمة) في ذلك الحين,لقد ظلت (دونكيشوت) باعتبارها تأسيسا للرواية، تثير، حتى الآن، الجدل والتفسير المتباين, ويبدو ان تجديد سرفانتس بحاجة دائمة الى إعادة تقييم, فنحن نتذكر مثلا، ان دونكيشوت يوضح لسانشو ان هوميروس وفرجيل لم يصفا الشخصيات كما كانت في الواقع بل كما ينبغي أن تكون، لتؤدي دور نماذج الفضيلة للأجيال اللاحقة , لكن شخصيات الرواية، بالنسبة لسرفانتس لا تحتاج إعجابا بفضائلها، بل فهم الآخرين لها، وهذا شيء مختلف تماما, ان أبطال الملاحم ينتصرون واذا ما انهزموا فانهم يحتفظون بعظمتهم حتى النفس الأخير, اما دونكيشوت فمهزوم بدون أية عظمة على الاطلاق, فالحياة الإنسانية، بحد ذاتها هزيمة، وما علينا في مواجهة الهزيمة التي تتعذر مقاومتها، إلا ان نحاول فهمها، وذلك هو مبرر وجود الرواية.
رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الثقافية
الاقتصـــادية
المتابعة
منوعــات
تقارير
عزيزتي
الرياضية
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved