* القاهرة مكتب الجزيرة - باهر حسين وريم الحسيني
يرسم ضباب الحرارة المتوهجة على مرتفعات الطريق المتجه جنوبا عبر صحراء النقب خيالات فضية عملاقة تبدو كما لو كانت تطفو فوق الأرض مباشرة وعند فحصها عن كثب تصبح الأشكال الأكثر وضوحا انها بالونات عملاقة كل منها عاليا رادارا بعيد المدى كجزء من نظام للإنذار المبكر دخل الخدمة منذ أوائل التسعينيات,, هذه الصورة تبدو وكأنها إشارة الدخول للقوات الدفاعية الإسرائيلية التي اصبحت تمثل في أصولها مزيجا بين القديم والجديد او توليفة بين التكنولوجيا الأكثر تطورا والقيم المؤسسة للدولة اليهودية.
وفي دراسة عن السياسة الدفاعية الإسرائيلية في مفترق طرق استراتيجي كتبها جوناثان ماركيوس وهو مراسل عسكري ومحلل الشؤون الامريكية لدى الخدمة العالمية الإذاعية والتلفزة بهيئة الإذاعة البريطانية بلندن صادرة عن المركز العربي للدراسات الاستراتيجية مؤخرا أكد فيها ان القوات المسلحة الاسرائيلية قد ضربتها على مدى الشهور الثمانية عشر الماضية مجموع من الحوادث والنكبات التي اثارت افتراضات حول وجود مرض أكبر واثيرت مشكلات أكثر جوهرية في مجال الأمن القومي.
وقد اغتنمت وسائل الإعلام المحلية والأجنبية كل هذا لتثير السؤال عما اذا كان الجيش الاسرائيلي قد أصبح رخوا وكان أحد عناوين جريدة ديلي تليجراف اللندنية,, الصواريخ اللبنانية تكشف خللا في الدبابة الاسرائيلية المتطورة.
ويؤكد الباحث في دراسته ان البيئة الاستراتيجية التي يواجهها صانعو القرار الإسرائيلي اصبحت أكثر تعقيدا على أثر التطورات الأخيرة والحوادث والنكبات التي تعرض لها الجيش وكذلك اصبحت معقدة لأنها تشتمل على السلام مع الأردن ومصر وإن يكن فاترا ، وخطر تجدد الأعمال العدائية مع سوريا وجرح لبنان الراهن، وهذا التعقيد هو الذي يعوق بقدر كبير الاستخدام المتسق للقوة العسكرية كما كان في الماضي.
وتضيف الدراسة أن إسرائيل ككل تمر بمرحلة غير مسبوقة من التغيير الاجتماعي والاقتصادي والجيلي وسيتعين إعادة تشكيل العقائد القديمة كما ستشهد قوات الدفاع الإسرائيلية تحولا عميقا.
التهديدات
وعن التهديدات التي تواجهها القوات العسكرية الاسرائيلية في الجبهة الشمالية تشير الدراسة الى ان إسرائيل ربما تكون في سلام مع معظم الدول المجاورة لكنها لا تزال في مواجهة مع سوريا في هدنة غير مريحة عبر مرتفعات الجولان، لقد كتب الكثير حول قيمة هذه الهضبة الاستراتيجية التي تمتد لنحو 80كم من الشمال الى الجنوب و25 كم في أوسع نقاطها وعلى رغم ما يقال انه في عصر الصواريخ فإن الأسلحة بعيدة المدى قد قلصت من القيمة التقليدية للأرض ومن العمق الاستراتيجي إلا انه بالنظر الى عقيدة إسرائيل المستمرة منذ فترة طويلة والخاصة بالاعتماد على قوة الزامية صغيرة من المجندين من أجل التمسك بالخط الدفاعي بينما تتم تعبئة الاحتياط بسرعة فإنه لا يزال للأرض فائدة استراتيجية كبيرة فهذه الأرض تعطي وضعا متميزا لا يمكن تقدير قيمته بالنسبة للإنذار والمراقبة وتمارس قوات الدفاع الإسرائيلية عملية رصد متقدمة مع وجود ما يقرب من فرقة مدرعة منتشرة على الأرض.
ويؤكد الباحث انه رغم هذا فإن القوات السورية تستطيع شن هجوم خاطف من أجل الاستيلاء على الأرض وهذا الاعتقاد يسود كثيرا لدى إسرائيل وان ما يجعل الخطر الآتي من دمشق أكثر إلحاحا هو تطوير سوريا لقوتها الصاروخية بعيدة المدى, ويضيف الباحث أن إسرائيل واحدة من بلدان قليلة في العهود الحديثة التي تعرضت لهجوم بالصواريخ الباليستية وفي هذه الحالة من صواريخ سكود العراقية أثناء حرب تحرير الكويت ورغم ان صواريخ سكود اوقعت خسائر قليلة فقد كان لها تأثير عميق على الرأي العام الاسرائيلي.
اما عن جنوب لبنان فيذكر الباحث انه خلال الأشهر الثمانية عشر الماضية أثار الوجود العسكري الاسرائيلي المستمر داخل لبنان نقاشا حادا ومريرا في بعض الأحيان نقاشا يقوده فرضية ثابتة من الخسائر وهو بحد ذاته انعكاس للتورط الأكبر للقوات الدفاعية الاسرائيلية وترقى التحديات التي تواجهها في لبنان الى مستوى الاجهاد الهائل للقوة البشرية ولموارد قوات الدفاع الإسرائيلية.
وتشير الدراسة الى ان تجدد اندلاع العنف الخطير في الأراضي المحتلة يمثل تهديدا آخر يجب على قوات الدفاع الاسرائيلة ان تتعامل معه فالاضطرابات واسعة النطاق قد تنشأ عن حادث محلي قد يطلق شرارته إما من الاحباط من فشل عملية السلام او ربما حدث من تدبير وإدارة السلطة الفلسطينية لفرض ضغط أكبر على كاهل الحكومة الاسرائيلية، وسوف تتعقد أي مواجهة بين قوات الدفاع الإسرائيلية والفلسطينيين في المستقبل نتيجة لوجود قوات أمن فلسطينية مسلحة.
المساعدات الأمريكية والمتغيرات الداخلية
وحول المساعدات العسكرية الامريكية لإسرائيل تشير الدراسة الى انه تجري ببطء عملية إعادة التوازن لهذه العلاقة على الرغم من المستوى غير المسبوق للروابط بين إسرائيل والولايات المتحدة والمؤثر الأكثر وضوحا على ذلك هو النقاش المتنامي حول مستقبل المساعدات والتحويلات الامريكية فالعون الأمريكي حاسم بالنسبة لمجهود إسرائيل الدفاعي والمساعدة العسكرية التي تبلغ 1,8 بليون دولار والتي تذهب كل عام لإسرائيل تمثل جانبا واحدا فقط من الدعم الامريكي لميزانية الدفاع الإسرائيلية، وفي الوقت الذي ترغب فيه إسرائيل تزايد المعونة فإن المعونة الأمريكية تتقلص ببطء وينبع ذلك من الانتباه الى ان المواطنين الاسرائيليين يحصلون على مزايا ومنافع لا توفرها أموال الضرائب الأمريكية للمواطنين الأمريكيين، كذلك اتجاه التفكير الأمريكي بأن الشرق الأوسط لم يعد مسرحا للتنافس وللولايات المتحدة مصالح أخرى وخاصة في الخليج.
وعن المتغيرات الداخلية تذكر الدراسة ان اعتماد إسرائيل منذ فترة طويلة على نظام التجنيد المدعوم بالتعبئة السريعة لألوية الاحتياط قد نظر إليه باعتباره ينشىء جيشا هو بدرجة كبيرة انعكاس للبلد الذي يخدمه، وهذه النظرة للقوات الدفاعية الإسرائيلية باعتبارها قوة توحيد كبرى كانت دائما اسطورة في جانب منها فمواطنو إسرائيل العرب ومعظم المجتمع اليهودي الارثوذكسي المتطرف لا يجبدون بشكل عام ويسعى عدد متنام من اليهود الارثوذكس للاعفاء من الخدمة العسكرية بتزايد، كذلك فإن فشلهم في المساهمة في الدفاع الوطني يصبح مثيرا أكثر للغالبية العلمانية في إسرائيل- وتضيف الدراسة ان الوفرة المتزايدة والحياة الأيسر ساهمت في تقليص عدد الشبان الإسرائيليين المستعدين لأن يتطوعوا لوحدات القتال المنتخبة وطبقا لبعض التقديرات فإن نصف سكان إسرائيل فقط سيجتازون الاختبارات التقليدية للالتحاق بالخدمة العسكرية بحلول عام 2000م.
وتشير الدراسة الى أن هذا الاتجاه هو انعكاس لعملية التزايد المستمر لسكان إسرائيل فهناك تجمع أكبر من المجندين يمكن السحب منه ومع كل محاولة تتخذ لتقليل النفقات غير الضرورية فإن قوات الدفاع الإسرائيلية ستكون أكثر قدرة على اختيار أولئك الذين ينضمون الى صفوفها وتعني العوامل نفسها كذلك أن الطلب على الاحتياط في وقت السلامة يتراجع على نحو غير مسبوق ويقدر ان 90% من العبء يلقى على نسبة تتراوح بين 25% و70% من تجمع القوى البشرية المتاح.
والجدير بالذكر في هذا السياق ان عدد سكان إسرائيل يبلغ الآن نحو ستة ملايين نسمة وقد أفضى الثراء المتزايد وعملية السلام وبمرور الوقت الى مجتمع هو اليوم أكثر فردية وأكثر استعدادا لأن ينتقد المؤسسات والقيم الموروثة من سنوات الدولة اليهودية البطولية وحصلت قوات الدفاع الاسرائيلية كواحدة من المؤسسات الوطنية الرئيسية على نصيبها من النقد.
الدرع ينهار
وتخلص الدراسة الى ان اسرائيل نظرت بشكل تقليدي الى سياستها الدفاعية بعبارات عسكرية كبيرة باعتبارها درع داود الذي يحمي الدولة اليهودية والقوة العسكرية سوف تصبح عنصرا واحدا فقط في استراتيجية الأمن القومي للدولة، فالدبلوماسية أو فن الحكم ستطلع بدور تزداد أهميته بينما قدرة إسرائيل على نشر قوة عسكرية باستثناء حالة الطوارىء الأكثر رعبا ربما تكون محدودة او مقيدة وكذلك مع تغير المضمون الدولي، البيئة الدولية، وتداخل اعتبارات السياسة الخارجية للولايات المتحدة ربما يصبح أكثر صعوبة الاحتفاظ بطابع الاكتفاء الذاتي للبعد الأمني في الشراكة الفريدة بين واشنطن وإسرائيل.
|