Thursday 19th August, 1999 G No. 9821جريدة الجزيرة الخميس 8 ,جمادى الاولى 1420 العدد 9821


المخابرات التكنولوجية والعلاقات الأمريكية الصينية

يطلق على أجهزة المخابرات باللغة الانجليزية تعبير Intelligence وهي الكلمة المرادفة في اللغة العربية لكلمة الذكاء، والصراع بين اجهزة المخابرات وهو صراع دائم ومستمر، هو صراع عقول وذكاء، فعمل هذه الأجهزة - في جوهره - يتعلق بجمع المعلومات وتنظيمها وتحليلها واستقراء ما قد تفصح عنه من مؤشرات او اتجاهات ثم الوصول الى الاستنتاجات المترتبة على ذلك، هذه المعلومات قد تكون ذات طابع: اقتصادي، او سياسي، او صناعي، او ثقافي، وقد تبدو معلومة ما تافهة، او غير ذات معنى محدد ولكن عندما توضع في سياق اكبر او يتم الربط بينها وبين مجموعة من المعلومات الأخرى القادمة من مصادر مختلفة، علنية وغير علنية فان دلالتها تتضح.
وفي هذا الاطار تعد عمليات التجسس الصناعي والتكنولوجي من اهم مجالات النشاط التي تقوم بها اجهزة المخابرات تجاه الدول الأخرى بغض النظر عن نوع العلاقة التي تربط هذه الدولة بالدول الأخرى، وليس صحيحاً ان الدول الصديقة او حتى الحليفة لا تمارس اعمال المخابرات ازاء بعضها البعض, ومن ابرز الأمثلة على ذلك نشاط جهاز المخابرات الاسرائيلي في الولايات المتحدة، وكذا نشاط اجهزة مخابرات الدول الصناعية المتقدمة تجاه بعضها البعض في المجالات المتعلقة بالصناعة وجمع المعلومات عن مجالات التطوير الاداري او اساليب التسويق او الكشف عن ابتكار تكنولوجي ما، يمكن ان يعطي لصناعة احدى الدول ميزة تنافسية تجاه الدول الاخرى.
ويدخل في هذا المجال حماية حقوق الملكية وبراءات الاختراع، والتي اصبحت احد العناصر الرئيسية في اتفاقيات الجات ونشاط منظمة التجارة الدولية وعندما يحدث تعاون تكنولوجي او نقل للتكنولوجيا من دولة الى اخرى فان ذلك يكون عادة مرتبطاً بمجموعة من الشروط التي تحول دون نقل تلك المعلومات الى طرف ثالث, ويعطي للدولة المصدرة للانماط التكنولوجية المتقدمة حق التأكد من استخدام الدولة الأخرى لتلك الأنماط، وفقا للشروط المتفق عليها, فعلى سبيل المثال فانه في حالة بيع الولايات المتحدة للأنواع المتقدمة وعالية الكفاءة من الحاسبات الآلية فانها تشترط التأكد من نشاط الهيئة المشترية وطبيعة الاستخدام ومكان وضع الجهاز بل احياناً ما يقوم احد اعضاء سفارتها بالتأكد من صحة هذه المعلومات وذلك خوفا من ان تستخدم هذه الأجهزة في غير الغرض المتفق عليه، وخصوصاً فيما يتعلق بالاغراض العسكرية,.
في هذا السياق ثار جدل كبير لفترة بين الولايات المتحدة واسرائيل بشأن الاتهام الذي توجهه المخابرات الامريكية لاسرائيل بنقل معلومات تكنولوجية للصين بشكل غير قانوني، ويتعلق هذا الاتهام بالمشروع الامريكي/ الاسرائيلي المشترك، والذي استمر لعدة سنوات في الثمانينات لصنع طائرة نفاثة متقدمة سميت بالطائرة لافي (الأسد باللغة العبرية).
وعكس هذا المشروع رغبة الادارة الامريكية في تزويد اسرائيل بالقدرة العلمية والتكنولوجية على بناء طائراتها النفاثة المقاتلة، لذلك قامت الولايات المتحدة بتمويل 90% من نفقات المشروع، وتم اختيار طائرة فانتوم - 16 لكي تكون الأساس لتطوير الطائرة الجديدة وقد اختير هذا النمط من الطائرات بسبب قدراتها القتالية العالية والتي تتمثل في المناورة الفائقة واتساع دائرة القتال ودقة التصويب والقدرة على تحديد الأهداف في ظل كل الظروف المناخية وكذا القدرة على تحديد الطائرات التي تقوم بالطيران على ارتفاع منخفض.
وفي عام 1987 وبعد انفاق حوالي 1,5 بليون دولار توقف هذا المشروع وامتنعت وزارة الدفاع الامريكية عن تقديم اموال جديدة وذلك بعد ان كان قد تم بناء نموذجين فعليين للطائرة، ولم يعد احد يتحدث عن هذا الموضوع منذ ذلك الوقت وطواه النسيان، وفجأة رصد احد اقمار التجسس الامريكية، التي تغطي الصين، وجود مجموعة من الطائرات على ممرات بعض المطارات المخصصة لاختبار النماذج الجديدة من الطائرات وبتصوير هذه الطائرات وتحليل مواصفاتها تبين لوكالة المخابرات المركزية الامريكية انها تماثل نموذج الطائرة لافي بالضبط وكان التفسير المنطقي لذلك هو ان اسرائيل قد قامت بنقل التفاصيل الهندسية والفنية المتعلقة بانتاج هذه الطائرة الى الصين.
فخلال حقبة الثمانينات طلبت الصين اكثر من مرة من الولايات المتحدة شراء طائرات فانتوم - 16 الامر الذي رفضته واشنطن، فمن وجهة النظر الامريكية يمثل امتلاك الصين لهذا النوع من الطائرات دفعة متميزة لقدراتها العسكرية في سلاح الطيران ويغير من توازن القوى الاقليمي، وذلك اذا ما قورنت القدرات القتالية للطائرات الصينية الحالية (والتي هي تطوير لطائرات الميج السوفيتية) بتلك التي تمتلكها الطائرة الجديدة خاصة ان الصين سوف تتمكن من انتاج اعداد كبيرة من هذه الطائرة بحيث تصبح جزءاً مؤثرا من سلاح طيرانها فضلاً عن امتلاكها القدرة الفنية لتطويرها فيما بعد.
وهذه العلاقات الاسرائيلية / الصينية في المجال العسكري ليست جديدة تماماً وانما ظلت مشوبة بالغموض ومحاطة بالتكتم والسرية فبعض المصادر الغربية ترى ان العلاقة الاسرائيلية مع الصين تعود الى منتصف الثمانينيات وان التعاون العسكري بين البلدين يشمل عدة مجالات مثل: الالكترونيات المتقدمة وتصنيع الصواريخ والتكنولوجيا النووية.
واثارت الاشارة الى التعاون في مجال الصواريخ مخاوف متزايدة لدى الامريكيين بسبب ارتباط ذلك بمشروع امريكي/ اسرائيلي آخر، وهو مشروع انتاج الصاروخ آرو السهم وهو الصاروخ الذي يقوم باعتراض الصواريخ الأخرى وتدميرها في الجو من ناحية اخرى فان وزارة الدفاع الاسرائيلية لم تنكر ابداً وجود تعاون عسكري مع الصين ولم تنكر ايضا ان هذا التعاون يشمل انتاج طائرة عسكرية متقدمة، ولكنها انكرت دوماً وجود اي علاقة بين هذا التعاون ومشروع الطائرة لافي.
ويبدو ان اجهزة الاستخبارات الامريكية لديها التفاصيل الكاملة عن خبايا التعاون الاسرائيلي/ الصيني, ولكن ظروف التوازن السياسي الداخلي في امريكا تحول دون اثارة هذا الموضوع على نحو صريح ومباشر وتكفي الاشارة الى ما ورد في شهادة جيمس وولسي مدير وكالة المخابرات المركزية الاسبق امام الكونجرس عندما ذكر ان حجم التعاون العسكري بين الصين واسرائيل هو ضخم للغاية واتهم الحكومة الاسرائيلية بارسال معلومات ومنتجات تكنولوجية - بشكل غير قانوني - الى الصين، مؤكداً ان الصين حصلت من جراء ذلك على تكنولوجيا لا يرغب الغرب في حصولها عليها، وان هذا التعاون استمر لسنوات وبلغت قيمته بلايين الدولارات.
الا ان هذه الشهادة الرسمية من المسؤول الأول لجهاز المخابرات الامريكية لم تكن كافية لاحداث ازمة في العلاقات الامريكية/ الاسرائيلية او لقيام الولايات المتحدة باتخاذ اجراءات اقوى لمنع انتقال معلومات تكنولوجية جديدة الى الصين، وعاد الموضوع الى البروز في الصحافة الأمريكية ولكن من زاوية اخرى وهي احتمالات وجود تأثير صيني في دوائر الحكم في امريكا على اعلى المستويات، ويدعم ذلك الحديث عن التبرعات الكبيرة التي قدمتها شركات امريكية/ صينية للحزب الديمقراطي خلال الحملة الانتخابية وقد اشارت بعض التعليقات الى ان جزءاً من تلك التبرعات ارتبط باسماء شخصيات صينية على علاقة وثيقة بأجهزة الأمن والدفاع في الصين، وتصنيف ان ذلك هو ما يفسر الاستمرار في منح الصين صفة الدولة الاولى بالرعاية ثم جاء تقرير اللجنة الخاصة التي شكلها الكونجرس لبحث الاختراق الصيني لعدد من معامل البحوث المتقدمة في امريكا ليعطي دليلاً اضافياً على سعي الصين الحثيث للحصول على اسرار التكنولوجيا العسكرية المتقدمة.
وكم في السياسة من الالغاز والاحاجي! وما اكثر ما تكون الحقائق بعداً عن المعلن في ادوات الاعلام، وتزداد تلك الفجوة عندما يتصل الأمر باعمال المخابرات وقضايا الامن، فهذه الاجهزة تعمل اساساً في الخفاء، ولا تحرص على الاعلان عن انتصاراتها او انجازاتها لان ذلك قد يكشف للخصوم عن مصادر معلوماتها واسلوب حركتها.
وفي عالم تتزايد فيه اهمية الاعتبارات الاقتصادية فان اجهزة المخابرات يزداد نشاطها في هذا المجال، اذ لم يعد ما تهتم به هو المعلومات العسكرية او مناورات الجيوش وحسب، وانما هي تهتم بنفس القدر بالتطور التكنولوجي وبخطط التطوير الصناعي، وبجهود تطوير التعليم ومجالاته، وبكل ما من شأنه ان يؤثر على قوة الدولة في علاقتها بالدول الأخرى.
د, عليّ الدين هلال

رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
فنون تشكيلية
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
المتابعة
منوعــات
تقارير
عزيزتي
الرياضية
تحقيقات
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved