Friday 6th August, 1999 G No. 9808جريدة الجزيرة الجمعة 24 ,ربيع الثاني 1420 العدد 9808


الجزيرة تفتح كتاب التقدير والعرفان
التلاميذ الكبار يهدون ورود التقدير للأساتذة الكبار أيضاً
د, عبدالغفار مكاوي يتحسر على فساد المناخ

استطلاع: شريف صالح
الإنسان القدوة ليس علماً فحسب، إنه علم وأخلاق موقف نبيل، عطاء بلا حدود وبلا مقابل، ويعرف قيمة الوفاء التي توشك أن تغيب وسط ايقاع العصر السريع وفي محاولة لشد خيوط المحبة بين الأجيال تبادر شرفات بفتح مساحة وردية يتلاقى فيها المثقفون والفنانون بأساتذتهم القدوة يحملون اليهم مشاعر الحب والعرفان ولا تقتصر هذه المساحة على مجرد كلمات الحب والتقدير والعرفان بل سعت شرفات بالأساس إلى اكتشاف اسباب عدم تواصل الأجيال وسر مرض عدم الوفاء الذي تفشى في واقعنا.
فسد المناخ ياسيدي
بمجرد أن سألنا الدكتور عبدالغفار مكاوي عن أستاذه، تذكر على الفور الراحل زكي نجيب محمود، وقال إنه كان يأتي يومياً في الصباح، في الثامنة إلا خمس دقائق بالضبط، فأتجه إلى مكتبه لأعطيه قصة لي أو قصيدة، وكان يتعامل بأبوة حانية، ثم يضيف: وأتذكر أنه اصطحبني في يوم من الأيام في شقته القريبة من جامعة القاهرة، ومشينا معاً، وكنا نتحدث عن قصيدة اليوت الرجال الجوف المنشورة في آخر أعداد مجلة الرسالة الجديدة، وبعد أن صعدنا إلى شقته، دخل أستاذي بنفسه يعد لنا الشاي وتركني استمع إلى مقطوعة موسيقية اسبانية، وأثناء تناول الشاي رحنا نتكلم معاً ببساطة، وراح الأستاذ يسألني عما أنويه في المستقبل، ويحذرني من خجلي الريفي الزائد، ثم قال لي: لابد أن تحسم أمرك: هل تريد أن تكون عالماً أم أديباً؟
ويصمت الدكتور مكاوي قليلاً ثم يقول: تعلمت منه كيف أتذوق اللغة العربية وكيف أترجم وكيف أحترم العلم والعلماء,, ثم يصمت الرجل مرة أخرى، وفي هذه المرة يتنهد بحسرة وأسى قائلاً: فسد المناخ المناخ ياسيدي,, لم يعد هناك الأستاذ الذي يعطي دون أن ينتظر شيئاً، ولا أدري لماذا يمسك التلميذ بالثانوي سكيناً لأستاذه؟!
ولماذا يشهد المعيد زوراً ضد استاذه؟ هذه أجواء لا افهمها، واضطررت بسببها إلى الاستقالة من الجامعة والتفرغ للكتابة كما اضطر غيري إلى الهجرة خذ مثلاً استاذنا الدكتور عبدالرحمن بدوي، لقد هاجر خارج الوطن، وعاش في أوروبا حيث الجو الملائم، بعكس الجو لدينا الذي أصبح يخلو حتى من الكلمة الطيبة، هو هناك يعمل بدأب وأصبح واجهة مشرفة للعروبة كحضارة وثقافة، في حين أن الأمة العربية تعاني حالياً من العجز عن الحب، وتتعامل مع النابهين من أبنائها بإحدى طريقتين,, إما بسياسة الاحتواء وإما باضطهادهم حتى ينعزلوا أويهاجروا وهذا هو سر التآكل الذي تعاني منه الأمة.
هل هو عجز أمام حضارة الغرب؟ هل هو استنفاد حضارتنا لأسبابها ولماذا الإجحاف بالأساتذة؟ هناك أنواع كثيرة من التقدير، اقلها أن يقتفي أحد التلامذة أثر أستاذه,, بدون هذا التقدير تصبح الحياة مستحيلة، فحتى الإنسان العادي يحتاج إلى التقدير من زوجته,, من أبنائه,, وهذا التقدير والوفاء لا يعني عدم الاختلاف مع أساتذتنا، من حقنا أن نختلف معهم لأن تجربتهم في نهاية المطاف تجربة إنسانية، والأستاذ الحقيقي يسعد باختلاف تلميذه وبنبوغه، ولكن لا أحد يسعد بأن يكون جزاء الأستاذ من تلميذه هو الجحود والتطاول بدلاً من التقدير والعرفان.
الحياة: أستاذ وموقف
وانتقلنا بالقضية إلى الشاطىء الآخر، إلى المرأة المبدعة، الروائية والصحفية بهيجة حسين، ترى أن هناك صعوبة في اختيار أستاذ واحد، وبعد تفكير طويل تقول: سأتكلم عن ثلاث نساء ورجل,, هؤلاء الأربعة لهم مني دائماً باقة من ورود التقدير والعرفان,, وتبدأ كلامها السيدة روزا اليوسف أو فاطمة اليوسف، تلك الفنانة المسرحية التي انشأت مؤسسة صحفية عريقة ووضعت قيمة لمهنة الصحافة، ولحرية الصحافة، وتحكي بهيجة حسين كيف انتقدت فاطمة اليوسف سياسة حزب الوفد، وكيف قامت المظاهرات ضدها، وقذفت المؤسسة بالطوب والحجارة، لكنها صمدت وهي امرأة وبمفردها! وتؤكد بهيجة حسين أنها كلما شعرت بالهزيمة تقاوم باستدعاء صورة تلك المرأة، وتقول في نفسها: لا أريد أن اخذل روز اليوسف.
ثم تتطرق في الكلام إلى إحساسها بالأديبة من زيادة، هذا النموذج اللامع للمرأة الحقة، التي أعلت من قيمة حريتها بالحفاظ على تلك الحرية بقيمها النبيلة في مواجهة تخلف المثقفين الرجال، وماشاب سلوكهم من غمز ولمز، وكذلك في مواجهة اتهام أسرتها لها بالجنون بسبب صراع على الميراث.
ومن افق التاريخ تستدعي بهيجة حسين امرأة من الثورة الفرنسية تدعى لويز ميشيل، التي دفعت حياتها في سبيل الخبز والأزهار لكل الفقراء، وتقول بمشاعر غامرة بالحب والعرفان انها تعلق في إطار أنيق إحدى كلمات لويز ميشيل لتكون نصب عينيها دائماً، ثم تتطلع إلى الكلمات وتقرؤها: إذا كان كل قلب خفق بالحرية ليس له نصيب سوى في رصاصة فإنى اطالب بنصيبي .
هكذا تعتبر بهيجة حسين نفسها مدينة لهؤلاء النابغات بمبدأ القوة من أجل الحرية، ورغم أنها لم تلتق بهن مباشرة إلا أنهن صاحبات دور كبير في تكوينها الصحفي والأدبي، وعندما اقترحنا عليها أستاذاً مباشراً لها، طرحت بدون تردد اسم الكاتب الصحفي صلاح عيسى، الذي كان مدير تحرير الأهالي، وهي في بداية المشوار تقريباً، فقد ساندها وعلمها كيف تكتب الخبر، وكيف تفجر من الخبر قضية، وكيف تكون باحثة جادة في كل ما تكتب، وتحكي أنها كانت تدخل عليه مكتبه إذا ما صادفتها أية صعوبة، فيقول لها دون أن يرفع عينيه مما في يده انه مشغول ولا وقت لديه حالياً، وحين تهم بالانصراف يناديها ويتفرغ لمناقشتها في أي مشكلة ومساعدتها في التغلب عليها.
وتؤكد الكاتبة انها حتى هذه اللحظة إذا ما احتاجت إلى شيء ترفع سماعة التليفون وتتصل به، وتحكي كيف ساعد في روايتها الأخيرة البيت في الحصول على معلومات عن مرض الكوليرا الذي تفشى في مصر في أواخر القرن الماضي، وراح يناقش معها الوباء وخجل الناس من المرض، وتعفير البيوت، والمعازل,, حتى تعايشنا تماماً في الحالة,, هكذا هو صلاح عيسى كما تصفه تلميذته بهيجة حسين: إنسان جاد وموهوب، وانها محظوظة بمعرفتها ولا تنسى كلمته دائماً لها ولزملائها بألا يخافوا من الإنسان الموهوب لأنه يساعد، أما الخوف الحقيقي فمن عديم الموهبة لأنه يؤذى.
فلاح من الشرقية وأستاذ إنجليزي
ويحكي الدكتور احمد شلبي أستاذ التاريخ الإسلامي بكلية دار العلوم عن تجربة خاصة في الوفاء، وذلك حين سافر شاباً إلى لندن لنيل درجة الدكتوراه من جامعة كمبردج الشهيرة، وكان كما يقول شبه فلاح وافد من مدينة الزقازيق إلى مدينة الضباب لندن، وهناك تعرف على الأستاذ آرثر آربري الذي كان يدرس له مادة البحث العلمي واصوله وتقاليده، فعلى يديّ هذا الأستاذ تعلم الطالب أحمد شلبي طرق البحث والاطلاع وكيفية النقد والمراجعة لما يقرأ ولا يزال يتذكر كيف كان الأستاذ آرثر آربري يتسقبله اسبوعياً كل يوم خميس لمدة ساعتين من الساعة الثانية إلى الساعة الرابعة، فيراجع ما كتبه في رسالته للدكتوراه، ويفتح معه العديد من القضايا للمناقشة، وكان رجلاً صبوراً قادراً على الاستماع ويفهم آراء الآخرين، وبفضل اشرافه حصل الدكتور أحمد شلبي على درجة الدكتوراه من جامعة كمبردج في موضوع تاريخ التربية عند المسلمين.
ثم يضيف أيضاً أن الأستاذ اربري كان واسع الاطلاع على الثقافة الإسلامية وخاصة التصرف وأئمته، وعلى رأسهم الإمام القشيري وقد ترجم إلى الإنجليزية العديد من مؤلفات التصوف الإسلامي وعلى المستوى الإنساني ظل الأستاذ والتلميذ يلتقيان أسبوعياً في نفس الموعد لمدة خمس سنوات وكان يترك له المكتبة بما فيها من مؤلفات جليلة لينهل منها الطالب كيفما شاء ويستعير ما يشاء منها، وفي مقابل هذه الحفاوة الإنجليزية أراد الدكتور أحمد شلبي أن يرد بحفاوة الشراقوة وكرمهم المعروف، وذلك عندما حصل على الدكتوراه وعاد إلى مصر للعمل بجامعة القاهرة وفد الأستاذ آربري واسرته الكريمة ضيفاً على تلميذه فاستقبله في بيته بالمعادي وكذلك في بيته بريف الشرقية حيث ذبح له خروفاً وأطعمه الفول المدمس، ويذكر أن الأستاذ آربري أبدى إعجاباً شديداً بالفول المدمس، ولم ينس الدكتور شلبي أن يخصص لضيفه سيارة تحت امرته في جولاته داخل مصر، ويؤكد انه قام بكل مافي وسعه رغبة في إكرام استاذه ووفاء له، وقد ظلت علاقة المودة والوفاء بينهما إلى أن رحل الأستاذ عن الحياة الدنيا تاركاً في نفس تلميذه شيئاً من الاسى وعرفاناً بالجميل لا ينتهي أبداً.
الأستاذ يرسم تلميذه
عندما واصلنا الاستطلاع كان الكثيرون يعتذرون إما لضيق الوقت أولارتباط بالسفر,, وربما اعتذر البعض لانه لا يجد استاذاً بعينه يستحق لمسة الوفاء!! الفنان الكبير بيكار بمجرد أن سألناه من من أساتذتك تذكره بالخير أجاب على الفور وبدون تردد احمد صبري هذا الفنان الكبير، الذي كان أحد رواد الفن التشكيلي في مصر، وتميز بالمهارة في رسم البورتورية ورسم الطبيعة الساكنة وليست الصامتة! حيث كان يرسم اللوحات الداخلية ولم يرسم مناظر خارج جدران المرسم، فالعالم الخاص به كان يرسمه داخل المرسم وهذا ما حببني فيه,, ويستطرد بيكار قائلاً: في بداية افتتاح كلية الفنون الجميلة في سنة 1928م استوردوا لنا اساتذة من الخارج، وقد حدث بيننا وبينهم ما يشبه القطيعة بسبب غرابة اللغة وبسبب عدم الأمانة في إعدادنا، وحين جاء صبري فناناً ومعلماً فإنه كان على درجة كبيرة من العظمة كفنان وكمعلم يجيد التوجيه وتوصيل المعلومة، وكان لديه حماس لا يقبل التهاون بكل ما يتعلق بالفن، وإن أدى هذا الحماس إلى شيء من قسوة الأب وليس قسوة الخصم، هذا الانصهار والحماس يجعله دائماً غارقاً في طقوس الفن لانه لا يعتبره مجرد مهنة أو حرفة,.
ويضيف بيكار: عندما عينت معيداً في الكلية كنت أيضاً مساعداً لأحمد صبري، وهذا أسعدني للغاية حيث استمر التواصل بيننا وبشكل أعمق، فمثلاً كان صبري متزوجاً من سيدة فرنسية وعندما جاءت معه إلى مصر حدث شيء من التصدع في العلاقة بينهما، ورغم كوني تلميذه إلا أنه لم يكن يخفي همومه الزوجية عني باعتبارنا صديقين,, ومن الجوانب الجميلة في صبري أنه كان محباً للموسيقى والغناء ويمتلك صوتاً رخيماً، وعارفاً بالكثير من الأغاني العربية فكنا نجلس معاً ونغني ونتحمس للحياة, ولك أن تتصور مدى العلاقة الحميمة التي بيننا لدرجة أن استاذي يرشفني ويرسم لي صورة وأنا أعزف وهي إحدى مقتنيات متحف الفن الحديث، لا تعبر فحسب عن قيمة فنية بقدر ما تعبر عن قيمة صداقة وفاء يندر أن أجدها الآن! ويسكت بيكار قليلاً ثم يضيف بشيء من الأسى ويؤكد أنه لا يريد أن يذكر هذا الموقف المحرج عندما دارت عجلة الحياة واصبح بيكار رئيس القسم في الكلية وصبري الأستاذ مجرد أستاذ في القسم بعد إحالته على المعاش,, فهذا التحول الإداري كان محرجاً لبيكار ومع ذلك يقول بلا تردد: أنا مدين,, مدين لأحمد صبري بكل شعرة في جسمي,, وإذا كنت أفطر اليوم بكوب من النسكافيه فالفضل يرجع إلى صبري,, الأستاذ الأب,, الأستاذ بالحب والأمانة والثقة والتقدير,, الأستاذ الذي يختلف عن الأستاذ المحترف الذي حول تلك المهنة إلى مهنة ابتزازية,, والحمدلله أنني نشأت في العصر الذهبي للأستاذية,, ودائماً أقول: الله يرحمك ياصبري.
وفي النهاية يقول بيكار: أود أن أضيف شيئاً مهماً,, هل تعرف أن الشارع المجاور لي في الزمالك يسمى شارع أحمد صبري؟! الحقيقة أنني أعتبر هذا تكريماً لي قبل أن يكون تكريما لصبري، لأن هذا جعل صبري صديقاً لي في الحياة وفي الممات، وهكذا يحدث ما لانتوقعه وكلما أنظر إلى الشارع وافتح نافذتي أقول على الفور: صباح الخير ياصبري,, صباح الخير يامعلمي العظيم.
الزهاد الثلاثة
وتقلب الروائية الصحفية سهام بيومي في دفتر الذكريات، وتقول إن هناك ثلاث صفحات مزينة بأزهار الحب والعرفان، تضع في كل صفحة اسماً عزيزاً عليها,, الأول: حسن فتحي، والثاني: جمال حمدان، والثالث: عبدالفتح الجمل,, وتبدي ملاحظة مشتركة عن الثلاثة تقول إنها تذكرتها فجأة، وهي أن الثلاثة لم يتزوجوا وعاشوا وحدهم يسعون إلى حلم كبير، وإلى عطاء كبير.
وتقول إن حسن فتحي الحاصل على جائزة أفضل معماري في العالم، الذي كان يسكن بحي الزمالك، غادر كل زيف الحياة وهو يعيش في درب اللبانة ويوزع أمواله على البسطاء,, وتتحسر على مشروع الرجل قائلة: لو طبقت أفكاره التي عاش من أجلها لتغير وجه العمارة في مصر، وتضيف سهام بيومي بأنها كتبت فصلاً كاملاً في روايتها الأخيرة تحية لحسن فتحي، في حين كان إهداء الرواية إلى جمال حمدان، الذي عاش زاهداً فقيراً، وترك بمحض إرادته هيلمان الجامعة لكي يتفرغ لعشقه مصر .
للأسف ماتت مشاريع حسن فتحي في الأدراج ورحل جمال حمدان بشكل مريب يثير الأقاويل,, وكنت أتمنى أن يعيشا حتى يريا أحلامهما تتحقق بدلاً من هذا الموت البطيء في عزلة تامة، وفي تجاهل إعلامي,, ثم تؤكد الكاتبة: سيأتي يوم يسود فيه حسن فتحي وجمال حمدان نظراً لما قدماه من عطاء كبير وعظيم.
ثم تنتقل بنا إلى الرجل الثالث وهو الصحفي والروائي الراحل عبدالفتاح الجمل، الذي أعطى عطاء مجرداً دون مقابل، وتحكي الكاتبة كيف كان مكتبه أشبه بالمنتدى الثقافي، وكانت هي نفسها تذهب إليه وتتعلم منه كيف يكون العمل الصحفي وكيف تكون الصحافة رسالة حقيقية، بحب، ودون مقابل وكيف تصبح هناك متعة في تقديم كاتب جديد إلى الساحة وتعتبر أن عبدالفتاح الجمل -لمن لا يعرفه- كان مصنعاً بشرياً أنتج جيلاً كاملاً من الأدباء والفنانين في المسرح والسينما والفنون التشكيلية.
وحين سألناها: لماذا لم يعد هناك وفاء؟ قالت: للأسف نحن في زمن لا يستوعب أصحاب الأفكار الكبيرة كلنا يتذكر العطاء الشخصي لأنه مادي وملموس، لكننا لا نتذكر العطاء العام الكبير، وهذا يرتبط بطبيعتنا العاطفية والأبوية، نتذكر آباءنا وأساتذتنا في المدرسة لكننا ننسى أصحاب العطاء العام,, خاصة في وقت تسود فيه الأفكار الضحلة والإدعاء والكذب.
وفي نصيحة موجزة تقول سهام بيومي: يجب أن نتذكر العظماء قبل ان يرحلوا لأن التقدير والعرفان لابد أن يصحبه تواصل حميم وتعبير لهم عن تقديرنا لهم في حياتهم واحتفاؤنا بهم,, لأنهم ببساطة هم الذين يصنعون الزمن الآتي.
أستاذ أجنبي وأستاذ مصري
وبعيداً عن حاملي القلم ذهبنا إلى مثقف آخر يحمل الفرشاة ويمزج مشاعر التقدير بالألوان الدافئة، وفي معرضه المقام عن الوجوه، عن أسرار الوجه الإنساني، توقفنا مع الفنان التشكيلي عادل السيوي ليحدثنا عن تجربته مع أستاذه، وقال أنه يود من خلال الجزيرة أن يهدي باقة من ورود الحب والتقدير إلى أستاذه الإيطالي رنسو فراري ونتركه يستطرد في حديثه قائلاً: عندما سافرت إلى ايطاليا في أول الثمانينيات تعرفت على هذا الأستاذ الإيطالي، ابن حضارة مغايرة لي، حضارة مختلفة، وصاحب جملة تشكيلية مركبة فهو خريج بريرا بميلانو,, وقمت بترجمة بعض الدراسات له من الإنجليزية إلى الإيطالية، كما أريته بعض أعمالي الفنية لكنه لم يعجب بها ولم يكن لديه إحساس قوي بها، وهذا صدمني بعض الشيء، وحاولت أن أفهمه أنني لي ظروف تكوين خاصة بي كفنان مصري يعيش في ظروف صعبة عادة، وتجاوز هذه الجفوة بفضل إحساسه ونضجه الفني، ورغبته في الفهم التي تساعد على تجاوز القصور في الثقافة والتكوين, وعندما احتككت بالثقافة الأوروبية المركبة ودخلت متاحف حقيقية أسرع نموي الفني وتغير ايقاعي، لكن للأسف لأنني تعرفت على هذا الأستاذ وأنا في سن كبيرة كانت مقاومة للتعلم أكبر مني، ولكن حاولت التحرر من الأشكال الجامدة الاستاتيكية، وبحثت عن أشكال جديدة للتعبير، وللتفكير فيما يحدث للفن في اللحظة الحالية وهذا دفعني في اتجاه شحن اللحظة بتوتر وبحركة شديدة.
وبالتالي كنت احتاج لخبرة أخرى تعدل هذا التسارع وتجعلني أهدأ واضبط الايقاع حتى لا احرق السطح، وكانت هذه الخبرة ممثلة في أستاذي حسن سليمان, لقد ذهبت إلى أيطاليا بجملة بسيطة خائفة، وقابلت هناك فناناً كبيراً فك لي تلك الجملة ثم عدت إلى مصر لأقابل أستاذي الآخر الذي أعاد تركيب الجملة، أنا سعيد الحظ بلقاء الاثنين في لحظتين حاسمتين جداً في حياتي، فقد تزامنت إحداهما وراء الأخرى وجعلاني امتلك الجملتين اللتين أعمل بهما: كيف انفعل لانه لا توجد لوحة بدون انفعال، ثم كيف اضبط هذا الانفعال.
واضطررنا أن نوقف هذا التدفق الدافىء، الذي يبدو متخصصاً بعض الشيء لنسأله عن علاقته بأستاذيه على المستوى الإنساني، فيحكي كيف كان يسير في بعض الشوارع بلا هدف -في إيطاليا- وفجأة وجد نفسه قريباً من بيت أستاذه رنسو فراري فطرق الباب لكن الأستاذ رفض أن يفتح له وأخبره أنه مشغول، ويؤكد السيوي بالنص انه لم يهتم بذلك كثيراً فهو كان يسير بلا هدف ولم يكن هناك موعد، وبالتالي لم يحزن أو يتضايق من تصرف الأستاذ معه لكنه فوجىء به بمجرد عودته إلى البيت يتصل به ويخبره أنه لا يعرف لماذا تصرف معه بهذا الجفاء! ربما لأن الحضارة الغربية جعلت علاقات البشر بدون مساحات، فليس هناك فرصة للعلاقات الإنسانية ثم طلب منه أن يتقابلا كي يصالحه.
ويضيف عادل السيوي موقفاً آخر لأستاذه الثاني حسن سليمان، وذلك عندما توفي والد الفنان، وضاقت به الدنيا فلم يجد سوى حضن استاذه الكبير الذي فتح له المرسم، ويذكر بالضبط أن هذا كان في أغسطس في منتصف الثمانينات وقال له إنها لحظة إبداع، فعسكر التلميذ في مرسم أستاذه يخرج إحساسه بوالده في ثنايا اللوحة وهو ممتد لهذا الدفء,, ويستمر نهر الحنان ويستمر معه التقدير والوفاء.

رجوعأعلى الصفحة
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المتابعة
أفاق اسلامية
عزيزتي
الرياضية
تحقيقات
شرفات
العالم اليوم
تراث الجزيرة
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved