Friday 6th August, 1999 G No. 9808جريدة الجزيرة الجمعة 24 ,ربيع الثاني 1420 العدد 9808


شخصيات قلقة
جاليليو فبراير 1564م- يناير 1642م
تهمته الوحيدة أنه أعظم العلماء

في إحدى الأمسيات وقف جاليليو -وهو بعد لم يتجاوز السابعة عشرة من عمره- يشاهد مصباحاً يتذبذب يمنة ويسرة، وعندما فُتح أحد الأبواب لاحظ الشاب الصغير أن تيار الهواء يجعل المصباح يتذبذب ذبذبة طويلة، ولام توقف التيار أخذت الذبذبة تقصر شيئاً فشيئاً,, ولابد أن آلاف الناس شاهدوا ذبذبة المصباح ولكن جاليليو وحده هو الذي أدرك قانون البندول وأمكنه حساب النبض بواسطة البندول، ليتمخض كل هذا عن اختراع آلة طبية لقياس مدة النبض.
وبدلاً من أن يشجع الأب الميول العلمية لأنه راح يقول له: يابني,, إن الموسيقا والعلم لن يجلبا لك الثراء، وحاول أن يقنع ابنه بالعمل في تجارة المنسوجات، لكن جاليليو لم يكن لديه أدنى ميل أو استعداد للتجارة، وما لبث أن أقنع اباه بأن يسمح له بدراسة الطب والفلسفة في جامعة بيزا,, وفي الجامعة لم يظهر جاليليو قدرة على التأمل فحسب بل كان أيضاً مجادلاً عظيماً، حريصاً على أعمال فكره واختبار جميع النظريات، ومن هنا لقبه زملاؤه بالمجادل، ولعل هذا هو سبب كراهية أساتذته له خصوصا اولئك الذين يقنعون بتلقين ماقرره قدماء فلاسفة اليونان، فكان يبدو لهم من المضحك أن يناقش طالب صغير تلك الآراء التي نادى بها العلماء طوال ألف سنة.
ولكن جاليليو أبى كعالم حقيقي أن يسلم بأي رأي من الآراء دون مناقشة حتى عندما عينه دوق تسكاني أستاذاً للرياضيات في نفس الجامعة عاد مرة أخرى للاشتباك مع الأساتذة الذين يؤمنون بصحة كل القوانين العلمية التي أرساها أرسطو، وبدأ يختبر هذه المبادىء ويتوصل إلى نتائج مختلفة من خلال التجارب المرئية التي كان يقوم بها ويدعو خصومه إلى رؤيتها بالعين المجردة.
ربما كانت آفة جاليليو الوحيدة هي رغبته الدائمة في التفوق، وفي مقارعة الخصوم الحجة بالحجة، وقد أوقعته روح التجريب والنقاش في صراع مرير مع العقليات المتحجرة ومع سلطة الكنيسة ذاتها، وقد بدأ هذا الصراع عندما سمع جاليليو أثناء إقامته بالبندقية عن اختراع منظار عجيب قام به صانع نظارات هولندي، فصمم على أن يصنع منظاراً على الرغم من أنه لم يشاهد واحداً حتى ذلك الحين- وعلى الفور شرع في العمل في نفس اليوم الذي سمع فيه عن هذا الاختراع العجيب وسهر الليل طوله حتى ابتكر منظاراً خاصاً به، يكبر المرئيات ثلاث مرات، واصبح منظار جاليليو أعجوبة البندقية، فما كان من الحاكم إلا أن ضاعف مرتبه وعينه أستاذاً مدى الحياة.
ومن خلال تطوير هذا المنظار وما يلزمه من عدسات استطاع جاليليو أن يرصد الاجرام السماوية، واكتشف ان المجرة تتألف من مجموعة من النجوم وأن الأرض ليست مركز الكون, وفوجىء جاليليو برفض كثير من العلماء لاكتشافه، وعندما عرض عليهم أن ينظروا إلى صحة اكتشافه من خلال المنظار، رفضوا أيضاً خشية أن يشاهدوا شيئاً لا يؤمنون به!! لقد عاشت البشرية قرابة ألفي سنة تؤمن بصحة ما قاله بطليموس عالم الأسكندرية بأن الأرض هي مركز الكون، وحين ظهر كوبر نيقوس قبل جاليليو بخمسين سنة وأثبت خطأ هذا الرأي وقال بأن الشمس هي مركز الكون وأن الأرض مثل الكواكب الأخرى تدور حولها لم يصدقه أحد، وفي يناير 1610م اثبت جاليليو بالدليل القاطع وبواسطة المنظار صحة آراء سلفه كوبر نيقوس مما أثار حفيظة اتباع يطليموس، ورغم عجزهم عن اثبات خطئه إلا أنهم أخذوا يكيدون له لدى البابا ولدى محاكم التفتيش.
وكان اليسوعيون هم ألد أعداء جاليليو بحكم إعدادهم الصارم لإصلاح الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، وقد أقاموا محاكم التفتيش لفحص الأقوال التي لا تتفق مع عقيدة الكنيسة فتحاكم أصحابها سراً وتهددهم بالتعذيب أو السجن، ولأنهم لا يسمحون بحرية التفكير فقد استصدروا أمراً بالقبض على جاليليو، الذي قرر فجأة التوجه إلى روما وشرح كشوفه للبابا بنفسه، وهناك استحضر طاقته الخلاقة على الجدل والمناقشة أمام أربعة من فحول العلماء، عجزوا جميعاً عن اثبات خطئه على كره منهم.
وأدى نجاح جاليليو في روا إلى استقباله بحفاوة وتكريمه من قبل أكاديمية أصحاب البصر الحاد، لكنه ظل ملاحقاً من بل اليسوعيين الذين ثاروا ضده مرة أخرى لمجرد اكتشافه بقعة ما على سطح الشمس، فشنوا حملة شعواء تتهمه بالطعن في الكنيسة وإنكار تعاليم الكتاب المقدس التي تقول بأن الأرض تدور حول الشمس, ودعم الاعداء موقفهم أمام المحكمة بخطاب لجاليليو يؤكد فيه صحة آراء كوبر نيقوس، فألزمته المحكمة بالامتناع عن تلك الآراء.
ومع كبر السن وكثرة العلل ومشاكله مع محكمة التفتيش اضطر جاليليو لكل هذه الأسباب إلى مواصلة اكتشافاته في صمت تاركاً إظهار الحقيقة إلى المستقبل القريب, وفي تلك الأثناء اطلع على آلة تظهر الأشياء التي لا تراها العين المجردة لكنها تظهرها مقلوبة فعمل جاليليو بدأب شديد من أجل تكبير طاقة هذا المجهر والعمل على اعتدال المرئيات، ليتوصل جاليليو إلى واحد من أهم الاختراعات ألا وهو الميكرسكوب، وقد أغراه هذا الاكتشاف الجديد بالعودة إلى آرائه القديمة حيث نشر كتاباً مطولاً أسماه محاورات في المذهبين السائدين في العالم وفي تلك المرة أثار الكتاب حفيظة البابا نفسه فاستدعاه إلى روما شيخاً مريضاً محمولاً على محفة.
وأصبح السؤال الأساسي الذي يلخص أزمة جاليليو كلها: هل سيبقى مجادلاً عنيداً أم سيخضع للسلطة؟! ما أسوأ الاستسلام الكئيب في نهاية العمر، لقد ظل يحاكم عدة شهور ويستجوب يومياً بكل دقة، وفي النهاية اضطروه تحت التهديد إلى الاعتراف ببطلان مايدعو إليه، ليس هذا فقط وإنما حرمت قراءة كتبه وحظر عليه القيام بالتدريس، كما حكم عليه بتلاوة سبعة مزامير مرة في الأسبوع لمدة ثلاث سنوات,, واخيراً أكره على الركوع أمام محكمة التفتيش وإعلان تبرئه من آراء كوبر نيقوس.
ورغم هذا الاذعان الظاهري عاد جاليليو إلى أصدقائه مؤكداً أن الشمس هي مركز الكون وأن الأرض تدور حولها مرة في العام، ومن جديد ألف كتاباً نشره سراً في هولندا، ورغم أنه قد كف بصره في سنة 1637م إلا أن رأسه ظلت قلقة تمور بالأفكار العلمية الجديدة، لدرجة أنه علم ابنه قبيل وفاته كيفية استخدام البندول وكان هذا ايذاناً ببدء عصر الساعة التي اخترعت بعد وفاته بقليل.
ويبدو أن وطأة العزلة وآفة العمى كانتا السبب الرئيس في رحيله، وكان قد كتب إلى أحد أصدقائه يقول: واأسفاه!! إن هذه الأرض, إن هذا الكون الذي استطعت بكشوفي العجيبة وبراهيني الواضحة أن أكبره مائة ألف مرة أكثر مما يعتقد الحكماء الذين عاشوا في العصور الماضية قد انكمش بالنسبة لي من الآن فصاعداً إلى الحيز الصغير الذي يشغله جثماني .
رجوعأعلى الصفحة
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المتابعة
أفاق اسلامية
عزيزتي
الرياضية
تحقيقات
شرفات
العالم اليوم
تراث الجزيرة
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved