Friday 6th August, 1999 G No. 9808جريدة الجزيرة الجمعة 24 ,ربيع الثاني 1420 العدد 9808


خفافيش الاقتصاد!!

يتحدثون، اليوم، عن النظام العالمي الجديد، كما لو كان جديداً، أين الجدة؟ عندما يحاول شخص قوي ليس لديه كوابح معنوية متينة، ولا قيم أخلاقية واضحة، الا في حدود ضيقة لعلها حدود الحي الذي يهيمن عليه، أو ما يعرف بمنطقة نفوذه عندما يحاول جباية خراجها لمصلحته هو بالدرجة الأولى؟.
أظن ان مثل هذا الشخص ومثل هذه المحاولة لهما صفة القدم، واذا وضعنا الدولة القوية مكان الشخص القوي تبقى النتيجة واحدة مع تغيير في التسمية.
ثم من هي الدولة التي تمتعت بالقوة المادية والعسكرية ولم تحاول جباية اموال العالم الواقع بمتناول يدها؟ لعل القسم الأعظم من التاريخ يقوم على سرد محاولات الدول العظمى للاستئثار بأموال العالم ومراحل نجاحها وفشلها في محاولاتها هذه.
والمحاولة التي تجري امام اعيننا ونشاهدها او نسمع بها عبر وسائط نقل المعلومات المضللة غالباً من أجل توجيه الأموال الشاردة في العالم الى وجهة معينة، ليست جديدة، مع انها تشكل سمة النظام العالمي الراهن.
لعل الجديد في الموضوع هو كثافة وسائط الاعلام المساهمة في العملية او لعله المستوى الرفيع من النفاق الذي بلغه اصحاب المحاولة ومن لف لفهم, او هذا الاسلوب الحديث في تركيب الرواية وفي اخراجها وعرضها على الجمهور.
اي جديد في الأمر حين تتراكم اموال كثيرة لدى كيانات هشة وضعيفة فيأتي كيان أكثر قوة ويستولي عليها؟.
أي جديد في موضوع تزوير الواقعة التاريخية لتبرير منطق الثري القوي؟.
في عالم الغرب كما صنعه فلاسفته تقريباً تؤدي بنا هذه المجتمعات الى الكارثة، ولم تبذل الجهود اللازمة لتعلم التفكير الموضوعي بيد ان اصواتاً غربية تسمع بين الفينة والاخرى تحاول اعلان اعتراضها على ما يجري وتحاول ان تفكر بموضوعية.
ان الاقتصاد بمعناه الشامل وليس بمعناه المادي فقط، هو من الوسائل المعينة على تفسير كثير من حوادث التاريخ.
فالأفكار الاساسية قديمة اذ النهب العالمي يتم بأكثر الطرق فعالية، واسرعها واقدرها على حشد اضخم كمية من الأموال في اقل عدد من الجيوب او الصناديق، الجديد نسبياً هي الطرق الفاعلة يدعمها الحاسوب العظيم أسطورة القرن القادم كما يرى علماء الحواسيب والانترنت.
هذا اذا لم يظهر فيروس خفي يلتهم ذاكرات هذه الحواسيب مثل الذي اقض مضاجع الحاسوبيين منذ اشهر مضت.
وحقيقة الأمر فان الجري وراء المال والسعي وراء المنفعة فقط والانفلات من القواعد المنظمة لأي نشاط اقتصادي على هذه الارض اي تناسي البعد الاجتماعي للعملية الاقتصادية خطر عظيم.
أليس بالمستطاع اليوم وبعملية حاسوبية يسيرة نهب مدخرات كبار المودعين وصغارهم من خلال معدلات الحسم ومعدلات الصرف؟ أليس بالمستطاع اليوم وعبر تحالف علني او سري دائم او مؤقت بين بعض بيوتات توظيف الأموال في وول ستريت اجبار الساسة على الانصياع الى ارادة المال الملك.
ألسنا اليوم رهائن ارادة مجموعة مختارة من عولمي هذا القرن الذين اكتشفوا كيفية الاستيلاء على ملايين الدولارات في دقائق او ساعات؟ هل دخلنا عصر الحكومة العالمية بعد ان تمت عملية تمركز الثروة وحصرها في اضيق نطاق؟.
ان المادية الغربية من رأسمالية او ماركسية اوصلت الاقتصاد الى ازمة خطيرة ومعه العالم كله, والطريق المسدودة التي سارت فيها كل منهما، جعلت مسألة تركيز مبالغ خيالية من المال في ايد محدودة وبتصرف عدد قليل من الخفافيش الاقتصادية امراً ممكناً.
في هذا السياق يلخص ويليام غريدر احوال النظام العالمي الاقتصادي الجديد بقوله لقد اعتبر المال مؤثراً محايداً في التجارة ولكنه غدا سيدها المريض بالعُصاب .
إن مبدأ العقلانية الذي تُبنى عليه التحليلات الاقتصادية التقليدية قد فر من السوق حيث انتقلنا بسرعة من الغبطة الى الخوف.
يقول تشارلز كينديلبرجر عندما يتصرف الجميع بجنون يغدو السلوك العقلاني ان نكون ايضا من المجانين جاء ذلك في دراسته الشهيرة عن الذعر والعادات المستهجنة والأزمات .
وقد وقعت الحكومات اليوم والمصرفيون في حركة هروب الى الأمام وكما هي العادة في الاقتصاد فالقرارات المتخذة من اجل حل معضلة معينة تؤدي الى معضلة اخرى اكثر منها خطراً.
يقول جورج قرم في كتاب نظام النهب العالمي ان تجسيد الشيطان والدور المنفر وكبش الفداء الذي لعبه صدام حسين اثناء ازمة الخليج الثانية وما بعدها، يجعلنا ننسى كم اسهمت حرب الخليج في تدعيم النظام العالمي الاقتصادي الجديد الملائم للبلدان الصناعية.
إن قمة السخرية تكمن في ان الدعوة الى نظام اقتصادي جديد اطلقتها في عام 1973م حركة عدم الانحياز الفقيرة والتي تعتبر اليوم بحكم المتوفاة، اذ كان النظام المقترح يهدف الى تيسير عملية تصنيع العالم الثالث واستيعابه في التجارة العالمية على قدم المساواة مع البلدان النامية وكان الهدف الاكبر للوصول الى تلك الغاية يمر عبر اعادة تقويم اسعار المواد الأولية.
في بداية السبعينات جرى اطلاق نداء، اوقفوا النماء ، بعد ان تكهن خبراء نادي روما بشح المواد الأولية وبتفاقم التلوث بصورة تنذر بكارثة وذلك في آن معاً.
وللأسف، فقد كانوا على خطأ، عشرون عاماً أو اكثر انصرمت غيّر فيها علماء الاقتصاد آراءهم، والذي يقلقهم الآن ليس نشاط النماء، بل تراخيه.
فقد نشر مركز الدراسات المستقبلية والمعلومات الدولية تقريره السنوي وفيه ابدى قلقه من رادءة الاحتمالات العالمية من الآن وحتى نهاية عام 2000م.
إذ سوف تزداد المشاكل التي يعاني منها كوكبنا خطورة اذا لم يحدث ما يجعل الآلة الاقتصادية تعاود انطلاقتها.
ولذا حذّر انطون بريندر مدير المركز من اننا سنجتاز مرحلة خطرة اذا لم نبذل جهوداً لفتح اسواقنا لاقتصاد دول الشرق ودول الجنوب التي تعاني من المصاعب، فاننا نخاطر برؤية هجرة كثيرة نحو البلدان الغنية الصناعية.
والمشكلة ان الأثرياء يزدادون ثراءً، والفقراء يزدادون فقراً، وللأسف فسوف تزداد الهوة بين بلدان الشمال وبلدان الجنوب في السنوات القادمة وسوف تبدو الفوارق بين الأثرياء وبين الفقراء في نهاية المطاف أمراً لا يمكن احتماله.
وهكذا يكتشف العالم بعد عدة اعوام من الغبطة انهم كانوا يلعبون لعبة اطلاق المارد من القمقم حيث يتعذر السيطرة عليه بعد ذلك.
كتب محرر وول ستريت جورنال مرة قائلاً: عالم المال هو مجموعة من الكائنات الحية وغير الحية تعيش في بيئة واحدة، تعدل نفسها بحذق او تتغير فجأة تبعاً لسير الأحداث العالمية.
ختاماً أقول انه لما اكتشف عالم المال فداحة الاضرار انطق الناطقون باسمه مؤكدين نهاية عربدة المضاربات التعيسة التي اتاحت للعديد من الخفافيش امتصاص الدماء حتى التخمة.
ألسنا نشهد بداية اعادة رسملة الشركات؟! وبالطبع فان المتحكمين هم خفافيش الاقتصاد!!.
د, زيد بن محمد الرماني
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
وعضو الجمعية العربية للبحوث الاقتصادية

رجوعأعلى الصفحة
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المتابعة
أفاق اسلامية
عزيزتي
الرياضية
تحقيقات
شرفات
العالم اليوم
تراث الجزيرة
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved