يظل تاريخ الاجتماع الانساني يحمل بين طياته الكثير من الحراك الايجابي الذي يحتفظ بدور خاص ومميز للمثقف والمثقفين في مجتمعاتهم، وقد ساهم هذا الحراك في دفع الامور باتجاه البناء والتطوير للحضارات الانسانية برمتها، ولاشك من وجود علاقة وثيقة الصلة بين المثقف والمظاهر الحضارية للمجتمع البشري، فالمثقف هو الوسيط الحضاري الذي يربط بين نسيج مجتمعه وانساق البناء والتطور، وهو بؤرة التفاعل بين الثقافات وتنوعها، وضمير الامة ومعقل افكارها، حيث يستقرىء تطلعات مجتمعه ويبلورها في رؤى عميقة تتضمن اهدافا من الممكن تحقيقها على صعيدي الفكر والفعل، وفي الوقت نفسه يأبى ان يكون اسير سلبيات الواقع القائم فيعمل جاهدا على تجاوزها، ايضا يتجاور ومجتمعه من حيث التكوين ويتجاوزه من حيث التمكين وعناصره، بمعنى يتجاوز مجتمعه ليعود اليه، ويتخذ موقفا من الآخر ويتفاعل معه، وفق دائرة دقيقة الانتظام، وهو من خلال ذلك يتكىء على الجوانب المضيئة من التراث، ويجادل الواقع وفق معطيات حضارية تكفل الحضور الفاعل لمجتمعه بين مختلف المجتمعات الانسانية، ويضع نصب عينيه التقدم والارتقاء، ويمارس الحوار ومقوماته، وبكلام اكثر دقة ان للمثقف دورا رئيسيا في عملية التواصل الحضاري بين مجتمعه والمجتمعات الحضارية الاخرى، شريطة ان يسود طبيعة هذا التواصل اجواء من الحرية والاعتراف بالآخر،لان ذلك يعتبر اكثر جدوائية لجني الثمار العائد بالفائدة على جميع الاطراف، وعلى العكس من ذلك عندما تواجه طبيعة هذا التواصل هواجس الحروب وممارسات القهر، بهذا تصبح عملية التفاعل مهددة بالتعطيل والاكتفاء، عندئد يصبح التعاطي بين المثقف ومجتمعه مرهونا بالمتغيرات العالمية وتطوراتها.
اذ ان علاقة المثقفين بمجتمعاتهم اخذت ابعادا عميقة في ظل الحضارات الانسانية المعاصرة، بفعل ما شهدته الحضارة الغربية الحديثة وتميزها من حيث الانجازات التي مكنتها من تحقيق ثورة العلم التقني ومدى التأثير في الحضارات الاخرى، وهذه الثورة اكسبتها هامشا واسعا من التصرف النظري والفعلي حول هذا الكون بكافة مقدراته الى حقل تجارب، حيث اصبح انسان هذه الحضارة مسخا تقنيا ينتظم وآليات المادة الفارغة المحتوى، فالعولمة تعطي القوى لعشرين في المائة من البشر على حساب ثمانين في المائة منه في التعداد البشري، بمعنى ان المثقف العربي قد اصبح بين كماشتين فهو مسلوب الارادة تجاه حداثة ليست من صنعه، ويرتطم في الوقت نفسه بسلسة من الانماط التقليدية الاجتماعية، والتي اذا ما اعار اهتماما بالغا اليها فقد يسهم ذلك في اصدار شهادة وفاته ، ويعزز ذلك الفكرة الرامية لموت المثقف في ظل ظروف غامضة، ويؤثر بشكل او بآخر على طبيعة العلاقة بين المثقف العربي ومجتمعه من حيث ظاهرة القطيعة والتواصل، وبالقدر ما هو مطلوب من المثقف العربي - على وجه التحديد - في مواكبة الحراك الحضاري العالمي، كذلك مطلوب منه ان ينطلق وفق معايير القوى الاجتماعية وانساق تطلعاتها، فالمثقف العربي يظل متواصلا ومجتمعه طالما استمر في بحثه الدقيق بين ثنايا التراث والثقافة ويعزز ذلك مدى استقرائه للتطورات المعاصرة وغربلتها في نهاية المطاف، بغية الوصول بالمجتمع نحو الحضور الفعلي، الا ان للتطورات الراهنة دورها في تحديد طبيعة العلاقة بين المثقف ومجتمعه، ولكي يبقى المثقف في دائرة التواصل يتطلب ذلك عدة ملاحظات ينبغي الاخذ باسبابها حتى يتسنى له توثيق الصلة ومجتمعه، وقبل ان نخوض في غمار البحث علينا ان نلقي الضوء على طبيعة الواقع الحضاري المعاصر، لان ذلك يسهم بشكل او بآخر في تشخيص الامور المناطة بالمثقف العربي من واقع انتمائه الاجتماعي والثقافي والفكري,وليس ثمة ادنى شك من ان وسائل الاتصالات الحديثة احالت الكوكب الارضي بأسره الى قرية كونية بالفعل، تتدافع فيها كافة المنجزات الانسانية بايقاع سريع ومنتظم، يطال البنية الاساسية للنظم الاستراتيجية وصوغها وفق معايير العولمة وبأنساق جديدة تحكم طبيعة العلاقة الواقعة بين المجتمعات الانسانية المعاصرة، وكما هو الحاصل فان للعولمة مكتسبات ايجابية ينبغي منا جميعا افرادا ومؤسسات وجماعات تتبع اثرها بخطى ثابتة ووثابة وفق رؤية عميقة تمنحنا التمييز لما يعود علينا بالمنفعة العامة، وصرف النظر عما لا يعنينا، فالتدفق المعرفي الهائل بحد ذاته يعتبر من المحاسن التي لا يمن انكارها، حين اصبح الانسان اليوم يطل برأسه على العالم وهو في بيته، وذلك من خلال الوسائط الالكترونية الحديثة مثل شبكة الانترنت والبريد الالكتروني وغيرهما عبر فضاء مفتوح لا يعتد بالحدود، ولا يابه بالقوانين والاعراف الخاصة لاي مجتمع من المجتمعات البشرية، عالم يلهث وراء العلوم والتكنولوجيا، ويتقصى المعلومات، ويراقب الاحداث عن كثب، وكما تطور التحصيل الابستمولوجي بطرق سهلة وسريعة، ايضا انعكس هذا التطور على مختلف معطيات العلوم والمعرفة، تجلى في اثراء الحركة العلمية والنقدية وتطلعاتها، وقد القى هذا التلاحق المعرفي الضخم بظلاله في اذكاء لعلوم متعددة كانت على الامد البعيد شبه مغمورة، واعني بذلك على صعيد الحركة الاكاديمية في الوطن العربي، كعلمي الاسلوب والجمال - على سبيل المثال - اللذين احتلا مكانة رفيعة بين العلوم الاكاديمية المتقدمة، وقد ادرجا في قائمة الدروس والمحاضرات في بعض الجامعات المحلية كجامعة الملك سعود وغيرها، ونحن لسنا بصدد الخوض في غمار هذا الحديث بقدر ما تبرز بعض الملامح المعرفية المتطورة اثر المرئيات الايجابية للعولمة والتي تعتبر ليست شرا مطلقا.
وكما ان للعولمة مكتسبات ايجابية، ايضا لها مساوئها فيما تحمله من مضامين قسرية بفعل القوى الكبرى المهيمنة على مصادر الاقتصاد العالمي، التي ليست بمنأى عن المعطيات الاستراتيجية السياسية والاجتماعية والثقافية، وبكلام آخر لو حاولنا ارجاع مصطلح العولمة الى الصيغة المصدرية له، فيصبح من حيث الوزن الصرفي (فوعل) نجد ان المصطلح يحمل دلالات القوى والاجبار، ويتأكد ذلك من خلال الممارسة العملية، وثمة معان واضحة تدل على ان العالم يعيش ضمن منظومة عالمية جديدة تكون الاحادية القطبية مركزا وحيدا لادارته من حيث التفكير والتوجيه، وتتمحور هذه المعاني في اشاعة ما هو عام على حساب ما هو خاص، بمعنى ان الخصوصية الثقافية - لأي امة كانت - تكون معرضة لصياغة جديدة تكتسب ملامح عامة ومتعولمة على وجه التحديد.
ومما لا يدع مجالا للشك من ان تلك المتغيرات العالمية الهائلة لها تأثيرها البالغ الخطورة على ثقافتنا العربية، تتجلى في جملة من التحديات التي تعيق من سيرورة البناء والتطوير والكثير من الانشطة الاجتماعية الاخرى، وبشكل تراتبي ينعكس هذا الوضع على المثقف العربي ومدى تعاطيه ومجتمعه، ولا ريب ان الوشائج وثيقة بينه وبين مجتمعه لأن الثقافة التي يحملها ويعنى اليها تشكل احد العناصر الرئيسية التي تدفع باتجاه تطور المجتمعات العربية ولا يقتصر دور المثقف العربي على العموميات في انتاج المعرفة او التدقيق فيها او تحسين شروطها ودرجة اتساقها، بل يكمن دوره في كيفة التداخل مع المجتمع وتفاعله الايجابي مع قضاياه، وذلك من اجل بث الروح الجمعية فيه اثر آلية تعنى بتوحيد الآراء ومختلف القوى الاجتماعية، ويتأكد هذا في كيان اجتماعي قادر على الحركة والنمو بفعل انماط ايجابية حيث التنسيق والنظام والتحسين والاصلاح، لانه لو حاول ان ينأى بنفسه عن المنظومة الاجتماعية فسوف يكون في دائرة الهامشية، بمعنى آخر ان المثقف هو فاعل اجتماعي جمعي وليس احادي الحركة، ويشترك ونظراءه في منظومة ناشطة على المستويين العلمي والمهني المعنيين بالمجتمع, إذن يبقى المثقف هو الوسيط الحاضر الذي يوثق الصلة بين التلاحق الابستمولوجي العالمي وبين الخصوصية الاجتماعية والحضارية، وفق عناصر متناهية الدقة داعمة لمعطيات التقدم والاصلاح على الصعيد الداخلي، وتدعو للتفاعل والآخر الحضاري في الوقت نفسه، وهذه الموقعية لا تنفصل عن طبيعة الثقافة الحضارية التي تدفع باتجاه التخاطب وجميع الحضارات البشرية لما يحقق نتاجا جمعيا يكفل لمختلف الاطياف خصوصيته ومردودات انسجامه، فانسان الحضارة المتقدمة تمادى في عبثه عندما بلغ به الامر لأن يحدث كوارث طبيعية تهدد الكوكب الارضي ونظمه البيئية، ولم يقف عند هذا الحد بل اخذ يعبث بالجينات الوراثية للانسان نفسه، ويمارس الخروقات الميتافزيقية دونما اي رادع منه، فهل الانفصال عن هذه الكونية يقينا من اخطار تجارب الانسان المتقدم فالحضارات الانسانية بأسرها يجمعها مصير واحد، سواء تقدمت أمة على اخرى، او حاولت ادخال العنصر البشري برمته في دائرة تجاربها عنوة وقسرا، من هنا يأتي دور المثقف العربي في الاخذ بأسباب الثقافة الحضارية بوصفها عملية انسانية وحركة دؤوبة غير سكونية، وذلك لا يمنعه من انتمائه لمجتمعه وبيئته، فالمثقف العربي يتكئ على إرثه الطويل والثقيل، رغم إحساسه وشعوره بمواطن التأخر في انسجة مجتمعه، لكنه لا يستطيع اخماد ما يتأرجح في داخله لشعوره بانتمائه لحضارة قادت الدنيا ما يقارب ثمانمائة سنة، وكانت على القمة من حضارات الارض.
وكمحصلة لكل ذلك على المثقف العربي ان يستعيد تواصله ومجتمعه في خطابه العام المعبر عن همومه ووجدانه واحلامه، ويسير وفق ابداع فكر اصيل يعنى بهموم المجتمع وتطلعاته فالمسؤولية تتطلب إمعان النظر للمتغيرات والتطورات الراهنة، وعدم إغفال الرؤية المعمقة إزاء الامور في سياقها الدينامي المستقبلي بما يتواءم وخصوصية المجتمع الفكرية والثقافية والاجتماعية، فأصبح الانعزال عن مجتمعه غير مبرر، وعدم خوضه في الشؤون العامة بدعوى استقلال نظام المعرفة عن انساق الممارسات الاجتماعية، او بدعوى تحري الموضوعية واقتفاء اثر الامانة العلمية مما يؤدي الى اتساع الهوة بينه ومجتمعه، ولا نتجاوز الحقيقة حين القول ان البعض من المثقفين العرب قد اوثقوا العرى بين نوازعهم الفكرية والثقافية وبين تطلعات وحاجات المجتمع ونداءاته المستقبلية، في المقابل نرى بعضهم الآخر يراوح في دائرة الاغتراب الثقافي وذلك عندما انفتح في خبرته على جملة من انساق ثقافية مغايرة عن ثقافة مجتمعه، وقد استلهم منها الكثير من العناصر التي تتشكل في تصوراته وشخصياته، فيصبح لديه فضاؤه الخاص الذي يمده بالرؤية والموقف, وأشبه ما يكون ذلك بعملية (ترحال ثقافي) من إيدلوجيا الى ايدلوجيا مناقضة، فهو ينطلق من مبدأ وحيد هو ان الثقافة مسألة كونية لا تمت بصلة وخصوصيات المجتمعات الاخرى، وتراه لا يفرق بين ما هو خاص او عام فيقع بالتالي في المحظور من اشكال الاستلاب الثقافي، ولم تعد المشكلة في مدى اهتمام المثقف العربي بالآخر، بقدر ما يعتبر ذلك مطلبا حضاريا، بل المشكلة تكمن في مدى انعكاس ذلك على الثقافة العربية حين يتعطل عنصر التواصل في الكشف عن المعطيات الحيوية لديها، وبالتالي يكون الباب مفتوحا على مصراعيه للآراء التي تحمل في ايجاءاتها التشكيك في الموروث الثقافي والحضاري ومدى قدرته على مناجزة الواقع الراهن، مما يؤدي لتراكم سجالي يفقدنا الصواب الاجتماعي وانتظامه، ويصيبنا بالضبابية في الرؤية بفعل ذلك الصدام والحضارة الغربية على وجه الخصوص.
فاذا ما اراد المثقف العربي ان يكسر طوق القطيعة التي قد مارسها من حيث يشعر او لا يشعر مع مجتمعه، عليه ان يتخلى عن نزعاته الاستعلانية، فانه لا يستقيم اي نسق اجتماعي نشط للمثقف العربي مع ظنه في ان جدواه المعرفية حكر له من دون اطياف ومؤسسات المجتمع ولا هو يستقيم اذا ما استمر في اعتقاده بان الارث التاريخي متوالد الوقائع من بنات فكره وليس من ارادة المجتمع، ولاشك ان التجاوب بين الطرفين مناط بقدرة المثقف على التعبير عما يختلج في اعماق المجتمع من هموم وطموحات، ومن الضرورة بمكان ان يسعى للحفاظ على موضوعية نسيج مجتمعه الثقافي وتعادليته لان من التعسف القطع بأن الثقافة تمثل الخصوصية لدائرة مغلقة لاتتسق ومختلف الانسجة الثقافية لحضارات اخرى ، فالمثقف العربي مسؤوليته تأخذ به نحو احداث التوازن الثقافي لدى مجتمعه، مع ادراكنا العميق بأن هذه العملية شاقة ومن الصعوبة تحقيقها على المدى القصير، فهو المتفرد في عملية الاتصال المباشر بعالم يمتلىء حداثة فكرية ومادية، وافعال الفوقية والقطيعة والتقعر لا تعفيه من نقل الخبرة والمعرفة والرؤية الجديدة، وفي الوقت نفسه لا تتيح له هذه المكانة العمل على قسر عناصر القوى الثقافية في المجتمع للدخول في فضاء معرفي جديد قد لا يتناسب والخصوصية الثقافية، وكل ذلك لا يلغي دوره في بذل الجهود من اجل حماية التكوين الثقافي لمجتمعه من الاختراقات السافرة المنظمة، ومن اجل تهيئة الفرصة لرحاب المثاقفة الحرة والآخر الحضاري، بمعنى ان مجادلة الآخر تحمل مضامين مجادلة الأنا بأساليب شجاعة وصريحة تكفل لنا البقاء في عالم لا يعترف بالشعارات الزائفة ولا يعير سمعا الى انغام الصخب البيانية والشعرية التي تدغدغ كل خلية فينا، فالموقف الشجاع يدعونا لفسح المجال لمناخ يعمّق الرؤية الجمعية للمثقف العربي، واندراج هموم المجتمع وتطعاته على قائمة البحث والدراسة، وذلك من اجل ايجاد نظرة شاملة لبعض التحديات المحيطة بمجتمعاتنا العربية، ولا يخفى ان المسؤولية ليست مقتصرة على جانب واحد بل هي مزدوجة يتقاسمها بطرق نسبية المثقف والمجتمع، فهذا الاخير يكفيه ان يمارس ضغوطا على المثقف لتأدية دوره على اكمل وجه، وان كانت هذه الضغوط تحد في احوال كثيرة من عطاء المثقف، الا انها لا تتخذ ذريعة للنكوص عن رسالة الثقافة الحريصة على التغيير، اذ العملية تبادلية وتكافلية تضمن اعمال العقل الجمعي الذي يضفي حالة الحراك الثقافي الايجابي على الصعيد المحلي، والذي بدوره يسبر اغوار الثقافات الحضارية الاخرى ومكتسباتها.
علي حسين آل طالب