رحل عنا الشاعر محمد مهدي الجواهري، رحل عنا ذلك العملاق المبهر المعجز في سحر بيانه وبليغ قوافيه, رحل شاعر الجماهير العربية الذي صفقت له ورددت معه على مدى 70 عاما او تزيد,, وبرحيله انتهت آخر الرموز الشعرية النقية التي ارتوت من ينابيع البداوة العربية الصافية.
وإنني إذ أدون هذه السطور في ذكرى شاعرنا العظيم انما ذلك اقراراً بالعرفان الجميل لما قدم من القصائد الخالدة التي سقاها بتعبه وتضحياته الكبيرة وتقديرا لمسلكه الشعري الاصيل ومواساة مهداة مع كل الشوق الى جماهيره على امتداد وطننا العربي الكبير.
ولد الجواهري سنة 1899م في مدينة النجف بالعراق من اسرة عريقة في الدين والادب وترجع اصوله القبلية إلى بلاد إيران حيث رحلت اسرته فيما بعد إلى مدينة النجف العراقية واستقرت بها وفيها ولد.
درس علوم الدين واللغة في صباه وكان ميالا وشغوفا باللغة وآدابها حيث برزت قدراته الشعرية والادبية مبكرا مع بداية العقد الثاني من حياته حيث قام باصدار بعض المجلات والصحف اليومية مثل إصداره لصحيفة الانقلاب وكذلك جريدة الفرات الذي كان لنوري السعيد دور بارز في توقفها فيما بعد.
وقد كان في شبابه متمتعا بقدرة عجيبة في الحفظ حيث ذكر عن نفسه انه حفظ في شبابه 500 بيت من الشعر العربي في يوم واحد في مسابقة مع رفاقه حيث كسب الرهان بحصوله على جائزة مقدارها جنيه من الذهب الذي يعتبر مبلغا كبيرا في ذلك الوقت,, كما يذكر عن نفسه هو ايضا انه عرض عليه خمسة ابيات من الشعر في احدى المناسبات الادبية مع بعض شعراء العراق فحفظها واتقنها بعد قراءتها مرة واحدة, ولا شك ان هذه القدرات الذاتية قل ان تتوفر في شاعر آخر ممن عاصروه.
وقد واجه الجواهري الكثير من الحوادث القاسية في نفسه وأهله ووطنه، وكان لذلك بليغ الاثر في توهج مسلكه الشعري ومسيرته الحياتية حيث نفي من بلده العراق اكثر من مرة واستقرت به الحال في مدينة براغ الاوروبية,, وكتب فيها اجمل قصائد الغربة والحنين إلى بلاده والتي منها القصيدة المشهورة يا دجلة الخير يخاطب فيها بلاد الرافدين مخاطبة الغريب البعيد.
وكان خلال تلك الفترات من حياته وللظروف التي يعيشها ظل متنقلا مرتحلا ومسافرا بين العواصم والمدن العربية إلى ان استقر به المقام نهائيا في اواخر حياته ومع اسرته بمدينة دمشق السورية والتي فيها توفي.
شعره
للجواهري مدرسة شعرية خاصة ومتفردة بين شعراء العربية في العراق والعالم العربي في العصر الحديث ويلاحظ اوجه الشبه الكبير بينه والشاعر العباسي الثائر (أبوالطيب المتنبي) حيث ان كلا منهما عاش حياته ثائرا على الاوضاع الاجتماعية القائمة ومراحل الاستعمار الاوروبي الحديث لبلاد الشام والعراق وفلسطين, ولا شك ان لذلك اثرا واضحا في تنوع شاعرية الجواهري التي تخرج كالبركان المتلاطم في قصائد حماسية وطنية تهز الجماهير، ومنها قصيدته المشهورة التي قال فيها:
فإما إلى حيث تبدو الحياة لعينك مكرمة تغنم وأما إلى جدث لم يكن ليفضله بيتك المظلم ويقول كذلك: أتعلم أم أنت لا تعلم بأن جراح الضحايا فم فم ليس كالمدعي قوله وليس كآخر يسترحم يصيح على المدفعين الجياع اريقوا دماؤكموا تطعموا |
وقد زار الأردن بدعوة خاصة والقى قصيدته المشهورة - بإلقائه المعهود - في حضرة العاهل الأردني الحسين بن طلال مادحا إياه بمطلع جميل حيث يقول:
يا سيدي أسعف فمي ليقولا في عيد مولدك الجميل جميلا أسعف فمي يطلعك حرا ناطقا عسلا وليس مداهنا معسولا |
إلى ان يقول:
يا مبرئ العلل الجسام بطيبه تأبى المروءة ان تكون عليلا يا بن الذين تتنزلت ببيوتهم سور الكتاب ورتلت ترتيلا الحاملين من الامانة ثقلها لا مصغرين ولا اصاغر ميلا |
واختتمها بقوله :
قسما بمن اولاك افضل نعمة من شعبك التمجيد والتأهيلا إني شفيت بقرب مجدك ساعة من لهفة القلب المشوق غليلا ولسوف تعرف بعدها يا سيدي اني اجازي بالجميل جميلا |
ولم يكن الجواهري شاعر القوة فقط بل انه كتب العديد من المراثي الجميلة والتي من اروعها قصيدته الرثائية بعد وفاة زوجته الاولى في العراق والتي تذكرنا
لولا الحياء لهاجني استعبار ولزرت قبرك والحبيب يزار |
وقد صدر له مجموعة من الدواوين الشعرية التي تعتبر مرجعا تاريخيا وسياسيا واجتماعيا لاحداث ومتغيرات القرن العشرين الذي عاشها شاعرنا الكبير إلى ان توفي صبيحة يوم الاحد الموافق 27/7/1997م وهو يخاطب ابنه الاكبر بكلمة هي آخر جملة تلفظ بها قبل ان يودع هذه الحياة حيث قال: كلمته الوحيدة والاخيرة (الموت معجزة) ونحن نقول لله درك.
- عزيزي القارئ -
هذه اطلالة سريعة على ذلك الشاعر العملاق في ذكراه الثانية الذي أمدني وقادني لكتابتها الاحساس العابر الذي استطعت ان استوقفه لحظات قبل مواصلته المسير.
إبراهيم صالح العثمان
الرياض