Sunday 25th July, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الأحد 12 ربيع الثاني


في الذكرى المئوية لميلاد همنغواي
الجيل الضائع عاجز عن ترويض نفسه على الأوهام المتفائلة
رضا الظاهر

أكد الروائي الأمريكي البارز إرنست همنغواي (1899 - 1961) غير مرة انه كان يتحدث باسم الجيل الضائع الشباب الذين التحقوا بجبهة الحرب، وعادوا الى أوطانهم بعد ان قدر لهم البقاء على قيد الحياة فلماذا كان هذا الجيل ضائعاً .
كان الوضع كما كتب عمنغواي الى ماكس بيركنز تراجيديا مهلكة حيث الأرض تبقى الى الابد باعتبارها البطل تراجيديا جيله السجين، بشكل لا مفر منه في التاريخ، والضائع، بشكل مطلق في الزمن الرديء لعواقب الحرب.
لماذا غير همنغواي عنوان روايته الأصلي (فيستا) الى (الشمس تشرق أيضاً) عبر طريق رفض (الجيل الضائع)!، ولماذا استخدم، ان لم يكن لمعارضة الطبيعة المقدسة للفيستا الاسبانية والطبيعة المدنسة للعالم الحديث، تصديراً لروايته عبارة غيرترود شتاين المعروفة انكم جميعاً جيل ضائع ؟.
البعض يعتقد ان تسمية الجيل الضائع نشأت لأن أناس هذا الجيل كانوا مهزومين، مفلسين روحياً، وضائعين.
صحيح ان الكثير من جنود الحرب غير متوافقين مع محيطهم فهم لا يستطيعون ممارسة حياة السلم الاعتيادية وعاجزون عن تكريس انفسهم لمهمات مفيدة اجتماعياً وعن اعداد انفسهم لتحقيق السعادة الشخصية، لكن صدمتهم امام مشاهد الدم المروعة ليست هي التي خلقت رد الفعل هذا لقد كانوا، بالاحرى عاجزين عن اعتبار الحياة في العقد الثاني من القرن العشرين شيئاً طبيعياً.
من المعروف ان قصص همنغواي عن الجيل الضائع نشأت عن ظروف تاريخية وجغرافية اكثر ملاءمة للابداع الفني, فقد قرر همنغواي ان يصل في اوائل العشرينات الى باريس التي كانت ضاجة بالنشاط الفني خلال السنوات التي اعقبت الحرب العالمية الاولى, كان هناك جيمس جويس و(يوليسيس) التي منعت في الولايات المتحدة, وكانت هناك غيرترود شتاين تفصح عن نظرياتها حول الكتابة في غاليري كان يلتقي فيه كبار فناني الحداثة: سيزان وبيكاسو، ماتيس.
وكان هناك ايضا ازرا باوند وربما كان الشيء الأهم هو انه كانت هناك باريس المفعمة بالثقافة الفنية.
لم يكن الجيل الضائع جيلاً من الناس الذين فقدوا طريقهم في الحياة, كان جيلاً عاجزاً عن ترويض نفسه على الأوهام المتفائلة بالرفاهية, واولئك الناس الذين شهدوا الحرب، لم يشهدوا حدثاً دموياً معزولاً لقد شهدوا قانون ومعيار المجتمع القائم.
فمن بالتالي لم يستطع التكيف مع الواقع التاريخي: الرجال الذين نضحوا في الخنادق ام اولئك الذين عودوا انفسهم على دخان الاستقرار والمشاريع التجارية المخدر؟ هذه هي الفكرة الرئيسية في اعمال همنغواي في فترة ما بعد الحرب, فقد رأى الكاتب منذ البداية ان التفاؤل كان وهماً لكن كيف نشأت مثل هذه الأوهام المتفائلة وما الذي جعلها ممكنة؟.
ربما لم يكن لدى ملايين من الناس اية فكرة عن معنى الحرب او ربما كانوا محكومين بذلك الشغف بالحياة الذي يرغم الانسان على ان يبدأ من جديد دائماً، متجاهلاً خساراته وهزائمه.
يرى الروائي منبع التفاؤل الساذج لا في تجاهل الحرب، وانما في الموقف السطحي منها، ذلك ان غالبية المدنيين لم يجربوا الأزمات والهزائم مثلما جربها الجنود.
انها لمفارقة سايكولوجية معروفة ان خطراً محدوداً يمكن ان يجعل من الانسان جباناً، في حين ان تجربة الخطر الشامل تخلق حلاً جديداً, فالانسان الذي بقي على قيد الحياة كان ذلك الانسان الذي جرب الحرب كهذيان كابوس، وهو لا يكشف عن انهيار المجتمع وانما العجز عن الدفاع الشخصي، وقابلية السقوط بين الأعداء, فالحرب تجربة اثبتت له تفاهته وموقعه الوضيع، وقد حاول بالطبع، ان يمحو ذلك من وعيه محاولة عصابية لمحو كل آثار اخفاق الماضي, ولم يعتقد همنغواي ان استعداد البلدان المتحاربة لنسيان الحروب هو طريقة سليمة للتغلب على محن الماضي فمثل هذا شكل مرضي للنسيان وفعل لا مسؤول تمارسه الذاكرة ناتج عن الحاجة الى النسيان والحلم، وتجنب المسؤولية عن الذات.
ان تفاؤل العشرينات ينبغي ان لا يخلط بحب ساذج للحياة, فالأول اساسه الخوف واليأس والافلاس الروحي والاعجاب بالذات من جانب مجتمع يحاول ألا يفكر بماضيه المخزي، ويغطي عاره بقناع الاهتمامات الروتينية, وبالنسبة لهذا المجتمع يصبح كل شيء جزءاً من وعي تاريخي مخدر, ففي السابق كان هناك نوع من التخدير الروحي والاكاذيب المواسية اما الآن فكل شيء يمكن ان يلائم هذه الغاية: الدعاية الاقتصادية، الاعلانات عن اشكال جديدة من الحكم، المخدرات، الاثارات الحسية، الرشوات وكانت هذه افضل الطرق لتغذية احلام اليقظة العصابية الواسعة النطاق.
في عام 1926 صدرت (الشمس تشرق ايضاً - فيستا) رواية ذات مغزى فلسفي مدهش, وفجأة تدفق تيار منعش باتجاه الثقافة الغربية ما بعد الحرب، المتأرجحة بين الغرور المبتذل والعدمية، واليأس, وكان ممثل هذه الفلسفة جندي حرب مصاباً باعاقة، وهو الممثل الروحي النموذجي لالجيل الضائع , وكانت هذه الرواية رداً على المخازي الرسمية المحافظة التي تتهم المحاربين بالخواء والقسوة وانعدام الذوق في الحياة, ويظهر همنغواي انه بينما كان المحاربون قادرين على الافلات من الفقر او عار قبول الصدقات الشحيحة فانهم يبقون الاشخاص الوحيدين المحبين للحياة والذين كان بامكانهم مقاومة اغراءات التسكين والتخدير, وانه لأمر بليغ الدلالة ان ابطال الرواية لا يجربون الثمل بالمهنة والعمل الذي يميز المجتمع في عشرينات هذا القرن، ولا ينخرطون في مطاردة الحظ، انهم اناس بارعون، موهوبون، ويفهمون تماما معنى شعار النجاح من خلال العمل .
ومثل الجنود المجازين لا يضم ابطال (الشمس تشرق ايضاً) انفسهم الى تلك المجموعات التي ينتمون اليها بمقتضى التزامات خدمتهم في زمن السلم, فما يوحدهم ذاكرة الحرب المشتركة، بل اكثر من ذلك، وجود الحرب الصامت في كل حديث وكل فكرة، وهم مشغولون بنفس الاهتمامات التي تشغل الجنود المجازين عادة: كيف يقضون الوقت.
ان أبطال الشمس تشرق أيضاً الذين تجمعهم صداقة اللقاءات الحميمة يشعرون بحدة اكبر بعزلتهم عن بقية العالم، وعن ماضيهم الذي يربطهم سوية، ويبقى معهم كعلامة مميزة, ويحس بطل الرواية جاك بارنز بذلك بحدة اكبر من الجميع، اذ يجرب في لحظات معينة قول الافكار التي لا توصف والعودة الى الاسئلة التي القى عليها النشاط اليومي ظله، وفي هذه اللحظات يجد جاك الصيغ التي تعبر عن وجوده بالذات حيث يشكل الموقف الأخلاقي التلقائي اساس المواقف الاخرى ازاء الواقع وهو في بساطته المطلقة لا يحتاج الى دليل، ويعتمد على شهادة الضمير المباشرة على زمن الصحو الوجودي ولحظة اليقظة التي تكثف الوعي.
لقد أنسن همنغواي ازدواجية شخصية جاك بارنز بخلق رجل يتحمل جراح الحرب بطريقة شخصية عميقة، لكنه يربط خيبة امله بالقيم الامريكية التقليدية للعمل الشاق والتعويض العاجل، وانه لمن التبسيط المفرط ان ننظر الى جاك باعتباره ممثلاً عنيداً لراديكالية الجيل الضائع، ذلك انه يكشف عن الكثير من قيم الغرب الاوسط في الولايات المتحدة التي يسخر منها احياناً، انه يعمل بدأب ويتخذ موقفاً جدياً من مهنته ويحاول ان يكون عادلاً في تعامله مع الناس الآخرين، ومع ذلك يستمتع بالسخرية من قيم الطبقة الوسطى الامريكية, وان ملكته العقلية هي التي تضيء قبل كل شيء، حساسية معايير تقييم شخصيات واحداث الرواية, ولكن لفهم معنى ما يرويه من الضروري ان نفهم السياق الايدولوجي الذي يروي من خلاله.
رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
المتابعة
منوعــات
عزيزتي
الرياضية
تحقيقات
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved