ما أكثر الكتب التي تخرجها المطابع، ولكن النافع والمفيد منها هو ما يجب الاهتمام به والعناية بما وراء سطوره، والكتاب الذي بين ايدينا قديم في اهميته جديد في موضوعه، جدير بأن يعتني به كل مهتم بتاريخ المملكة في عهدها الجديد الذي دخل المائة الثانية، بفضل الله، ثم بفضل جهود الملك عبد العزيز -رحمه الله-، في مسيرته لتوحيد البلاد، والقضاء على الفرقة والانقسامات القبلية، ثم سار على هذا بنوه من بعده خطوة خطوة في ألفة وتلاحم.
وقد لاقى -رحمه الله- صعاباً وعقبات، وتصدى لها بحزم وعزم، وأعانه الله على تخطي العقبات، وتذليل الصعاب، وكان أول صوت خارج الحدود يقف مع الملك عبد العزيز في خندق واحد، هم أهل الحديث في الهند، لأن الغاية واحدة والعقيدة السلفية المستمدة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم تجمعهما: هدفاً وغاية.
وفي هذا الكتاب الذي نسير مع القارىء فيه خطوات، وعنوانه: علماء أهل الحديث في الهند وموقفهم من دعوة الامام محمد بن عبد الوهاب، والدولة السعودية، والذي يبلغ في صفحاته 104 من الحجم الصغير، يحرص المؤلف: الشيخ ابو المكرم بن عبد الجليل، بأن يسلط فيه الضوء على صدق اهل الحديث في دفاعهم عن الدعوة السلفية، التي احياها في نجد والجزيرة الامامان محمد بن سعود ومحمد بن عبد الوهاب -رحمهما الله- ابتداء من عام 1157ه واهتمامهما برد الأكاذيب والأباطيل التي شيعها الأعداء ضد هذه الدعوة وقادتها.
وقد كان لهذه الدعوة التي حملت لواءها الدولة السعودية في ادوارها الثلاثة التي تخطت ال263 عاماً مكانة لدى المسلمين عموماً، بأن هذا في الذكرى المئوية، لتجديد عهدها في الدور الثالث، على يد الملك عبد العزيز رحمه الله، حيث استهل عهده الميمون بدخول الرياض 5 شوال عام 1319ه, بيسر وسهولة، واستقبلته القلوب المحبة لهذه الدولة لما عرفت به في الدورين السابقين من تطبيق لشرع الله، وتنقية العقيدة مما ادخل عليها واهتمام بتطهير الاسلام من البدع والمنكرات وحب للعدل ووفاء للشعب والرقي بمستواه.
لقد حرص مؤلف الكتاب على ان يعكس الانطباع، بين الملك عبد العزيز وعلماء اهل الحديث في الهند بنماذج عملية وقولية وهي وثائق استقاها من مصادرها فكان في هذا مناصرة للحق واهتمام بتصحيح عقائد المسلمين الذي هو هاجس قوي عند الملك عبد العزيز، ولصدق نيته فقد هيأ الله له اسباب ذلك أخذا من قوله تعالى ومن يتق الله يجعل له مخرجاً، ويرزقه من حيث لا يحتسب ]الطلاق 2 - 3[ وقوله سبحانه: واتقوا الله واعلموا ان الله مع المتقين ]البقرة 194[ فكان رجل الدعوة في هذا الزمان الشجاع بقوله وعمله، وكان الموسع لدائرتها المهتم بترسيخها في كل مكان، فقد جاء في مقدمة الناشر: صاحب دار الكتاب والسنة التي مقرها لندن: وبما ان الملك عبد العزيز يعتبر بلا شك مؤيداً اساسياً للدعوة بعد الدولة السعودية الاولى، واليه يرجع الفضل - بعد الله تعالى - في نشر هذه الدعوة على نطاق أوسع فكان - رحمه الله - الهدف الأول لانتقاد اعداء الدعوة من المبتدعين والخرافيين والمغرضين في شبه القارة الهندية وهذا هو السر في كثرة الكتابات المليئة بالطعن والافتراء عليه، وعلى اتباع الدعوة الآخرين، التي جعلت لزاماً على أهل الحديث أن يقوموا برد تلك الافتراءات والأقاويل المكذوبة، وان يبذلوا قصارى جهودهم لبيان حقيقة الدعوة والدفاع عنها، وعن الدولة السعودية القائمة بالدعوة,, وهذا هو موضوع كتابنا الذي نقدمه للقارىء,, تأييداً للجهود التي بذلها الملك عبد العزيز في اقامة دولة التوحيد في جزيرة العرب ونقدمه الى الشعب السعودي خاصة بمناسبة مرور مائة عام على توحيد المملكة العربية السعودية ]706[.
وعن علاقة أهل الحديث بالملك عبد العزيز، وبدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب يقول: وما كان هذا الارتباط في العقيدة والدين فحسب من جانب واحد وانما كان لمسؤولي الدولة ولاتباع الشيخ محمد اهتمام كبير بجماعة اهل الحديث في شؤون دينهم ودنياهم، يدل على ذلك الوثائق والرسائل التي دارت بين الملك عبد العزيز ومسؤولي جمعية اهل الحديث التي حفظتها في اوراقها صحيفة أهل حديث الاسبوعية الصادرة في أمرتسر، وجريدة اخبار محمدي نصف الشهرية الصادرة في نيودلهي,, ]27[.
ثم ذكر من الرسائل التي بعثها الملك عبد العزيز الى اعيان اهل الحديث، ومنها ما كتبه الى الحاج محمد الدين الدهلوي قائلاً: شفقة اخواننا اهل الحديث، هذا مما لا شك فيه، وفقنا الله واياهم لما فيه خير الدين والدنيا، والثبات على الحق ونصر اهله والرجاء ابلاغهم ازكى تحياتنا ]28[.
كما ذكر رسالة كتبها رحمه الله الى كافة اهل الحديث بالهند لما سمع عن خلاف بين أعيانهم، يوصيهم ويدعوهم لرفع الخلاف من بينهم، وتوحيد كلمتهم نشرت في صحيفة اهل حديث 28 ديسمبر 1931م برئاسة الشيخ ثناء الله الأمر تسري، مؤسس جمعية أهل الحديث لعموم الهند المتوفى في عام 1367ه وهذا نصها: من عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود الى كافة اخواننا أهل الحديث، حفظهم الله، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: فإني احمد الله اليكم الذي لا اله الا هو واصلي واسلم على خير انبيائه واسأله تعالى لنا ولكم التوفيق لما يحبه ويرضاه.
تعلمون حفظكم الله ان التواصي بالحق والصبر عليه، من خصائص المؤمنين، وتعلمون ان الله سبحانه وصف المؤمنين بأنهم رحماء بينهم، وان حرصنا على جمع كلمتكم لاعلاء شأن التوحيد في سائر الآفاق هو الذي يدعونا للكتابة لكم، وانه ليؤلمنا ان نرى في جماعتكم اي خور او ضعف، كما انه يؤلمنا ان يصيبكم اي اذى بأي سبب من الأسباب، وقد رأينا من تتبع اخباركم، ان غيركم من الفرق جمعوا كلمتهم، ونظموا صفوفهم للذود عن مصالحهم، وانتم عير مبالين في جمع كلمتكم، لحفظ شأن جماعتكم، لذا أدعوكم للم شمل جماعتكم، وأدعو قادة الرأي منكم للاجتماع، والعمل لما فيه نشر التوحيد والمثابرة على العمل في هذا السبيل، الذي يعظم الله فيه الأجر ليكون بذلك الحسنى من صلاح الدنيا والدين، وان اجتماع كلمة الناس وتفرق كلمتكم فيه الوهن لصفوفكم والحط من مقام جماعتكم، وهذا ما نرجو ألا يكون بينكم، واسأل الله لكم التوفيق في كل ما يعلي شأنه ويرضي وجهه الكريم ]29 - 30، كما جاءت في الغلاف الخارجي للكتاب ايضاً[.
وأوضح أثر هذه الرسالة بأن قام الأمين العام لجمعية اهل الحديث لعموم الهند الشيخ ثناء الله الأمرتسري بعقد مؤتمر كبير في دلهي، حضره الكثير من العلماء وأخذوا هذا المرسوم بغاية الاحترام والتقدير، وبناء عليه اتفقوا على انشاء جمعيات محلية لعموم اصقاع الهند، والحاقها بجمعية اهل الحديث لعموم الهند بدلهي.
ثم بدأ من ص 31 في الباب الثاني: يذكر موقف علماء أهل الحديث، من دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب قبل قيام الملك عبد العزيز، وقد بدأ بالشيخ: النواب صديق حسن خان البوفالي المتوفى عام 1307ه الذي تتلمذ على يديه مجموعة من علماء نجد الذين وصلوا الهند رغبة في العلم حيث نراه يورد دفاعه عن الشيخ محمد ودعوته بمثل هذا القول: فظهر مما ذكرنا بطلان ما نسبه ابن عابدين الى الشيخ محمد من انه كان يعتبر مَن عداه من الناس مشركين، ويحصر الاسلام في مذهبه، كما ظهر ايضا ان عقائد الشيخ كلها توافق عقائد اهل السنة والجماعة وان ما نسب اليه من الأمور المستهجنة والعقائد الباطلة، كلها كذب محض، وافتراء عليه وقد كانت هذه التهم والأباطيل تنسج حوله في حياته، وكان دائماً ينكرها ويعلن براءته منها والحاصل: ان اعتبار الشيخ محدثاً لدين جديد او لمذهب باطل وعد كل من خالف الشرك والبدعة مقلداً له بعيد عن الانصاف وجادة الصواب ]40[.
- وفي الباب الثالث من ص 63 يذكر موقف علماء اهل الحديث المعاصرين للملك عبد العزيز رحمه الله مع بيان جزء من اعمالهم التي قاموا بها، تأييداً للجهود التي بذلها الملك عبد العزيز - غفر الله له - في اقامة دولة التوحيد ودفاعاً عن دعوة الشيخ محمد ورداً على الافتراءات والتهم التي نسجت في بلاد الهند ضد الدعوة ودولة التوحيد وذكر منهم الشيخ محمد يونس الشيرواني المولود عام 1283ه وكان احد اثرياء مدينة دتاولي بالهند، فقد قام الشيخ الشيرواني بدور بارز في اخماد حركة تأجيل الحج في عهد الملك عبد العزيز - رحمه الله - تلك الحركة التي قام بها الشقيقان شوكت علي ومحمد علي وغيرهما من الزعماء السياسيين من منبر حركة الخلافة، والتي كانت تدعو الى تعطيل فريضة الحج وتأجيلها حتى ينتهي دور آل سعود على الحجاز، ومن خلال هذه الحركة المعارضة للاسلام فقد كانوا حرضوا المسلمين على تأجيل فريضة الحج واستخدموا لذلك انواعاً من الوسائل والدعايات.
وكان الشيخ محمد يونس الشيرواني من اوائل الذين عزموا على السفر للحج وزيارة بيت الله الحرام، واعلن ذلك في صحيفة زميندار في لاهور، واهل حديث في امرتسر، رداً على الحاقدين على الدولة السعودية الذين قرروا تأجيل فريضة الحج حتى ينتهي دور الملك عبد العزيز وبالتالي دور من يسمونهم الوهابيين على الحجاز ]67 - 68[.
- كما ذكر دور الشيخ: محمد بن ابراهيم الجوناكري المتوفى عام 1942م في رسائله العديدة التي يدافع بها عن الملك عبد العزيز ويبين حالة الحجاز قبله، وما وصلت اليه من امن ورخاء بعدما جاء عهده الميمون، ويدافع عن عقائد اهل نجد حيث يقول في رسالة: انصار محمدي: وفرح العالم الاسلامي بوصول أهل نجد الى الحجاز بقيادة الملك عبد العزيز، وذكر مآخذ أهل الأهواء على المجاهدين النجديين ودفاع اهل نجد عن انفسهم وعقيدتهم، وبيان عقيدة اهل نجد ومذهبهم في الفروع والاحكام، ورأيهم في التمسك بالسنة وذكر براءتهم مما ألصق بهم من التهم, وذكر حالة نجد الدينية بعد تولي الملك عبد العزيز آل سعود الحكم والدعوة ]74 - 75[ ففي رسالته: قبيلة محمدي يشرح حديث: هناك الزلازل والفتن وبها يطلع قرن الشيطان وبين المعنى الصحيح لنجد الوارد في الحديث ]75[، كما بينه قبله النواب صديق حسن خان المتوفى عام 1307ه بعدة روايات: بأن المراد بنجد هو نجد العراق، وتطبيقه على محمد بن عبد الوهاب خطأ فاحش ]50[.
- ولحرص الملك عبد العزيز على توحيد صف أهل الحديث في عموم الهند حتى تقوى مكانتهم فانه لما بلغه الخلاف بين الشيخ ثناء الله الأمرتسري وبين الأسرة الغزنوية، حرص رحمه الله على ازالة هذا الخلاف والمصالحة بينهم، حيث كتب عدة رسائل وكتابات بينه وبين علماء اهل الحديث بالهند في هذا الشأن، فكان مما كتبه الملك رحمه الله الى علماء اهل الحديث ما كتبه الشيخ ثناء الله الأمرتسري في 10 ذي القعدة عام 1345ه رداً على مكتوب له في 18 شوال العام 1345ه,, وهذا نصه: بسم الله الرحمن الرحيم عدد 19/1، من عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل الى جناب المكرم الأفخم الشيخ ثناء الله ابو الوفاء سلمه الله تعالى,, السلام عليكم ورحمة الله وبركاته,, وعن أخبار طرفنا فهي من فضل الله على غاية ما يرام فهذا ولا شك ان مقامكم عندنا عزيز واما مسألة النزاع الذي صار بينكم وبين الغزنوية، فالحقيقة انها كثيراً كدرتني ولا والله اطلعت عليها الا بعدما طبعت فليثبت عندكم ان مقامكم عندنا عزيز، وان اجتهادكم عظيم في الحجاز وعندكم، ونرجو ان يوفقنا الله واياكم لما فيه الخير هذا ما لزم بيانه ]87 - 88[ وقد نشرت الرسالة كاملة في صحيفة أهل حديث امرتسر عدد 11 ديسمبر 1936م.
وقد تم اجتماعهم في مجلس الملك عبد العزيز وتم الصلح بينهم وانهى رحمه الله بحكمته وبعد نظره ما بينهم من خلاف وهذا نص المصالحة: العنوان: اصلاح الاخوان على يد السلطان بسم الله الرحمن الرحيم: في المجلس الشريف المعقود على يد الامام عبد العزيز بن سعود، وقد حضر الشيخ مولوي ثناء الله وحضر معه الشيخ عبد الواحد الغزنوي فطلب كل منهما الى الامام ايده الله ان ينظر فيما كان بينهما من النزاع بحضرة جماعة من العلماء، وقد حصل الاتفاق بعد النظر فيما قالوه على ان الشيخ ثناء الله قد رجع عما كان كتبه في تفسيره من تأويل الاستواء، وما في معنى ذلك من آيات الصفات الذي تبع فيه المتكلمين واتبع ما قاله السلف في هذا الباب، واقر بأنه هو الحق بلا ريب والتزم ان يكتب ذلك في تفسيره، وأما الشيخ عبد الواحد الغزنوي ومن معه ممن كان قد تكلم في حق الشيخ ثناء الله مما يوجب الطعن عليه، فانهم يرجعون عنه وان يحرقوا الأربعين التي كتبوها في حقه ورجع كل منهما الى تجديد عقد الأخوة واجتناب ما ينافي ذلك,, حصل القرار على ذلك، وتبايعوا عليه على يد الامام والعلماء الموقعين عليه والحمد لله على التوفيق، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم, ثم اورد الصورة الخطية للمصالحة ]85 - 86[.
- والشيخ محمد النبارسي المتوفى عام 1369ه كان له دور فعال في اخماد حركة تأجيل الحج التي تبناها الاخوان شوكت علي محمد علي من منبر الخلافة، بعد وصول الملك عبد العزيز الى الحرمين الشريفين وبسط سلطانه على الحجاز فكانت خطب الشيخ النبارسي في الجمعة وفي المؤتمرات والاجتماعات العامة التي عقدت في نبارس وغيرها من مدن شمال الهند ذات اثر فعال وطيب في خروج المسلمين وفوداً الى مكة لاداء فريضة الحج وافشال حركة الصادين عن سبيل الله حقداً وكراهية لدولة الموحدين ]ص 91 - 92[.
- وعن رابطة علماء أهل الحديث لعموم الهند مع الملك عبد العزيز يورد في سيرة الشيخ محمد اسماعيل الغزنوي المتوفى عام 1960م ان له علاقة طيبة بالملك عبد العزيز وان الدولة تحترمه وتقدره وكان يحج بيت الله كل عام ويلتقي بمشايخ نجد والحجاز، والف في الثناء على سيرة الملك واصلاحاته 4 رسائل ]93 - 96[.
- وفي حديثه عن الشيخ عبد الله الغزنوي المتوفى عام 1298ه انه ربى اولاده واحفاده على كتب السلف ولذا توطدت علاقات طيبة بين اسرة الغزنوي وبين اتباع الدعوة والقائمين على الدولة السعودية، وكان من علماء هذه الأسرة ولداه عبد الرحيم وعبد الواحد اللذان كانا يشتغلان بالتجارة وفي سفرهما الى الكويت اجتمعا بالامام عبد الرحمن وابنه الملك عبد العزيز فتأثروا ببعض وتوطدت العلاقات الدينية والعقدية بينهم، وحينما فتح الملك عبد العزيز الرياض وجه اليهما الدعوة للاقامة عنده فجاءا للرياض وأقاما خمس سنوات في نجد ثم اتجهت الاسرة الى نشر كتب السلف ]55 - 56[ والكتاب مع صغر حجمه يحتوي معلومات مهمة لم يسبق نشرها باللغة العربية ويستحق البسط اكثر.
المأمون ورجل غريب:جاء في كتاب نصيحة الملوك للغزالي: ان المأمون كان أعلم خلفاء بني العباس في جميع العلوم، وكان له في كل اسبوع يومان يجلس فيهما للمناظرة مع الفقهاء والعلماء والمتكلمين والمناظرين، فدخل بعض الايام مجلسه رجل غريب عليه ثياب رثة، فجلس في اواخر الناس، وقعد من وراء الفقهاء، في مكان مجهول، فلما ابتدأوا في المسائل - وكان رسمهم انهم يديرون المسألة على جماعة اهل المجلس، وكان من عرف زيادة لطيفة او نكتة غريبة ذكرها.
وقد ذكرت مسألة الى ان وصلت الى ذلك الرجل الغريب، فأجاب عنها بجواب احسن من اجوبة الفقهاء كلهم، فاستحسنه المأمون، فأمر ان يرفع من ذلك المكان الى موضع أعلى منه، فلما وصلت المسألة الثانية اليه: اجاب بجواب احسن من جوابه الأول، فأمر المأمون ان يرفع إلى أعلى من تلك المنزلة، فلما وصلت المسألة الثالثة أجاب بجواب أحسن وأصوب من الجوابين الاولين، فأمر المأمون ان يجلس قريباً منه، فلما انقضت المناظرة احضروا الماء وغسلوا ايديهم وأحضروا الطعام فأكلوا ثم نهض الفقهاء وخرجوا فقرب المأمون ذلك الرجل وأدناه وطيب قلبه، ووعده الاحسان اليه، والانعام عليه ثم هيأ مجلس الشراب ونضده، وحضر الندماء والملاح ودارت الراح، فلما وصل الدور الى ذلك الرجل وقف قائماً على قدميه وقال: إن أذن أمير المؤمنين تكلمت كلمة واحدة,, فقال: قل ما تشاء.
فقال: قد علم الرأي العالي زاده الله تعالى علواً ان هذا العبد كان اليوم في المجلس الشريف من مجاهيل الناس ووصعاء الجلاس وان امير المؤمنين بقدر يسير من العقل الذي ابداه جعله معروفاً وأعلى درجته وبلغ به من الغاية التي لم تسم اليها همته، والآن تريد ان تفرق بينه وبين ذلك القدر اليسير من العقل، الذي أعزه الله بعد الذلة وكثره بعد القلة، وحاشا ان يحسده أمير المؤمنين على هذا القدر الذي معه من العقل والنباهة والفضل لأن العبد اذا شرب الشراب باعد عنه عقله، وقرب منه جهله وسلب أدبه، فعاد الى تلك الدرجة الحقيرة كما كان ذليلاً ورجع الى أعين الناس حقيراً مجهولاً، فإن رأى أمير المؤمنين ألا يسلب هذه الجوهرة منه بفضله وكرمه وسيادته وحسن شيمته فعل ذلك متطولاً.
فلما سمع المأمون منه هذا الكلام مدحه وشكره وأجلّه في مرتبته ووقره وأمر له بمائة الف درهم وحمله على فرس وأعطاه ثياباً حتى صار بعد ذلك ارفع من الفقهاء درجة ومنزلة ]نصيحة الملوك للغزالي ص 110[.
|