يتفق الاقتصاديون على ان مستقبل الحياة الاقتصادية الدولية مرتبط بالصين بعد خروجها من قوقعتها الشيوعية وانفتاحها التجاري على العالم، عبر منافذ شنغاهاي، وهونج كونج بعد رجوعها الى الصين، وغيرهما من منافذ اخرى.
اخذت بهذه النصيحة الاقتصادية الدول المختلفة فأرسلت رسلها الى بكين لتقيم معها روابط تجارية، وسارعت الشركات الكبرى الى الدخول في الصين بالطول والعرض لتفرض لنفسها موضعا فوق الارض الصينية حتى تشارك في اقتصاديات الصين الواعدة المنفردة او حتى اذا اصبحت جزءاً من منظومة التجارة الدولية بانضمامها الى منظمة التجارة الدولية.
حكم هذا الفكر الاقتصادي وما ترتب عليه من اندفاع دولي الى الصين العدد الهائل لسكانها الذي يصل الى الف ومائتين وخمسين مليون انسان مما يجعلها سوقا ضخما على الرغم من تدني قدراته الشرائية وهذا يجعل السوق الصيني في حاجة يومية الى ثلاثة آلاف وسبعمائة وخمسين مليون قرص عيش (خبز) بمعدل ثلاثة اقراص عيش للفرد الواحد في ظل النظرية الاقتصادية التي تقرر زيادة استهلاك العيش في المجتمعات الفقيرة لعجزها عن توفير الغموس لنفسها.
ثبت بعد انفتاح الصين على العالم انها ليست سوقا ضخما فقط، وانما تقام بها قدرة انتاجية ايضا تتميز بالجودة العالية والثمن الرخيص بصورة لفتت نظر المستهلكين في اسواق العالم المختلفة بعد طرح المنتجات الصينية بها.
بعد هذا التسابق الدولي في اتجاه الصين لاحظت الجهات الاقتصادية المسؤولة في بكين ظاهرة انخفاض الاسعار بها حيث وصل الانخفاض خلال السنوات القليلة الماضية الى نسبة 4% وهي ظاهرة غريبة لا تنسجم مع زيادة الطلب العالمي على المنتجات الصينية التي قامت معها احتمالات زيادة في الاسعار تفقد الصين معها تميزها الاقتصادي بالاسعار الرخيصة.
توصلت الدراسات المكثفة لهذه الظاهرة الاقتصادية الغريبة انخفاض الاسعار في ظل زيادة الطلب، الى اسبابها وهي احجام المواطن الصيني عن الشراء الذي خلخل بحجمه الكبير نتائج الطلب الدولي المتزايد على السلع الصناعية، فأصبح الطلب في مجمله بدور الانسان الصيني يتجه الى الانخفاض مما دفع بالسعر الى نفس الاتجاه الذي يسير عليه الطلب وهو الانخفاض.
اقلق هذا الانخفاض في الاسعار الحكومة الصينية لانها لا تنظر فقط الى زيادة معدلات صادراتها الى الاسواق العالمية تحت ظل السعر المنخفض وانما تشعر بالخوف من احجام الناس في الصين عن الشراء وتأثيره المضر بالعملية الانتاجية التي يقوم توزيع جل ما تنتجه في داخل السوق الصيني, يضاف الى ذلك ان امتناع المواطن الصيني عن الشراء سيدفع بالشركات الكبرى التي دخلت الصين الى الهجرة المعاكسة بالخروج من الصين بعد ان يتعذر عليها تصريف منتجاتها في داخل السوق الصيني الهائل مما يعيد الاوضاع الاقتصادية فيها الى القوقعة التي سادت في زمن التشدد الشيوعي لها.
يقول الاقتصاديون الصينيون ان هذا الفساد الاقتصادي في بلادنا راجع الى تبديل جلد اقتصاد اجنبي بجلد اقتصادنا الوطني، وصل الينا في غفلة من الزمن، ورفض الجسم الصيني التطبع مع الجلد الاقتصادي الدولي الذي لبسه عنوة بدون دراسة متأنية نتيجة لاندفاعنا مع التيارات الدولية التي هبت علينا واغرتنا بالتطور الاقتصادي السريع الذي يضعنا في صف واحد مع الدول الصناعية الكبرى,
ويواصل الاقتصاديون الصينيون تحليلاتهم قائلين بأننا من الدول التي تتمتع بقدرة صناعية متميزة ولكن على الطريقة الصينية، فلما خرجنا عن طريقنا واخذنا بنظام الخصخصة موضة هذا الزمان الاقتصادية وقعت الكارثة علينا، وهذا يفرض الاسراع بالعودة الى ما كنا عليه من نظام انتاجي والتخلص الفوري من التقليد الاعمى لما هو قائم عند غيرنا، لأن ما ينجح عندهم لا ينجح بالضرورة عندنا.
الحوار الدائر في الصين اليوم حول ازمة الصين الاقتصادية استدعى مشاركة المثقفين فيه الذين قرروا بأن للصين ثقافة خاصة بها دفعتهم الى عدم الاخذ بخطوط الموضة في ملابسهم لأن الملبس الخاضع لموضة يتطلب تكاليف باهظة مهدرة نتيجة لتخلص الناس من ملابسهم مع كل ظهور لخطوط موضة جديدة، فالتزمنا بسبب كثرة عددنا الذي يزيد من حجم اهدارنا لاموالنا على الملابس، بارتداء اليونيفورم الزي الموحد للشعب كله من رجال ونساء، فلماذا ننساق مع الموضة الاقتصادية الخصخصة التي ستكون سببا في اهدار اموالنا.
من المعروف ان نسبة تزيد على 60% من القوى العاملة في الصين موظفة في القطاع العام الحكومي، وادى التحول من القطاع العام الحكومي الى القطاع الخاص الشركات الذي بدأ بقرار مؤتمر الحزب الصادر في سنة 1997م الى كارثة الاستغناء عن اعداد كبيرة من هذه القوى العاملة، فأصبحت هائمة على وجهها دون دخل منتظم فانعدمت تماما قدرتها على الشراء لما تحتاج اليه من ضروريات يومية حياتية.
صحيح ان الاستمرار في الانتاج من خلال القطاع الخاص قد تربت فيه العمالة الزائدة التي يطلق عليها اقتصاديا اسم البطالة المقنعة ولكن من الصحيح ايضا ان هذه البطالة المقنعة بكل ادرانها على العملية الانتاجية تفضل كثيرا طرد الناس من أعمالهم بكل ما يترتب على ذلك من افساد للشارع الصيني الذي يزداد في ظلاله احتمالات ارتفاع نسبة الجريمة بصورة خطيرة تخلخل الامن في البلاد، لأن الإنسان الذي لا يستطيع أن يحصل على قوت يومه بالطرق العادية المشروعة سيلجأ الى العنف بكل صوره ليشبع حاجاته المختلفة من الطعام والملبس والمأوى.
هذه الحقيقة جعلت الحكومة الصينية تصدر قرارا بوقف الخصخصة فورا ونفذ هذا القرار من يوم 1 يوليو 1999م وشكلت لجنة عليا لدراسة وضع القطاعات الانتاجية التي تحولت من القطاع العام الحكومي الى القطاع الخاص الشركات بتوجه رسمي يحدد سلوك طريقين لا ثالث لهما اما ان تعيد هذه الشركات العمال المطرودين منها بأثر رجعي بمعنى صرف كل مستحقاتهم المقطوعة منذ يوم طردهم حتى عودتهم، واما الرجوع عن قرار الحزب الصادر في عام 1997م واعادة كل العمليات الانتاجية الى القطاع العام الحكومي الذي تعهد بصرف كل المستحقات المقطوعة من يوم الطرد حتى يوم العودة الى العمل.
بعض الاقتصاديين في الصين يعترضون على الاثر الرجعي للقرار الصادر، لأنه يكلف الشركات أو الحكومة مبالغ طائلة غير قادرين على تحملها، وجاهة هذا الاعتراض جعل الحكومة تتراجع جزئيا عن قرارها وحصرت مطالباتها في اعادة العمالة المطرودة الى اعمالها دون ان تتحمل الحكومة او الشركات التعويضات للعمال المطرودين عن الفترة التي قضوها خارج إطار العمل الوظيفي.
مشكلة الصين الحقيقية هي البطالة لذلك جاء القرار الحكومي الى ضرورة اعادة تشغيل الناس في الوظائف التي كانوا يقومون بها، دون ادنى مراعاة للبطالة المقنعة ونتائجها ويبررون ذلك بأنهم عاشوا العمر كله مع هذه البطالة المقنعة دون ان تصيب الاقتصاد الصيني بالأذى بينما ادى التخلص من العمالة الزائدة في العملية الانتاجية الى أضرار بالغة بالاقتصاد الصيني الى الدرجة التي جعلته يحتضر بالانتاج الزائد الذي لا يجد له مشتريا في داخل السوق الصيني وجعلت النظام يهتز بالغياب الامني الناتج عن لجوء الناس الى العنف لإشباع حاجاتهم من السلع والخدمات بالقوة عن طريق السلب والنهب.
من جانب آخر تجد الاقتصاديين من خارج الصين يبررون ازمة الصين الاقتصادية بتدني قيمة عملات دول جنوب شرق آسيا مع بقاء عملة الصين ثابتة عند قيمتها مع العملات الاخرى وترتب على ذلك زيادة صادرات دول جنوب شرق آسيا ونقصان صادرات الصين بسبب تمتع تلك الدول بالميزة التنافسية في السوق العالمي على الصين.
هذا قول باطل لأن الصين حتى الآن لا تواجه مشكلة اقتصادية في علاقاتها التجارية الدولية، وتتركز المشكلة داخل سوقها الكبير الداخلي على ما تنتجه وعلى ما ينتجه غيرها من الشركات الوافدة الى الصين.
معالجة المشكلة الاقتصادية الداخلية في الصين بالتراجع عن الخصخصة اصطدمت بظاهرة جديدة تمثلت في تجميد العملية الانتاجية عند قدراتها الحالية، وهو ما يتعارض مع توجهات الاقتصاد الصيني الدولي فأصدرت الحكومة قرارا يقضي بتحديث الوسائل الانتاجية في مصانعها وفتحت بذلك بوابة الاستيراد للآلات الحديثة التي سترفع من جودة الانتاج.
هناك اعتراض اقتصادي صيني على هذا القرار الحكومي، لأن تحديث الآلة الانتاجية يعني احلال الحديد محل الانسان ومعنى ذلك زيادة معدلات البطالة المقنعة في داخل القطاعات الانتاجية العاملة تحت مظلة الحكومة القطاع العام او تحت مظلة الشركات القطاع الخاص، وحذر هؤلاء الاقتصاديون الحكومة من مغبة الاستيراد للآلات الحديثة على الانسان الصيني بكل ما يترتب على ذلك من ادران تضر باقتصاديات الوطن.
هذا التحذير الاقتصادي للحكومة جعلها تتخذ قرارا آخر يقضي بدمج الشركات الضعيفة الخاسرة في اعمالها في الشركات القوية الرابحة، وهو تصرف اقتصادي محفوف بكثير من المخاطر، لأن احتمالات نقل الضعف والخسارة الى اقتصاديات البلاد أكبر بكثير من احتمالات نقل القوة والربح اليها، ومع ذلك تقول الحكومة الصينية ليس امامنا حل آخر نلجأ اليه وعلينا ان نجربه لنرى مدى نجاحه من فشله.
تخوض الصين بهذا المنطق الاقتصادي العجيب معركة اقتصادية خطيرة يتعلق الوطن كله بنتائجها في ظل مخاطرة بالغة لأن احتمالات الفوز تكاد تكون معدومة واحتمالات الخسارة تكاد تكون مؤكدة.
يقول الاقتصاديون الصينيون المعارضون لقرار الحكومة بالتجربة الاقتصادية: من الصعب ان نتعامل مع اقتصاديات بلادنا بالصورة التي نتعامل بها مع مباريات كرة القدم التي نسعد بفوزنا فيها، ونتقبل هزيمتنا بها بروح رياضية، لأن الفوز والخسارة في لعبة الكرة لا يؤثران على مقومات الوطن الذي ننتمي اليه اما الفوز والخسارة من خلال التجارب الاقتصادية فالمخاطرة تكون عالية لأنها تمس الوطن كله وتؤثر على كل مواطنيه ولذلك نطالب بوقف المباراة الاقتصادية فورا لاننا لا نستطيع تحمل خسارتها,, لا يزال الحوار مفتوحا في الصين حتى الآن.
|