يرى صاحب (المنجد) أن وكب يكب وكبا على الأمر (تتخذ معنى) المواظبة وأن وكب الموكب (تعني) ركب مع القوم وسايرهم ووكب الطائر تهيأ للطيران، وعليه نستطيع ان نقتطف عدداً من المعاني (المنجدة) لمفهوم المواكبة التي تتراوح ما بين المواظبة والمسايرة والتهيؤ والموافقة وغيرها من الألفاظ التي تحمل بين طياتها أبعاداً زمنية تنبع من الماضي وتتطلع نحو المستقبل.
هل لاحظتم - والكلام هنا موجه الى متحدثي اللغة الانجليزية - كثرة استخدام وشيوع المفردة اللغوية )Post( - والتي تعني (ما بعد) - في الفكر الغربي وخصوصاً في المجتمع الأمريكي وبين اوساطه ونخبه الأكاديمية والعلمية (ما بعد الحرب العالمية الثانية، ما بعد الحداثة، ما بعد فيتنام، ما بعد نيكسون، ما بعد ريجان,,,؟!) هل تساءلتم عن مدلولات هذه (الما بعد) الزمانية والمكانية؟ ألا تشمون فيها رائحة (تعج!) بالتقدم والتغير والتبدل والنمو والانتقال من طور الى طور، وما هنالك من مصطلحات (مرحلية؟!) اليست ترجمة فعلية ونتاج ايجابي لروح المغامرة والتجربة والتخطيط والاستثمار في المستقبل والاستعداد له؟! ورغم ذلك البعد الاستشرافي المستقبلي لهذه الكلمة فانها حتماً تحمل بين طياتها (استشرافاً عكسياً) للماضي والاعتراف به وبانجازاته من خلال العزم والتصميم على تلافي أخطائه ومن ثم مواصلة المسيرة بمعطيات تناسب كل عصر ومستلزماته, انها - وأعني تلك المفردة اللغوية - حبلى بشجاعة متناهية: فمن في لدنه الشجاعة الأدبية والفعلية على اعلان موت حقبة تاريخية والاحتفال بمولد اخرى: اخرى تواصل المسيرة ولكن ليس بالضرورة بانتهاج نفس الطريق وان كانت سالكة (جزئياً) او باستخدام نفس الوسائل وان كان بها بقية من (الحياة) ايماناً بمبدأ لكل زمان دولة ورجال والذي يشير الى حقيقة ازلية مفادها ان تقادم الزمان لا يعني بالضرورة انتظار قدوم قادمه!.
ما دعاني الى كتابة تلك المقدمة (المتطفلة!) على فقه اللغة الاجتماعي تلك الأشواط التنموية الرائدة التي قطعتها بلادنا العزيزة في ظل خادم الحرمين الشريفين -اطال الله عمره- خدمة للاسلام والمسلمين، ومع ذلك ارى ان مواكبتنا لمتطلبات تلك المسيرة غالباً ما تكون مترددة او متأخرة الأمر الذي يفرض علينا ان نبحث عن السبل الكفيلة بضمان مواكبة حياتنا وسننها المتغيرة وامثلتي على ذلك كما يلي:
1 - مرحلة ما بعد دخول الانترنت: من المعلوم ان خدمة الانترنت حلت علينا ضيفاً (غريب الوجه واللسان!) والسؤال (المواكب) هو هل استعدينا لها من خلال اعداد ما تستلزمه من معدات تكنولوجية للمدارس والجامعات ومناهج تربوية تعتمد التحصين الذاتي المتوازن ديناً ودنيا لتقف في وجه الافرازات (الطبيعية) المتسللة من لدن العولمة وقريتها الكونية ولسانها العنكبوتي الأمر الذي يفرض علينا الاعتراف بأن منهج معرفتك بالشر حري ألا تقع به قد اصبح شرا لا بد منه.
2 - مرحلة ما بعد تبلور وظائف المدن:
من المعلوم ان للمدن والمناطق (تاريخياً) وظائف ومهنا تميزها عن غيرها تلك الوظائف تتجسد وتتأصل كلما زاد تطور المجتمع وتقدمه: والسؤال (المواكب) هو هل راعينا هذا الأمر وأعطينا (تعليمياً كل مدينة او منطقة تخصصها الوظيفي سواء كانت مدينة حدودية بحرية او حدودية برية، او قابعة بالوسط جغرافياً؟! تلك الوظيفة سوف تضمن استقرار وتقدم تلك المدن من خلال تجسيد وضمان تكاملها الاقتصادي والاجتماعي مع بعضها البعض في كافة انحاء بلادنا العزيزة, ولنا في الولايات المتحدة مثالاً حيث إن تخصصية التعليم في المدن او الولايات غالباً ما تعتمد على ما تحتويه هذه المدن والولايات من موارد طبيعية اقتصادية، ففي الجنوب حيث تتركز صناعة النفط تنتشر كليات هندسة النفط وفي الشرق الامريكي - نيويورك وما جاورها (معقل الرأسمالية) تشتهر كليات الادارة والاقتصاد وفي الشمال الغربي (ولايات واشنطون واريجون وايداهو) حيث الطبيعة والغابات تبرز كليات الزراعة والبيئة وفي كاليفورنيا حيث صناعة السينما والافلام تتجلى كليات الاعلام والاخراج السينمائي وهكذا دواليك, خذ مثلاً ضرورة انشاء معاهد تعنى بالشؤون السياحية في الاقليم الجنوبي وما يرتبط بالسياحة من سلوكيات سياحية ووعي مروري وخلافه، وكليات زراعية في جازان والقصيم والاحساء، وكليات صناعية تختص بشؤون النفط والتعدين في منطقة المدينة المنورة وحوطة بني تميم وكليات بيطرية تبحث في سبل تنمية الثروة الحيوانية في المنطقة الوسطى والشمالية.
3 - مرحلة ما بعد التوسع في التعليم النسائي:
من المعلوم ان التعليم النسائي خطا خطوات جبارة لا ينكرها الا جاحد, وها نحن نقف - وفي فترة زمنية قصيرة - على اعتاب الاكتفاء الذاتي في المدرسات للتعليم الثانوي وما دونه من مراحل: والسؤال (المواكب) هو هل هناك جوانب اخرى - بجانب التدريس - فرضتها معطيات التنمية وفي حاجة ماسة للعنصر النسائي الوطني؟!
الاجابة بالتأكيد نعم، الأمر الذي يحتم علينا اعادة صياغة تعليم المرأة (بل وتأنيثه!) تلك الصياغة الجديدة لا بد ان تأخذ في الاعتبار ليس فقط خصوصية المكان بل وحتميات الزمان, فمجالات الطب والتمريض والاقتصاد والاعلام وغيرها من مجالات حيوية لا تزال في حاجة ماسة لهذا العنصر الوطني، تلك الصياغة الجديدة لا بد ان تأخذ في الحسبان كذلك افساح الطريق للمرأة للمشاركة في التنمية (الشاملة) وذلك يتمثل في اعطائها دوراً اكبر في اتخاذ القرارات فيما يخص تعليمها وبرامجه واهدافه.
الدكتور فارس الغزي